في أواخر شهر رمضان الفارط، دار خلاف فقهيّ حول صحة جواز إخراج زكاة الفطر نقوداً أم إخراجها حبوباً؟
ظاهرة الاختلاف بين العلماء ظاهرة حميدة تدل على مدى قدرة الشريعة الإسلامية على استيعاب كل الآراء، فهي الشريعة الخالدة الصالحة لكل زمان ومكان، بعد زمن تسيّد فيه الرأي الواحد حياتنا، فكان الأمر أضيق علينا من سم الخياط، رغم أن من اجتهد وأصاب له أجران، ومن أخطأ فله أجر، كما علمنا صاحب الشريعة عليه الصلاة والسلام.
فاختلاف الآراء في المسألة الواحدة إنما هو رحمة للعباد وسعة لهم، فالنزاع في الأحكام يكون رحمة -كما يقول ابن تيمية في (الفتاوي)-، إذ يؤكد أن الأمر المختلف عليه بين العلماء لا ينبغي لأحد أن يحمل الناس عليه، وهذا القول لم يتفرَّد به ابن تيمية وحده، بل كان الإمام أحمد يفتي في المسألة ثم يدل السائل على من يفتيه بخلافها ويجيز له الأخذ بأيهما شاء.
جاء في (شرح الكوكب المنير) على المذهب الحنبلي قوله «... وإن اختلف عليه أي العامي مجتهدان فأفتاه أحدهما بحكم والآخر بغيره تخيّر في الأخذ بأيهما شاء».
وقد صنّف رجل كتاباً سماه كتاب الاختلاف، فقال له الأمام أحمد سمِه كتاب التيسير، وقال عمر بن عبدالعزيز «ما سرّني أن أصحاب رسول الله لم يختلفوا؛ لأنهم لو اجمعوا على قول فخالفهم رجل كان ضالاً، وإذا اختلفوا فأخذ رجل بقول هذا ورجل بقول هذا كان في الأمر سعة».
ويؤكد ابن تيمية أنه لا ينبغي لمن نشأ على مذهب معين أن يلزم علماء المسلمين به، ويقول لهم يجب عليكم أن تفتوا بمذهبي، وإن أي مذهب خالف مذهبي كان باطلاً.
وقد عزم هارون الرشيد أن يحمل الناس في جميع الأمصار على ما في موطأ الإمام مالك من الأحكام فمنعه، وقال إن أصحاب رسول الله تفرقوا في الأمصار وقد أخذ كل قوم من العلم ما بلغهم.
ويشرح ابن تيمية بأنّ اختلاف وصول الأحاديث لأهل الاجتهاد هو أحد أبواب الاختلاف بين الأئمة ثم حتى بعد وصول الحديث فإنه قد لا يثبت لديه على أصوله، ولو ثبت فقد لا يحتوى على وجه الاستدلال، وإن احتواه فقد يكون معارضاً بمثله أو بما هوّ أقوى منه. فالخلاف بين أهل العلم بل بين الصحابة قائم منذ عهدهم وهو مشهور بينهم مثل اختلافهم في تيمم الجنب، فذهب عمر وابن مسعود إلى أن الجنب لا يتيمم أبداً لو فقد الماء، بل يدع الصلاة حتى يجد الماء استدلالاً بقوله تعالى (وإن كنتم جنباً فاطهروا)، وذهب بعض الصحابة إلى وجوب التيمم للجنب مع عدم وجود الماء.
كما اختلفوا في تقسيم الغنائم في الأرض المفتوحة واختلفوا كذلك في ربا الفضل؛ الذي أجازه ابن عباس وأسامة بن زيد وزيد بن الأرقم، وأن المحرم هو ربا النسيئة فقط، واختلفوا في الطلاق بالثلاث ونفقة وسكنى المطلقة طلاقاً بائناً، وفي آية الوضوء قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين). فهذا نص من القرآن، ومع ذلك ذهب فريق من أهل العلم إلى أن فرض الرجلين في الوضوء الغسل دون المسح؛ وهو قول الجمهور، وذهب فريق آخر إلى أن فرض الرجلين المسح دون الغسل؛ وهو قول ابن عباس وأنس بن مالك. وسبب الاختلاف هو القراءة بين النصب والجر وكلاهما متواتر.
وقوله عليه الصلاة والسلام «لا يجمع بين مفترق ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة»، وهذا نص، ومع ذلك ذهب الشافعي وأحمد إلى أن الخليطين إذا كانا من أهل الزكاة يزكيان زكاة الرجل الواحد، بينما ذهب أبو حنيفة ومالك إلى أن الزكاة لا تجب في الخلطة إلا إذا كانت واجبة قبلها، وقوله تعالى (والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء) فهذا نص ومع ذلك ذهبت عائشة وابن عمر وزيد بن ثابت إلى أن المراد بالقروء الاطهار، وذهب أبو بكر وعمر وعلي وعثمان إلى المراد بالقروء الحيض، وبناء على ذلك اختلفت أقوال الفقهاء واختلفت أزمنة العدة التي تعتدها المطلقة، فذهب إلى القول الأول الشافعي ومالك وأحمد في أحد قوليه، وذهب أبو حنيفة وأحمد في رواية إلى الثاني.
واختلفوا في الإيلاء وفيه نص في القرآن، وفي نكاح المحرم بالحج والعمرة، وفي أقل ما يصح به مهراً في النكاح، وفي استقبال القبلة واستدبارها في قضاء الحاجة، وفي مقدار نصاب السرقة، وفي الولاية على الإجبار في النكاح، وفي ركنية الفاتحة في الصلاة، وفي طواف الحائض، وفي زكاة حلي المرأة، وفي الكثير من المسائل الفقهية.
والشريعة طافحة باجتهادات الفقهاء واختلافهم، وفي هيئة كبار العلماء ما من مسألة عرضت على الهيئة إلا وفيها الموافق والمخالف، فالشيخ بن عثيمين -رحمه الله- يجيز صلاة الفذ عن الصف، ويبيح للحائض الطواف عند الضرورة على خلاف آخرين من الأعضاء.
وكما حدث أخيراً بين فضيلة المفتي والشيخ عبدالله المطلق -حفظهما الله- في نوعية إخراج زكاة الفطر طعاماً أو نقداً، فذهب فضيلة المفتي إلى إخراجها طعاماً، والشيخ المطلق إلى جواز إخراجها نقوداً، وللدكتور عبدالوهاب أبو سليمان عضوٍ هيئة كبار العلماء -رحمه الله- بحث وافٍ في جواز إخراجها نقداً وأورد لجوازها 32 دليلاً، وهذا من كمال هذا الدين وعظمته، ففيه سعة للناس ويسر ورفع للحرج ودفع للمشقة وهو من أكبر مقاصد الشريعة.
فمن أخرجها طعاماً جاز له ذلك، ومن أخرجها نقوداً هو على الصحيح أيضاً فإخراج المال في هذا العصر يجتمع فيه جلب مصلحة، ودفع مفسدة، فيقدم على إخراج الحب الذي فيه مصلحة مقرونة بمفسدة إضاعة المال؛ لأن الفقراء يبيعونه بأبخس الأثمان، فيضيع بسبب ذلك مال كثير بين مشتريه للزكاة، وبين بائعه الفقير.
إن مراعاة المصالح من أعظم أصول الشريعة، وحيثما دارت تدور معها، فالشريعة كلها مبنية على المصالح ودرء المفاسد والاختلاف رحمة.
تقبل الله من الجميع طاعاتهم..
ظاهرة الاختلاف بين العلماء ظاهرة حميدة تدل على مدى قدرة الشريعة الإسلامية على استيعاب كل الآراء، فهي الشريعة الخالدة الصالحة لكل زمان ومكان، بعد زمن تسيّد فيه الرأي الواحد حياتنا، فكان الأمر أضيق علينا من سم الخياط، رغم أن من اجتهد وأصاب له أجران، ومن أخطأ فله أجر، كما علمنا صاحب الشريعة عليه الصلاة والسلام.
فاختلاف الآراء في المسألة الواحدة إنما هو رحمة للعباد وسعة لهم، فالنزاع في الأحكام يكون رحمة -كما يقول ابن تيمية في (الفتاوي)-، إذ يؤكد أن الأمر المختلف عليه بين العلماء لا ينبغي لأحد أن يحمل الناس عليه، وهذا القول لم يتفرَّد به ابن تيمية وحده، بل كان الإمام أحمد يفتي في المسألة ثم يدل السائل على من يفتيه بخلافها ويجيز له الأخذ بأيهما شاء.
جاء في (شرح الكوكب المنير) على المذهب الحنبلي قوله «... وإن اختلف عليه أي العامي مجتهدان فأفتاه أحدهما بحكم والآخر بغيره تخيّر في الأخذ بأيهما شاء».
وقد صنّف رجل كتاباً سماه كتاب الاختلاف، فقال له الأمام أحمد سمِه كتاب التيسير، وقال عمر بن عبدالعزيز «ما سرّني أن أصحاب رسول الله لم يختلفوا؛ لأنهم لو اجمعوا على قول فخالفهم رجل كان ضالاً، وإذا اختلفوا فأخذ رجل بقول هذا ورجل بقول هذا كان في الأمر سعة».
ويؤكد ابن تيمية أنه لا ينبغي لمن نشأ على مذهب معين أن يلزم علماء المسلمين به، ويقول لهم يجب عليكم أن تفتوا بمذهبي، وإن أي مذهب خالف مذهبي كان باطلاً.
وقد عزم هارون الرشيد أن يحمل الناس في جميع الأمصار على ما في موطأ الإمام مالك من الأحكام فمنعه، وقال إن أصحاب رسول الله تفرقوا في الأمصار وقد أخذ كل قوم من العلم ما بلغهم.
ويشرح ابن تيمية بأنّ اختلاف وصول الأحاديث لأهل الاجتهاد هو أحد أبواب الاختلاف بين الأئمة ثم حتى بعد وصول الحديث فإنه قد لا يثبت لديه على أصوله، ولو ثبت فقد لا يحتوى على وجه الاستدلال، وإن احتواه فقد يكون معارضاً بمثله أو بما هوّ أقوى منه. فالخلاف بين أهل العلم بل بين الصحابة قائم منذ عهدهم وهو مشهور بينهم مثل اختلافهم في تيمم الجنب، فذهب عمر وابن مسعود إلى أن الجنب لا يتيمم أبداً لو فقد الماء، بل يدع الصلاة حتى يجد الماء استدلالاً بقوله تعالى (وإن كنتم جنباً فاطهروا)، وذهب بعض الصحابة إلى وجوب التيمم للجنب مع عدم وجود الماء.
كما اختلفوا في تقسيم الغنائم في الأرض المفتوحة واختلفوا كذلك في ربا الفضل؛ الذي أجازه ابن عباس وأسامة بن زيد وزيد بن الأرقم، وأن المحرم هو ربا النسيئة فقط، واختلفوا في الطلاق بالثلاث ونفقة وسكنى المطلقة طلاقاً بائناً، وفي آية الوضوء قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين). فهذا نص من القرآن، ومع ذلك ذهب فريق من أهل العلم إلى أن فرض الرجلين في الوضوء الغسل دون المسح؛ وهو قول الجمهور، وذهب فريق آخر إلى أن فرض الرجلين المسح دون الغسل؛ وهو قول ابن عباس وأنس بن مالك. وسبب الاختلاف هو القراءة بين النصب والجر وكلاهما متواتر.
وقوله عليه الصلاة والسلام «لا يجمع بين مفترق ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة»، وهذا نص، ومع ذلك ذهب الشافعي وأحمد إلى أن الخليطين إذا كانا من أهل الزكاة يزكيان زكاة الرجل الواحد، بينما ذهب أبو حنيفة ومالك إلى أن الزكاة لا تجب في الخلطة إلا إذا كانت واجبة قبلها، وقوله تعالى (والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء) فهذا نص ومع ذلك ذهبت عائشة وابن عمر وزيد بن ثابت إلى أن المراد بالقروء الاطهار، وذهب أبو بكر وعمر وعلي وعثمان إلى المراد بالقروء الحيض، وبناء على ذلك اختلفت أقوال الفقهاء واختلفت أزمنة العدة التي تعتدها المطلقة، فذهب إلى القول الأول الشافعي ومالك وأحمد في أحد قوليه، وذهب أبو حنيفة وأحمد في رواية إلى الثاني.
واختلفوا في الإيلاء وفيه نص في القرآن، وفي نكاح المحرم بالحج والعمرة، وفي أقل ما يصح به مهراً في النكاح، وفي استقبال القبلة واستدبارها في قضاء الحاجة، وفي مقدار نصاب السرقة، وفي الولاية على الإجبار في النكاح، وفي ركنية الفاتحة في الصلاة، وفي طواف الحائض، وفي زكاة حلي المرأة، وفي الكثير من المسائل الفقهية.
والشريعة طافحة باجتهادات الفقهاء واختلافهم، وفي هيئة كبار العلماء ما من مسألة عرضت على الهيئة إلا وفيها الموافق والمخالف، فالشيخ بن عثيمين -رحمه الله- يجيز صلاة الفذ عن الصف، ويبيح للحائض الطواف عند الضرورة على خلاف آخرين من الأعضاء.
وكما حدث أخيراً بين فضيلة المفتي والشيخ عبدالله المطلق -حفظهما الله- في نوعية إخراج زكاة الفطر طعاماً أو نقداً، فذهب فضيلة المفتي إلى إخراجها طعاماً، والشيخ المطلق إلى جواز إخراجها نقوداً، وللدكتور عبدالوهاب أبو سليمان عضوٍ هيئة كبار العلماء -رحمه الله- بحث وافٍ في جواز إخراجها نقداً وأورد لجوازها 32 دليلاً، وهذا من كمال هذا الدين وعظمته، ففيه سعة للناس ويسر ورفع للحرج ودفع للمشقة وهو من أكبر مقاصد الشريعة.
فمن أخرجها طعاماً جاز له ذلك، ومن أخرجها نقوداً هو على الصحيح أيضاً فإخراج المال في هذا العصر يجتمع فيه جلب مصلحة، ودفع مفسدة، فيقدم على إخراج الحب الذي فيه مصلحة مقرونة بمفسدة إضاعة المال؛ لأن الفقراء يبيعونه بأبخس الأثمان، فيضيع بسبب ذلك مال كثير بين مشتريه للزكاة، وبين بائعه الفقير.
إن مراعاة المصالح من أعظم أصول الشريعة، وحيثما دارت تدور معها، فالشريعة كلها مبنية على المصالح ودرء المفاسد والاختلاف رحمة.
تقبل الله من الجميع طاعاتهم..