-A +A
نجيب يماني
مقبلاً على الحياة بشغف الواله، وعنفوان المحب المتيّم، تزوَّج قطب الإعلام الشهير روبرت مردوخ، البالغ من العمر (93) عاماً، الأسبوع المنصرم، من عالمة الأحياء البحرية إيلينا جوكوفا، البالغة من العمر (67) عاماً،

فلو نظرت إليهما في لحظة الزفاف بمزرعة الزوج في كاليفورنيا، لحسبت أنهما في طور الشباب لم يزالا، وكأنهما لم يجربا الزواج من قبل، وكأن «مردوخ» لم يسبق هذه اللحظة بخمس لحظات من زيجات سابقات، فبدا وسيماً، مفعماً بالحياة، مقبلاً عليها، فرحاً بما لقي، شغوفاً بما نال، ضاجاً بالحب، والحال نفسه لدى العروسة «إيلينا» وقد ألقت برأسها على صدره، عريس قمر وعروسته نقاوة


وقفت أتأملهما طويلاً، وتقافزت إلى خاطري صور المقارنة والمفارقة بين ربعهم وربعنا، فلو أن شيئاً من هذا حصل في مجتمعنا، لخرجت ألسنة الاستهزاء من محابسها، ولجردت «مردوخ» من فضائل الحياء، ولنعت عليه هذا «التصابي» التي لا يليق بـ«شيخ» طعن في السن، ولم يبقَ له من العمر الكثير، مع يقين ثابت بأن الأعمار بيد الله..

فما أبعد المسافة إذاً بين من يقبل على الزواج في هذا العمر إقبال محب واله وعاشق، وبين مقبل عليه عندنا إقبال واجب وستر وغايات غير مفصح عنها، فتتم المراسم بلا فرح معلن، ودون مشاعر تبذل، وإنما هو «قدر» وقع، وحاجة تقضى، وستر واجب وليلة نكد.

هل غاب عنا أن نفهم معنى المشاعر الصادقة حتى وإن تقدمت بنا الأعمار؟

هل محتم علينا أن نخفي هذه المشاعر خوفاً من أسرة تكونت سلفاً، وعيال كبروا، ومجتمع يقيد حركة الكبار وفق نمط سلوكي لا يسمح فيه بالتعبير عن المشاعر، أو الإفصاح على مكنونات القلب، الذي يتقافز رشاقة، ويتوثّب صبابة، في جسد عبرت به السنين ضفاف الأماني الخلب، والوعد الأخضر، والأمنيات البوارق.

ما أقسى هذا الحكم الجائر على قلوب ما زالت حفية بالحياة، لكن يمسكها الخجل، ورغبات طبيعية يقيدها قيد المجتمع المصمت، فتموت كمداً، وتتحرق شوقاً، وتذوب في أضابير الحياة بصبرها فلا سبيل لأن تعشق، فتلك من مفردات الصبا، وعمر الشباب وليس مسموح لها أن تحب وتهوى وتعشق وقلب في ضرام الحب أن يحرق.

ستجادل دون جدوى، رغم النصوص الدينية، والشواهد التاريخية، تساندك، فكلهم قرؤوا قوله عز وجل «زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ۗ ذَٰلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا»، يقول ابن حجر في فتح الباري تعليقاً على الاية فجعلهن من حب الشهوات وبدأ بهن قبل بقية الأنواع من الشهوات إشارة إلى أنهن الأصل في ذلك.

فجاء حبهن أول ما جاء في قلب الرجل، وما فتئ الرجل يشتهي المرأة وإن كان عنده منهن أوفر الحظ والنصيب. وقد بدأت آية النكاح بالتعدد. فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى، وهذه هي القاعدة والأصل، فبدا بذكر زوجتين ولم يقل واحدة.

كما أن الله شبه الزوجين بزهرة الحياة الدنيا؛ وهل ثمة أجمل من الزهرة وهي تتفتح وتتبرعم وترسل شذاها فتحيي النفس بعد موتها؟

يقول نبي الأمة: «حبب إلي من دنياكم، الطيب، والنساء وجعلت قرة عيني في الصلاة»، فجاء حب النساء إلى قلبه الشريف أولاً وقبل أي شيء.

وقد توفي علي بن أبي طالب عن أربع زوجات وست عشرة سرية.

وجاء في قوله عليه الصلاة والسلام في رد التبتل: «ولكني أصوم وأفطر وأصلي وأرقد وأتزوج النساء»، وللفظ النساء هنا مدلوله في الجمع والتعدد. فالتعدد بمدلولات هذا الحديث أصبح سنة بقوله عليه الصلاة والسلام وبفعله.

فليس لنا عبادة شرعت من عهد آدم إلى الآن ثم تستمر في الجنة إلا النكاح والإيمان، وأن الاشتغال بالزواج أفضل من التخلي لنوافل العبادات.

يقول ابن مسعود لو لم يبقَ من أجلي إلّا عشرة أيام واعلم أني أموت في آخرها يوماً ولي طول النكاح فيهن تزوجت. فالمرأة تحتل مركزاً متقدماً في عقل الرجل وقلبه وحياته. كل ذلك أدركوه، لكنهم قيدوه بقيد المجتمع، ورفعوا الأعراف لتكون سيدة الموقف، والضابطة للتفاصيل، والمحددة للمراسم، ولكل قلب حدود، ولكل عمر ما يناسبه، فإن خرج عن ذلك شيّع بالمواخذ، وانتاشته الألسنة بالتقريع وتنمحي عن الخواطر كل الآيات والأحاديث والشواهد، فلا عذر لقلب أحب بعد مديد العمر، وتولّه بأنثى، وأدركته بعشقها، وبقي لقاؤهما موسوماً بـ «الاستثناء»، ومحكوماً عليه بنظرة «الاستغراب» وكأنهم لم يرخوا أسماعهم لصوت الشاعر ينادي:

عشقتها حتى شاب وليدها

والناس في ما يعشقون مذاهب

أعلم أن البعض ذاهب نحو القول بـ«أنانية» الرجل، وأنه يرضي حاجته، ويشبع غروره، ولا يهتم بشريكة حياة قاسمته «الحلو والمر»، وما لقيت منه غير النكران والجحود، وذهاب قلبه إلى أخرى، ولن يجدي مع هؤلاء أن تذكرهم بطبيعة الرجل، وعنفوان قلبه، وطبيعة تكوينه الجسدي والنفسي، واستعداده للإقبال على الحياة، في الوقت الذي «تتقاعد» فيه شريكة حياته الأولى عن الحياة، وتبقى حضينة «سن اليأس»، فلا مشاعر تبذل، ولا شغف تحس، وإنما هي رتابة مملة، وعيش كيفما اتفق، وأيام تمضي. لحظة لا يوقظها إلا «غيرة» بلا مبرر تنتاش قلبها، حين يعبر الرجل الحاجز النفسي بالجرأة ويعلن زواجه بأخرى.

الشاعر ابن المعتز، صوّر حالة عدم الاتزان النفسي الذي تمر به، من تزوج عليها زوجها:

خبّرُوها بأنني تزوّجــتُ

فظلتْ تُكاتمُ الغيظَ سرَّا

ثمَّ قالتْ لأختها، ولأخرى

جزعاً: ليتهُ تزوّجَ عَشْرا

وأشارتْ إلى نساءٍ لديها

لا تَرى دُونهنَّ للسرِّ سِتْرا

ما لقلبي كأنَّهُ ليسَ منّي

وعظامي أخالُ فيهنَّ فتْرا

لحظة عمر معجونة بفرح تشهدها الأرض وتباركها السماء وصوت الزغاريد يرسل أصواته طرباً ومردوخ يتأبط ذراع أيلينا وهي تردد مع شادية:

عايزه حياتنا تكون على طول مشحونة عواطف جد وهزل ورعد وبرق وريح وعواصف.

ألف مبروك للعروسين وعقبال عندكم.