كنت أعرف أن النظرة هي أساس الحب تفتح بها القلوب ويولد الحب وتتطور مراحله فيبدأ بالهوى مروراً بالصبابة ثم الشغف يليه العشق ثم النجوى وآخرها الهيام..
حتى قال بشار بن برد
يا قوم أذني لبعض الحيّ عاشقةٌ
والأذنُ تعشقُ قبلَ العينِ أحيَانا
ولكن الأغرب من هذا وذاك أن هناك حباً قد نشأ دونَ سمع أو بصر، وعشقاً تم عن طريق الورقة والقلم، عشقٌ امتدَّ في عمر الزمن، وثَّقَت عُراه الأيّام وريشة القلم. أسقطت أمام قوّة هذا الحب كل القوانين والنظم ليؤكد هذا العشق المتبادل بالورقة والقلم أنَّ الحب فِعلاً «أعمى» لا يخضع لمنطق البشر.
يضرب حيث يحلو له ويخضع لِسُلطانه وجبروت حكمه كل قلبٍ يحمله بشر، فالحب مقدَّمٌ على سائر الفضائل، به نسمو وعليه نعيش وبه نتطهّر من أدران الزمن، علاقة العشق هذه كان وقودها ورقة وقلماً وطابع بريد وصل بين قلبين دون أن يلتقيا، فلا صوت سُمع ولا سهام نظر.
جبران خليل جبران، رائد النهضة الأدبيّة الحديثة والتي كانت مزاميره وأناشيده وأمثاله وتعاليمه الإنسانيّة المهرقة في قوارير الخيال تسيل على مزالج القلوب فتترك عليها صبابة الحب الكلّي، تنفذُ إلى أخاديد النفوس فتُطهّرها من أوساخ الجهل.
أما الحبيبة فَهي مي زيادة، كانت لديها نزعة صوفيّة جَعَلتها في عُزلة روحيّة أطلقت لروحها العنان تنظرُ إلى البحر وتنعمُ بالطبيعة وتستكين في أحضانها، فالأدب الصوفي والذي كان لِميّ نزعة إليه هو أدب الوجدان الحيّ المُتقد بإشراقات الوَجد ومواجيده، وهو الأدب العاطفي وأدب الحب الكوني والحب لكل شيء في الوجود فهو كلّه وله ووجد وحنينٌ وإخلاص.
يؤكد جلال الدين الرومي على أنَّ الأدب الصوفي يحتوي على عاطفة صادقة وتجربة عميقة في أدب المناجاة، وهو ما فعلته مي في مناجاتها لجبران عبر رسائلها، قدّست الحب على الرغم من آلامه وهل هُناك حبٌ أسمى من ذاك الذي يولده ألم الحبيب الذي نحبّه رغم الألم.
يقول ابن الرومي: «يا من هو عزاء النفس في ساعة الغم والحزن يا من فيهِ غناء الروح عند مرارة الفقر والعوز فليس لي مُراد غير حبّك، كل شيء يزول ويبقى نور الحب خالداً سرمدياً..
فكان الحب في حياتها نغمة روحيّة لا غِنى عنها، وكان الكتاب والقلم خير جليس لها تطالع بِنَهَم الأدب الرومانسي وتحس أنَّ الموسيقى تُخَاطبها بلُغة ليس أقرب منها إلى إدراكها وعواطفها تعطيها أجنحة تطير بها إلى عوالم لا يطرقها غيرها».
أحبت جبران بصمت دون أن تراه أو تسمعه أحبّته في خيالها شأنها شأن الذين ينشدون الحب لا يبتغون من ورائه متعة جسديّة أو لذّة حسّية، فكثيراً ما يقنع المحب من حبيبه بالكلام والحديث والمناجاة.
شهد مارس 1912، ولادة حبّهما برسالة مي الأولى وجواب جبران عليها، الذي أشاد بطموحها الفوّاح والذي يُشبه الزهرة في الأرض البور، وطالبها بالمُضي قُدُماً لخدمة المرأة العربيّة التواقة إلى الحرية والازدهار ودس بين ثنايا رسالته أهم وقائع ماضيه ونظرته إلى الحياة والإنسان!
بدأت الرسائل بين نيويورك مقر إقامته والقاهرة مهبط فؤادها العاشق لتكون قاموساً للعاشقين، كتب لها (لقد طالت رسالتي ومن يجد لذّة في شيء أطاله، ابتدأت قبل نصف الليل وها قد صرت بين نصف الليل والفجر ولكنني إلى الآن لم أقل كلمة واحدة ممّا أردت قوله،
إنَّ الحقيقة فينا ذلك الجوهر المجرّد ذلك الحلم الملتف باليقظة لا يتخذ غير السكون مظهراً وبياناً، نعم كان بقصدي أن أسألك ألف سؤال وسؤال وها قد صاح الديك ولم أسألك شيئاً، كان بقصدي أن أسألك ما إذا كانت لفظة «سيّدي» موجودة في قاموس الصداقة، لقد فتشت عنها في النسخة الموجودة لدي من هذا القاموس ولم أجدها، فاحترت بأمري غير أنني أشعر إنَّ نسختي هي النسخة المصححة، ولكن قد أكون غير مصيب، هذا سؤال صغير، أمَّا الأسئلة الكبيرة فسأتركها إلى فرصة أخرى إلى ليلةٍ أخرى، فليلتي قد شاخت وهرمت وأنا لا أريد أن أكتب إليك في ظلال الليالي المسنّة وإنّي لأرجو أن يملأ العام الجديد راحتيك بالنجوم، والله يحفظك يا ميّ ويحرسك)..
وكتبَت إليه تقول: (ماذا أنت فاعلٌ هذا المساء وأين تقضي سهرتك، أطلب إليك أن تُشركني الليلة في كل عمل تعمل وأن تصطحبني أين ذهبت، فإذا اعتليت السطوح لتُلقي النظر إلى العوالم التائهة في اللانهاية فخُذني معك وإذا مضيت إلى ناد أو سهرة أو اجتماع أو مسرح فخُذني معك إلى قلب البشريّة، وإذا بقيت مع نفسك عاكفاً على أفكارك وخواطرك خُذني معك إلى وطني).
عاشت معه أحلى لحظات عمرها اعترفت له بحبّها ولكنها كانت خائفة أن لا يأتيها من الحب ما كانت تنتظره، تقول بعد أن صرحت لجبران بحبها «حمدت الله على أنّي أستطيع أن أكتب ما أشعر من دون أن أتلفّظ به لأنك لو كنت حاضراً بالجسد لهربت خجلاً بعد هذا الكلام واختفيت زمناً طويلاً فما أدعك تراني إلا بعد أن تنسى!»..
لم يستطع أحد أن يفجر عواطفها إلا جبران على البعد يكتب لها في إحدى رسائله (كيف حالك وكيف حال عينيك وهل أنتِ سعيدة في القاهرة مثلما أنا سعيد في نيويورك وهل تمشين ذهاباً وإياباً في غرفتك بعد منتصف الليل؟ وهل تقفين بجانب نافذتك وتنظرين إلى النجوم وهل تلجئين بعد ذلك إلى فِرَاشك وهل تُجففين ابتسامات ذائبة في عينك بطرف لحافك، أفكر فيك يا ماري كل يوم وليلة وفي كل فكر شيء من اللذّة من الألم، والغريب أنني ما فكّرتُ فيك يا مريم إلا وقلت لك كفى في سرّي تعالي واسكبي جميع همومك هنا على صدري..
وها أنا أضعُ قُبلة في راحة يمينك وقُبلة ثانية في راحة شمالك طالباً من الله أن يحرسك ويباركك ويملأ قلبك بأنواره وأن يبقيك أحب الناس إلى جبران..
ويكتب لها في عقيدتي أنه إذا كان لا بدّ من السيادة في هذا العالم فالسيادة يجب أن تكون للمرأة لا للرجل، أنا مدين بكل ما هو أنا للمرأة منذ كنت طفلاً حتى الساعة، والمرأة تفتح النوافذ في بصري والأبواب في روحي، ولولا المرأة الأم والمرأة الشقيقة والمرأة الصديقة لبقيت هاجعاً مع هؤلاء النائمين الذي يشوّشون سكينة العالم بغطيطهم..
ما أجمل رسائلك يا مي وما أشهاها فهي كنهر من الرحيق يتدفق من الأعالي ويسير مترنّماً في وادي أحلامي بل كقيثارة أرفيوس تُقرب البعيد وتبعّد القريب وتحوّل بارتعاشتها السحريّة الحجارة إلى شُعلات متّقدة والأغصان اليابسة إلى أجنحة مضطربة..)
وينعى إليها جبران فذاقت حُرقة الألم، وانزوت تُصارع الشوق وتُكَابد لواعجه مرددة هكذا الإنسان يقدر والقدر من ورائه يتصرّف وإن الحياة مهما طالت فلا بدَّ أن تتحوّل يوماً إلى مجرّد ذكرى، وخفقت روحها خفقتها الأخيرة عام 1914، ليتركا لنا تراثاً من الحب الرومانتيكي تفتقده أجيال الحاضر بل لا تعرف له طعماً ولا تعلم عنه شيئًا. فالحب قضاء وقدر ليس له سبب يأتي فجأة، ممكن يدخل ضمن قائمة الأمراض المستعصية.
حتى قال بشار بن برد
يا قوم أذني لبعض الحيّ عاشقةٌ
والأذنُ تعشقُ قبلَ العينِ أحيَانا
ولكن الأغرب من هذا وذاك أن هناك حباً قد نشأ دونَ سمع أو بصر، وعشقاً تم عن طريق الورقة والقلم، عشقٌ امتدَّ في عمر الزمن، وثَّقَت عُراه الأيّام وريشة القلم. أسقطت أمام قوّة هذا الحب كل القوانين والنظم ليؤكد هذا العشق المتبادل بالورقة والقلم أنَّ الحب فِعلاً «أعمى» لا يخضع لمنطق البشر.
يضرب حيث يحلو له ويخضع لِسُلطانه وجبروت حكمه كل قلبٍ يحمله بشر، فالحب مقدَّمٌ على سائر الفضائل، به نسمو وعليه نعيش وبه نتطهّر من أدران الزمن، علاقة العشق هذه كان وقودها ورقة وقلماً وطابع بريد وصل بين قلبين دون أن يلتقيا، فلا صوت سُمع ولا سهام نظر.
جبران خليل جبران، رائد النهضة الأدبيّة الحديثة والتي كانت مزاميره وأناشيده وأمثاله وتعاليمه الإنسانيّة المهرقة في قوارير الخيال تسيل على مزالج القلوب فتترك عليها صبابة الحب الكلّي، تنفذُ إلى أخاديد النفوس فتُطهّرها من أوساخ الجهل.
أما الحبيبة فَهي مي زيادة، كانت لديها نزعة صوفيّة جَعَلتها في عُزلة روحيّة أطلقت لروحها العنان تنظرُ إلى البحر وتنعمُ بالطبيعة وتستكين في أحضانها، فالأدب الصوفي والذي كان لِميّ نزعة إليه هو أدب الوجدان الحيّ المُتقد بإشراقات الوَجد ومواجيده، وهو الأدب العاطفي وأدب الحب الكوني والحب لكل شيء في الوجود فهو كلّه وله ووجد وحنينٌ وإخلاص.
يؤكد جلال الدين الرومي على أنَّ الأدب الصوفي يحتوي على عاطفة صادقة وتجربة عميقة في أدب المناجاة، وهو ما فعلته مي في مناجاتها لجبران عبر رسائلها، قدّست الحب على الرغم من آلامه وهل هُناك حبٌ أسمى من ذاك الذي يولده ألم الحبيب الذي نحبّه رغم الألم.
يقول ابن الرومي: «يا من هو عزاء النفس في ساعة الغم والحزن يا من فيهِ غناء الروح عند مرارة الفقر والعوز فليس لي مُراد غير حبّك، كل شيء يزول ويبقى نور الحب خالداً سرمدياً..
فكان الحب في حياتها نغمة روحيّة لا غِنى عنها، وكان الكتاب والقلم خير جليس لها تطالع بِنَهَم الأدب الرومانسي وتحس أنَّ الموسيقى تُخَاطبها بلُغة ليس أقرب منها إلى إدراكها وعواطفها تعطيها أجنحة تطير بها إلى عوالم لا يطرقها غيرها».
أحبت جبران بصمت دون أن تراه أو تسمعه أحبّته في خيالها شأنها شأن الذين ينشدون الحب لا يبتغون من ورائه متعة جسديّة أو لذّة حسّية، فكثيراً ما يقنع المحب من حبيبه بالكلام والحديث والمناجاة.
شهد مارس 1912، ولادة حبّهما برسالة مي الأولى وجواب جبران عليها، الذي أشاد بطموحها الفوّاح والذي يُشبه الزهرة في الأرض البور، وطالبها بالمُضي قُدُماً لخدمة المرأة العربيّة التواقة إلى الحرية والازدهار ودس بين ثنايا رسالته أهم وقائع ماضيه ونظرته إلى الحياة والإنسان!
بدأت الرسائل بين نيويورك مقر إقامته والقاهرة مهبط فؤادها العاشق لتكون قاموساً للعاشقين، كتب لها (لقد طالت رسالتي ومن يجد لذّة في شيء أطاله، ابتدأت قبل نصف الليل وها قد صرت بين نصف الليل والفجر ولكنني إلى الآن لم أقل كلمة واحدة ممّا أردت قوله،
إنَّ الحقيقة فينا ذلك الجوهر المجرّد ذلك الحلم الملتف باليقظة لا يتخذ غير السكون مظهراً وبياناً، نعم كان بقصدي أن أسألك ألف سؤال وسؤال وها قد صاح الديك ولم أسألك شيئاً، كان بقصدي أن أسألك ما إذا كانت لفظة «سيّدي» موجودة في قاموس الصداقة، لقد فتشت عنها في النسخة الموجودة لدي من هذا القاموس ولم أجدها، فاحترت بأمري غير أنني أشعر إنَّ نسختي هي النسخة المصححة، ولكن قد أكون غير مصيب، هذا سؤال صغير، أمَّا الأسئلة الكبيرة فسأتركها إلى فرصة أخرى إلى ليلةٍ أخرى، فليلتي قد شاخت وهرمت وأنا لا أريد أن أكتب إليك في ظلال الليالي المسنّة وإنّي لأرجو أن يملأ العام الجديد راحتيك بالنجوم، والله يحفظك يا ميّ ويحرسك)..
وكتبَت إليه تقول: (ماذا أنت فاعلٌ هذا المساء وأين تقضي سهرتك، أطلب إليك أن تُشركني الليلة في كل عمل تعمل وأن تصطحبني أين ذهبت، فإذا اعتليت السطوح لتُلقي النظر إلى العوالم التائهة في اللانهاية فخُذني معك وإذا مضيت إلى ناد أو سهرة أو اجتماع أو مسرح فخُذني معك إلى قلب البشريّة، وإذا بقيت مع نفسك عاكفاً على أفكارك وخواطرك خُذني معك إلى وطني).
عاشت معه أحلى لحظات عمرها اعترفت له بحبّها ولكنها كانت خائفة أن لا يأتيها من الحب ما كانت تنتظره، تقول بعد أن صرحت لجبران بحبها «حمدت الله على أنّي أستطيع أن أكتب ما أشعر من دون أن أتلفّظ به لأنك لو كنت حاضراً بالجسد لهربت خجلاً بعد هذا الكلام واختفيت زمناً طويلاً فما أدعك تراني إلا بعد أن تنسى!»..
لم يستطع أحد أن يفجر عواطفها إلا جبران على البعد يكتب لها في إحدى رسائله (كيف حالك وكيف حال عينيك وهل أنتِ سعيدة في القاهرة مثلما أنا سعيد في نيويورك وهل تمشين ذهاباً وإياباً في غرفتك بعد منتصف الليل؟ وهل تقفين بجانب نافذتك وتنظرين إلى النجوم وهل تلجئين بعد ذلك إلى فِرَاشك وهل تُجففين ابتسامات ذائبة في عينك بطرف لحافك، أفكر فيك يا ماري كل يوم وليلة وفي كل فكر شيء من اللذّة من الألم، والغريب أنني ما فكّرتُ فيك يا مريم إلا وقلت لك كفى في سرّي تعالي واسكبي جميع همومك هنا على صدري..
وها أنا أضعُ قُبلة في راحة يمينك وقُبلة ثانية في راحة شمالك طالباً من الله أن يحرسك ويباركك ويملأ قلبك بأنواره وأن يبقيك أحب الناس إلى جبران..
ويكتب لها في عقيدتي أنه إذا كان لا بدّ من السيادة في هذا العالم فالسيادة يجب أن تكون للمرأة لا للرجل، أنا مدين بكل ما هو أنا للمرأة منذ كنت طفلاً حتى الساعة، والمرأة تفتح النوافذ في بصري والأبواب في روحي، ولولا المرأة الأم والمرأة الشقيقة والمرأة الصديقة لبقيت هاجعاً مع هؤلاء النائمين الذي يشوّشون سكينة العالم بغطيطهم..
ما أجمل رسائلك يا مي وما أشهاها فهي كنهر من الرحيق يتدفق من الأعالي ويسير مترنّماً في وادي أحلامي بل كقيثارة أرفيوس تُقرب البعيد وتبعّد القريب وتحوّل بارتعاشتها السحريّة الحجارة إلى شُعلات متّقدة والأغصان اليابسة إلى أجنحة مضطربة..)
وينعى إليها جبران فذاقت حُرقة الألم، وانزوت تُصارع الشوق وتُكَابد لواعجه مرددة هكذا الإنسان يقدر والقدر من ورائه يتصرّف وإن الحياة مهما طالت فلا بدَّ أن تتحوّل يوماً إلى مجرّد ذكرى، وخفقت روحها خفقتها الأخيرة عام 1914، ليتركا لنا تراثاً من الحب الرومانتيكي تفتقده أجيال الحاضر بل لا تعرف له طعماً ولا تعلم عنه شيئًا. فالحب قضاء وقدر ليس له سبب يأتي فجأة، ممكن يدخل ضمن قائمة الأمراض المستعصية.