-A +A
نجيب يماني
الحلقة الأخيرة في تأملات الرؤية وملامحها التي غيّرت وجه المملكة ونقلتها إلى حركة لا تهدأ من العمل والإبداع في شتى المجالات، فالتداخل الكبير بين برامج رؤية المملكة 2030 يجعل من الصعب الفصل بين المسارات كما لو كانت أرخبيلاً من جزر متفرقة؛ ولهذا أرجو من القارئ والمطلع على هذه التقسيمات التي اعتمدتها في قراءتي لـ«رؤية المملكة 2030.. والتأثير في بنية المجتمع السعودي» على اعتبارها موجهات تستخلص هذه الأبعاد، ولا تفصلها عن بعضها، بقدر ما تصنفها تصنيفاً واصفاً ولا ليس فاصلاً لها، وعلى هذا فمن الممكن النظر إلى المسار الاجتماعي في سياق الرؤية من خلال برنامجي «جودة الحياة»، و«تحول القطاع الصحي»، كونهما يتصلان بكافة قطاعات المجتمع دون تمييز، ويستهدفان خلق بيئة اجتماعية سليمة تعين على البلوغ بـ«الرؤية» إلى أقصى الممكن من النجاح.

أولاً: برنامج جودة الحياة


أُطلق هذا البرنامج في عام 2018م، والغاية من «تحسين جودة حياة الفرد والأسرة من خلال تهيئة البيئة اللازمة لدعم واستحداث خيارات جديدة تُعزّز مشاركة المواطن والمقيم والزائر في الأنشطة الثقافية والترفيهية والرياضية والسياحية والأنماط الأخرى الملائمة؛ التي تساهم في تعزيز جودة حياة الفرد والأسرة، وتوليد الوظائف، وتنويع النشاط الاقتصادي، وتعزيز مكانة المدن السعودية في ترتيب أفضل المدن العالمية».. وهو بهذا المفهوم يتقاطع مع مستهدفات برامج أخرى، لكنه يمتاز عليها بكونه يفتح آفاقاً جديدة لقطاعات جودة الحياة، التي تمس المواطنين بشكل مباشر؛ مثل الرياضة والثقافة والتراث والفنون والترفيه والترويح ونحوها.

ومن النجاحات التي حققها البرنامج منذ إطلاقه:

• إعادة إطلاق قطاع السينما.

• تنظيم الفعاليات الترفيهية والرياضية والثقافية المحلية والعالمية.

• افتتاح عدد من المتاحف والمعارض الثقافية والمهرجانات الموسيقية.

• إطلاق العديد من الأكاديميات والمعاهد والبرامج التي تُعنى بتطوير الفرد.

• تطوير القطاع السياحي في المملكة، والإسهام بتعزيز مكانة المملكة وجهةً سياحيةً عالميةً.

• إطلاق التأشيرة السياحية.

• زيادة المواقع التراثية المدرجة في قائمة اليونسكو للتراث العالمي.

• توطين المهن القيادية في قطاع الإيواء.

• تفعيل وتمكين دور القطاع الخاص من خلال أتمتة عملية التراخيص لتسهيل أعمال المستثمرين ودعمهم من خلال إنشاء صناديق تنموية؛ مثل صندوق نمو الثقافي، وبرنامج كفالة لتمويل المشاريع السياحية.

إن تهيئة البيئة المناسبة لجودة الحياة أمر تقره الشريعة، وتحض عليه، ولنا في ذلك شواهد حاضة على الترويح عن النفس، كي لا تصيبها الملالة والكدر، بما يمكنها من الإقبال على العمل بجد واجتهاد وروح وثّابة، ويمكننا القول بأن هذا البرنامج يمثل التحدي الأكبر لمجتمعنا، كونه قد عاش ردحاً من الزمن تحت مظلة فكر ضيّق عليه واسعاً، وحجّم حركته بموجهات لا يسندها شرع أو تقرها قيم، فعاش على هامش الحياة، محاصراً بخطاب يراقب حركته، ويحاصره بزواجر تبدأ من «البدعة» ولا تقف عند «التحريم»، في مظهر من فظاظة وخطاب جاف خلا من روح الوسطية والدعوة بـ«التي هي أحسن»، وكل ذلك ترك أثره في التعاطي مع الزواجر والنواهي بنزعة «الإذعان» و«الطاعة» وافتقدت -في الغالب- لروح الضمير المراقب، والنفس المحاسبة، والاطمئنان المفضي إلى اليقين الراسخ لدى البعض، فنشأ في مجتمعنا نوع من الإذعان الهش، بما يضعنا أمام تحدٍّ كبير، للتعاطي الإيجابي مع برنامج جودة الحياة الذي حرر المجتمع من هذه المقيدات، وهو انفتاح تبقى الخشية من آثاره الجانبية كبيرة، قياساً على ما أشرنا إليه من انتقال فجائي من الكبت إلى التحرر، ومن التضييق إلى الانفتاح، ولهذا فإن من أوجب الواجبات ضبط بوصلة القيم والسلوكيات المجتمعية الراقية حتى توافي مستهدفات هذا البرنامج في نصوع غايتها بتوفير حياة مفعمة بالحيوية..

ثانياً: برنامج تحول القطاع الصحي

يمثّل هذا البرنامج أحد البرامج المؤثرة في رؤية المملكة 2030، فمن إطلاقه خلال عام 2021م، عمل على ضمان استمرار تطوير خدمات الرعاية الصحية في المملكة عبر إعادة هيكلة القطاع الصحي في المملكة ليكون نظاماً صحياً شاملاً وفعالاً ومتكاملاً، يقوم على صحة الفرد والمجتمع (بمن فيهم المواطن والمقيم والزائر)، معتمداً على جملة من المبادئ من أبرزها الشفافية والاستدامة المالية من خلال تعزيز الصحة العامة، وتطبيق النموذج الجديد للرعاية المتعلقة بالوقاية من الأمراض، وتحسين الوصول إلى الخدمات الصحية من خلال التغطية المثلى والتوزيع الجغرافي الشامل والعادل، وغير ذلك من المبادئ والمستهدفات التي وضعها البرنامج في أجندة عمله ضمن منظومة الرؤية، بما أثمر في وقته القصير عن نجاحات باهرة تمثلت في تحسين جودة وكفاءة الخدمات الصحية، وتسهيل الحصول عليها من خلال الاهتمام برقمنة القطاع الصحي، وإطلاق حزمة من التطبيقات مثل (صحتي)، (موعد) وزيادة تغطية الخدمات لجميع مناطق المملكة.

ولو أخذنا مستشفى الملك فيصل التخصصي ومركز الأبحاث نموذجاً للتدليل على نجاح الرؤية، لكفانا ذلك، حيث يقف هذا الصرح الطبي العملاق شاهداً على عظمة «الرؤية» من خلال ما أنجزه من نجاحات باهرة وضعت في صدارة المؤسسات الصحية والبحثية على المستوى العالمي، وأصبحت رقماً لا يمكن تخطيه، ويكفي أنه أسهم في توطين «السياحة العلاجية»، وأرسى القواعد المتينة في عمليات زراعة الأعضاء، وغيرها من العمليات المعقدة، التي كانت تكلف خزينة الدولة الكثير في سبيل علاجها في الخارج..

كما لا ننسى أن المملكة اكتسبت سمعة صحية عالمية من خلال عمليات فصل التوائم السيامية بتوجيهات ودعم من قيادتها الرشيدة، في روح إنسانية لا تجد لها مثيلاً في كافة دول العالم.

ملخص ما أردت الإشارة إليه من خلال تأملات في الرؤية عبر هذه الحلقات الأربع أننا أمام «رؤية» يعز مثيلاتها على مستوى العالم، وقيادة تعي ما ترمي إليه، وتستشرف أفقاً يبدو للبعض «أحلاماً»، ولكنه في وعيها الباصر «أجندة» لعمل منجز وفق ما يخطط له ويرسم، فلا شيء يقف أمام «الهمة»، ولا محيد عن «القمة»، التي تتقاصر مع عزم «سلمان» وهمة «محمد».

والله ولي التوفيق.