-A +A
علي بن محمد الرباعي
تقول الحكاية: إن أحد القرويين أمسك بذئب صغير في الوادي، وأخذه للمنزل؛ لكي يتسلى به أولاده، يلعبون معه، ويتوددون له، وكان في البدء يسقيه حليباً، إلا أنه سرعان ما كبر، فأطعمه دجاجاً، فاستفزوا الذئب، كونهم لم يقدروه حق قدره، فهو ذئب لحم، لا ذئب دجاج، فاحتقن وظهر طبعه الأصيل، واختفى تطبعه بالوداعة، فالتهم يد صاحبة الدار، ونهش ساق أحد عيالها، ولما عجز الرجال، عن توفير حيلة يتخلص بها منه، استشار صاحب دماغ أكبر من دماغ الحمار، فاقترح عليه أن يطعمه لحماً، ولم يكن لدى القروي أغناماً كثيرة، فتبرع بأن يرعى أغنام أهل بلدته، وفي قرارة نفسه يقول: مرّة يأكل الذئب من غنمي، ومرات من غنم الجماعة، ومن هنا جاء المثل «لا يموت الذئب ولا تفنى الغنم»، وبقدرة قادر أفنى الله أهل البيت، وشتتهم، والذئب لا يزال بكامل لياقته.

كنا نسمع بأنَّ هناك نافذة للسلام مع إسرائيل، ثم أصبحت باباً، لكن لا أحد يدري أين مفتاحه، ثم جاء زمن، ادّعى فيه، كل فريق بأنّ المفتاح عنده، لكنّ الوقت ليس مناسباً للفتح، ومع الزمن تعددت الأبواب، ثم حلّ محلها، جدار عازل.


يمكن أن نعتبر إسرائيل (ذئباً) كَبُر وسط المجتمعات العربية، كانوا يتسلون به، ثم أصبح ضيفاً ثقيلاً، يساومهم تارةً، ويسومهم سوء عذابه تارات، والغريب أن أهل البيت، مدعي المظلومية، والمنادين بحقوقهم لما كَبُر الذئب، أصبحوا هم طارحي المبادرات على الذئب، إما عن قناعة بالضرورات، وإما إملاء من الرعاة.

ومن الملاحظ، أن العرب لم ينقسموا عام النكبة (1967) وإنما بدأت الانقسامات، عقب نصر أكتوبر المجيد (1973)، فالانتصارات شرف يحاول كل أحد أن ينسبه لنفسه، بينما الهزيمة مجهولة النسب، والجميع يتبرأ منها.

وعندما نرصد تعامل فرد أو مجموعة مع العدو، يمكن أن ندرك كيف يمكن أن يتعامل هؤلاء مع صديقهم، فأحياناً توفير العدو الحصيف أولى من التمسك بصديق مُخاتل، فالعدو الحصيف يتعامل بالعقل والمصلحة، والصديق المخاتل تغلب عليه عاطفته، فيكون كما الدُّب الذي أراد أن يهش الذباب عن أنف صديقه الإنسان بصخرة، ففطسه.

أسوأ القضايا تاريخياً، تلك التي يتعيّش أهلها من ورائها، وكانت الفكرة السائدة أن الأمة العربية تقوى بتلاحمها، وأنه يمكنها أن تتصدى بتقاربها لأكبر عدو، إلا أن التلاحم ولّد حساسية، والحساسية ولّدت الاحتكاك، والاحتكاك أشعل فتيل صراعات وأزمات، فحضر المثل الشعبي «تزاوروا ولا تتجاوروا».

يصدق على بعض النخب العربية أنها (تائهة)، ولم تجد منذ نصف قرن (ضالتها) التي طال زمن البحث عنها دون طائل، وغدت كمن يبحث عن قطة سوداء في غرفة حالكة العتمة، والبحث عن سواد في سواد، مدعاة لقربعة المواعين، وخدش الجدران، وتسلك الساقين، وفي نهاية المطاف كانت الغرفة خالية إلا من أثر الصراع مع طواحين الظلام.

عرّفنا الصراع العربي الإسرائيلي على نُخب، وقادة، وسُعاة، وسماسرة، ومحرجين، وباعة كلام، يطرحون الشعارات بلغة منقرضة انتهى زمن صلاحيتها، وأهملت الشعوب الواعية التفاعل مع قاموسها، لتلاشي الدلالات، وكل ما تتلاشى دلالته يغدو مُهملاً.

ولو تساءلنا: ماذا أنجزت، أو ستُنجز هذه النخب، أو تلك، لو استبعدنا إسرائيل من منطقتنا افتراضياً أو ذهنياً واعتبرناها غرقت في البحر؟ وما مشاريع رفاقنا وإخوتنا للمستقبل، إذا ما استوعبنا أنها أتيحت لهم الفرص السانحة، فحسرت وقصرت همتهم عن تشييد المكان في المكان؟

رُعّبنا من إسرائيل ومشاريعها، وأُرهِبنا، أو رُهّبنا، فاستعد البعض بتحمل فاتورة باهظة، يتكبدها اقتصاده، وتخسرها تنميته، بسبب حماقات البعض الآخر، الذي أراد للثلث المُؤهل (نفطياً) أن يدرّ عليه المال فقط ولا يسأل ولا يتدخّل، وإلا أطلق عليه البعبع من قيوده، والمارد من قمقمه.

كانت تخيلاتنا، ونحن في ريعان الصِّبا، عن إسرائيل، أنها أشبه بحيّ أو قرية، على مساحة أرضيّة، تضيق دوماً ببركة المناضلين، خصوصاً أن نشرات الأخبار تعجّ بأخبار المقاومة ورفقاء النضال، وربما تصورنا أن الشعب الإسرائيلي منهار، ومحطَّم، ويلتمس الرحمة، صباح مساء من الجبهات الساخنة، والمُسخّنة، التي أخذت بتلابيبه، فهو بالكاد يتنفّس!، ولم ندرك أن بطولات الرفاق كانت في تصفية حسابات الهدايا، والأبرياء يذهبون ضحايا، والأثرياء يدفعون ثمن الرزايا.

أوهمونا، أن إسرائيل (سهلة الاجتثاث)، والقضاء عليها ممكن في نصف ساعة، طالما دام دعم فريق الممانعة، من الصنبور، وبدلاً من القضاء على الكيان في ساعة، ترسخت أقدامه إلى قيام الساعة، وعندما ترسخت، حمّلوا الداعم مسؤولية هذا التفوق، كون الدعم المالي المرصود في بنوك دولية لم يكن كافياً.

استيقظت ذاكرة وعينا على قضيّة مُقدّسة، وتبرع جدودنا باللحم الحيّ كما يقال، إلا أن تولّي القضية من عملاء ألحق بها الدنس، ولولا المساومات والصفقات من محتال لا يعنيه احتلال؛ لظلّت القضية مُقدّسة، في الوجدان قبل العنوان، والفاشل يحمّل الفشل على الآخرين، ظناً أنه بالهروب إلى الأمام يستعيد النجاح، ويبرأ من التقصير، ويتطهر من عقدة الذنب.

عندما كان أهل النصرة والمؤمنون بواجبهم، يبذلون النفس والنفيس، كان الطوق يفتعل معهم الإشكالات، ويوزّع عليهم الاتهامات، والصادقون في مواقفهم يؤجلون النقاشات، بحكم أن الغاية المقدّسة لا بد لها من صبر وتضحيات، وكنا نتوقعهم عززوا مواقفهم، وثبتوا أقدامهم، وأعلوا بنيانهم، واتضح أن النضال (تجاري) أشغل حملة السلاح، بمستقبل الأرباح، وأعماهم عن النكاية بإسرائيل، التي أثبت واقعها أنها انصرفت للعمل والبناء، وتعزيز المأسسة، وخلق الحياة المدنية، دون التخلي عن تطوير وتكثير الآلة العسكرية.

اتخذ البعض من العدو، ذريعة، لإرباك المنطقة، وتصدير أزماته الداخلية للخارج، هددوا إسرائيل بالرمي في البحر فدفنتهم في الصحراء، وتآمروا عليها بليلة ليلاء، فأصبحت في رخاء، علماً بأن المفترض أن يغدو وجود العدو بالقُرب منك، محفّزاً لأن تكون أقوى وأغنى وأكثر مدنيّةً منه.

مع الأسف، أنه إلى يومنا لا تزال بعض المليشيات والأيديولوجيات تسوق وتسوّق علينا خطاباً ممجوجاً، يطالبون فيه بحدّية المواقف، ويعدونها منطلقاً في سبيل التخلص من العدو، علماً بأنهم عطلوا تنمية بلدانهم، وبددوا ثروات وخيرات شعوبهم، وغرقوا في محيط الفساد، وكلما انكشفوا أحالوا غرقهم على صهيونية متآمرة.

يُحمّل بعضٌ من العرب البعض الآخر المسؤولية الكاملة عن جغرافيا تغيّرت ملامحها الأولى، متجاهلين أو ناسين أن التاريخ المعاصر لا يمكن الافتراء عليه، فكل صغير وكبير موثّق بالصوت والصورة، والعدو المُهدد بالويل والثبور، أصبح مثل مسمار جحا في البيت المرهون أو المُرتهن.

عندما وضعتُ عنوان المقال، بنيته على الخيال، أو المُتخيّل، كون الذي أشغلنا بإسرائيل قادراً على إشغالنا بغيرها، أو إن لم يجد غيرها فسيشغلنا بنفسه، وربما كان وجود العدو ضرورة، أو حاجة، أو رحمة، ليخفف من صلافة الصديق، في فضاء عربي، يتحمّل إنسانه العلّة من الغريب، ولا يحتمل زلّة من قريب، وبقدر ما سيتصوّر الظلّ أنه يحجب الشاخص، فهو واهم؛ لأنه لولا الشاخصُ ما كان ولن يكون ظلاً.