-A +A
محمد الساعد
نشأت إسرائيل في بداية القرن الماضي على مجموعتين يهوديتين رئيسيتين؛ الأولى مكون عاش في أحضان الدولة العثمانية لمئات السنين خاصة في إقليم الشام (سوريا ولبنان، وايليا - فلسطين حالياً)، ومكون مهاجر وصل إلى المدن الفلسطينية منذ انهيار الدولة الأندلسية وتدفقهم على المشرق على دفعات، احتضنتهم الدولة العثمانية ومنحتهم الجنسية التي مكّنتهم من العيش كمواطنين عثمانيين في كل الأراضي التي أدارتها السلطنة، المكون الأخير بقي يتدفق إلى فلسطين حتى الأيام الأخيرة من حياة السلطنة التي انهارت تماماً العام 1923م.

هذا المكون اليهودي بكل تنوعه لم يحمل معه الوصايا اليهودية فقط، بل حمل معه طريقة التفكير الغربية التي تغاير تماماً طريقة التفكير الشرقية، ونجح في تطبيقها وهو في رأيي العامل الأهم في الصراع بين الطرفين.


بالطبع عزز ذلك المنهج التفكيري الهجرات والخبرات اليهودية من الغرب (عسكرية وسياسية) شاركت في الحرب العالمية الأولى والثانية مما منحها خبرات وضح أثرها على أرض المعارك وفي المناقشات السياسية في تلك الفترة، ويجب أن لا ننسى أن إنشاء المنظمة الصهيونية التي ضمت الآلاف من النخب الغربية اليهودية ساعدت على ذلك وخاصة بعدما حملت على عاتقها البحث عن وطن لليهود يجمع شتاتهم.

الهجرات القادمة من المانيا وبولندا وبريطانيا وروسيا شكّلت عقلاً جديداً على المنطقة – لم يكن موجوداً من قبل - يرى الأمور بعين مختلفة عن العين العربية (حرباً وسلاماً)، فاليهود الشرقيون على سبيل المثال كانوا في نهاية الأمر شرقيين يحملون نفس التفكير وينتج عنهم نفس المخرجات.

الاختلاف الهائل بين طريقتي التفكير وإدارة الصراع بدا جلياً في حرب 48 وحرب 67 واجتياح لبنان واتفاقات كامب ديفد وأوسلو، وحتى قبل ذلك خلال مفاوضات لوزان 1923م، ومقترحات التقسيم 1947م، التي رفضها الفلسطينيون لقصر النظر السياسي، فلا هم انتصروا في الحرب ولا هم الذين قبلوا التقسيم الذي كان سيمنحهم السيطرة على أكثر من 80 من فلسطين الحالية.

بالطبع انتقلت تلك النظرتان المتضادتان في كل مراحل الخلاف والصراع بين ضفتين مختلفتين؛ ضفة إسرائيلية جذورها الثقافية والعلمية والسياسية والاقتصادية في الغرب ويمنحها كل المدد المعنوي والسياسي ويشكّل لها عمقاً هائلاً، وبين ضفة شرقية ترى الأمور من خلال نظرتها الغارقة في الاستعجال والحدية وسياسة (يا أبيض يا أسود)، وهي التي لم تستوعب المتغيرات الدولية بعد سقوط العثمانيين والألمان، وبقيت تعيش على العسل المسكوب، وتتباكى على الأمجاد والانتصارات القديمة.

هاتان الطريقتان نراهما اليوم بوضوح إثر السابع من أكتوبر، بالرغم من مرور قرن تقريباً على هذا الصراع، فلا يزال التفكير الشرقي يرى أن مجرد بقاء حماس هو انتصار مع تكبد غزة مئة ألف قتيل وجريح ومشرد، ويرى أن إعلان الهزيمة عيب لا تتحمله نفسيته الشرقية، وطرف آخر استطاع إدارة الصراع بقضم الأراضي وتحقيق الانتصارات العسكرية يوماً بيوم، حتى وصل إلى الحدود المصرية دون استعجال، وما يؤكد ذلك أن عدد قتلى الجيش الإسرائيلي منذ 7 أكتوبر حتى اليوم لا يتجاوز 300 قتيل، في مقابل 30 ألف قتيل فلسطيني.

ولذلك سيبقى هذا الصراع حبيس عدم فهم (العقلية الإسرائيلية) التي نتعامل معها على أنها دولة شرقية وندير الصراع معها من هذا المنطلق، بينما هي في حقيقة الأمر مكون غربي يعيش في منطقتنا، ورأس جسر للسياسة والعقل الغربي.