نستسقي وإلا نستمطر؟ طرح هذا السؤال الإشكالي؛ صديق عاشق لحوارات (العِلم والإيمان)، ولا ريب أن كل محدثات ومعطيات ومنجزات عصر تُشرِعُ مساحات المثاقفة بين أطراف، وجبهات، وجهات، ووجهات نظر، وتستدعي المزيد من وقود الآراء الجادة وإن كان بعضها حاداً، ومنطلق سؤال الصديق هو برنامج (الاستمطار) بصفته حاضراً هذه الأيام، ولعله يشعل نار الخلاف بين الكلاسيكيين والعصريين كل مساء حول قدرات البشرية، وتقدير الخالق، وأثر العِلم على حياة الناس عبر الأزمنة.
ولربما لا يدرك البعض أن المحاولات الأولى للمطر الصناعي انطلقت في الستينيات الميلادية، وأنا أكتب في هذه اللحظة خطرت في البال منجزات معاهد الخصوبة، التي ربما تُطلعنا في قريب الأيام على ما يُذهل عقول البعض، ويدخلهم دوائر الجدل، بحكم ما بلغوه من منجزات التعديل في جينات المواليد، وتحديد السمات والخصائص للجنين قبل قدومه للدنيا، بل منذ هو نطفة في بويضة، وهذه التعديلات كان يرى العقل النقلي استحالتها، ويرفضها البعض ويراها منافية لما جزمت به (الصيغ القولية) لظاهر النصوص الدينية، إلا أن النظريات التجريبية تقوم على قانون «لنذهب أبعد ما يمكننا»، وبالفعل سنسمع عجباً، ونرى أعجب.
ومن يتابع أخبار الفضاء يعرف أن مراكز أبحاث الفضاء لم تتوقف عن إجراء التجارب على كواكب ومجرات، وهي تحاول أن تَنْفُذ من أقطار كوكب الأرض إلى المريخ وغيره، بكل ما أتاحته الرقمية من اختراعات.
جاء الإنسان إلى الحياة أو نزل من الجنة مسكوناً بهواجس عدة، منها الخوف من المجهول، وتلبسته أفكار مقلقة، وفي ظل ما أحاط به من تضاريس شديدة الوعورة، ومناخات ساخنة ومطيرة، وأحلام ومنامات تجعل عينه طوال الليالي سهيرة، وتوالدت في ذهنه الأسئلة التي خصص لها جُلّ الوقت ليبحث عن إجابات.
ولشدة الهلع من الظواهر، جعل لكل منها طوطم، أو رمزية تشبه مقام صنم أو (آلهة) يتقرب منها كي لا تغضب عليه، ويتفادى انتقامها بتقديم القرابين لها، فالقمر محبوب النساء، وهو الذي يتسبب في الطمث مرة كل شهر، والشمس سيدةُ السماء التي حلّت محلّ ملكة من الملكات، وكلما كسب رضاها حلّت عليه البركات، وإن غضبت عليه أنزلت سخطها ولعناتها، ومثلما تعلّم (قابيل) من الغُرابِ كيف يواري جثة أخيه، تعلّم الإنسان من الحيوان والطير وحاكاهما.
كانت مهنة الصيد أوّل المهن للإنسان، ثم الزراعة، ثم الصناعة، وأنتج الحرف بفضل الحاجة التي هي أم الاختراع، وكانت الأحلام مؤرقة، ولذا يمنح من يفسرها له قداسة، وكانت الظواهر تحفّز وعيه، للبحث عن حل أو مخرج، ولو بالتصالح مع ما يُحيط به من قوى فوق طبيعية، ليسلم من شرّها ويطمئن على نفسه، في زمن لم تكن الأديانُ حاضرة؛ لتربطه بخالق الكون، ليشعر بشيء من الأمان.
لجأ الإنسان لمن يفسر له حلمه، ورؤياه، ثم طارد المنجمين الأوائل؛ لفك رموز بعض معاناة النفس البشرية، وجاء عصر السِّحر فكان أرقى درجة، ثم تنزلت الكتب السماوية، وعلت مكانة رجال الدين، بوصفهم مفسري العلل والمعلولات، والمقدمات والنتائج، وما زلنا إلى هذا اليوم وربما إلى الغد نرتاح لتفسير المتديّن، ولو لم يكن صواباً.
احتدّ بعض أتباع الأديان في موقفهم من العلم، باعتباره ناقضاً لغزل الثوابت، وكشّرت له عن أنيابها، وكشفت له وجهاً عبوساً كونه منافساً شرساً يريد أن يشاركها في إدارة البشرية، والكون، وحاربته مثلما حاربت التنجيم والكهانة والسحر والعِرافة.
نسمع اليوم عن عصر النهضة الذي فُتح باستعادة الفلسفة لينبني عليه العلم، ثم دخلنا مرحلة الرقمية والذكاء الاصطناعي، ومن السابق لأوانه أن نقول «انتهى المشوار» و«احنا لسه فأوّل يوم»، فما أؤتينا من العلم إلا قليلاً، وفوق كل ذي علم عليم.
ولكي أُخرج المقال من سدة تأويلات سيئة الظن فإن العِلمَ لا يُناقضُ الإيمان؛ لأنه أساس في الرسالات السماوية (فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك)، والإسلام رفع مقام ومكانة العلماء، وما ينبغي لمؤمن أن يعادي العِلم، ولا أن يظل عدواً لكل ما جهله.
ومن الحِيَل التي تخفف ضغط سؤال أين سيذهب بنا العلم، وماذا تخبئ لنا الكشوفات؟ أن نستعيد أحد الأجداد ممن توفاهم الله قبل مائة عام فقط ونسأل: هل يمكن تصوّر مشاعره وانطباعاته إذا اطّلع على ما وصل إليه العالم من تقنية، وتمدن، ووحشية أيضاً؟ ثم سؤال آخر بالمقابل: ما الذي سيقوله حفيد من الجيل السادس عنا بعد مائة عام أو أكثر؟ ومن نحن في نظره؟.