-A +A
نجيب يماني
مكة المكرمة زحمة، والحرم يموج بألوف الحجاج، أصوات تتعالى بلغات ولكنات يسمعها الله ويفهمها وحده، يجبر قلوب السائلين، ويعطي المحرومين وأصحاب الحاجات، وكل سائل، سؤله ومبتغاه.

في غمرة الزحام والتدافع والحر اللاهب قد يحدث للحاج أن ينتقض وضوؤه أثناء الطواف، فيقع في الحرج والمشقة ويصيبه قلق نفسي وخوف بسبب اشتراط الطهارة في الطواف، لقوله عليه الصلاة والسلام «الطواف صلاة»؛ أي أن شرط الطواف الطهارة مثله مثل الصلاة.


ولكن هذا دين الرحمة بعيداً عن التشدد والغلو علم الله أن فينا ضعفاً، فخروج الحاج أو المعتمر من صحن الطواف مع شدة الزحام فيه حرج شديد ومشقة، وفي حالة الرجوع إلى الطواف بعد الخروج منه للطهارة تكون المشقة أشد وأنكى وتلزم الحاج الإعادة من جديد.

وتأتي المشقة والعسر والحرج أيضاً في حق النساء، إذ قد يصادف وقت رحيلهن وهن على غير طهارة بسبب الدورة الشهرية فلا تستطيع المرأة الدخول إلى الحرم ولا الطواف بسببها، وهي مرتبطة بمواعيد الرحلات وضرورة المغادرة مع فوجها ولا تستطيع تغييرها ولا تأخيرها.

فتقع في حرج، إذ إنها لا تستطيع السفر بدون طواف الإفاضة، فهو ركن لا يصح الحج بدونه مثله مثل الوقوف بعرفة، فهما ركنان أساسيان لا يتم الحج بدونهما.

وفي نفس الوقت لا تستطيع الطواف بسبب هذا المانع.

ويأتي هنا دور المذاهب الإسلامية بسعتها واختلافها الفقهي لصالح المسلمين للخروج من أي مأزق رحمةً وتيسيراً لهم.

ذهب أبو حنيفة إلى صحة الطواف على

طهارة، ويلزم لذلك كفّارة إطعام ستة مساكين أو صيام ثلاثة أيّام أو دم لجبر النقص في هذه العبادة. مستنداً في بدل الكفّارة لقاء النقص في العبادة بقوله تعالى في حق الصحابي كعب بن عجرة {.. فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ..}.

يقول كعب بن عجرة: (حُملت إلى النبي والقمل يتناثر على وجهي، فقال عليه الصلاة والسلام «ما كنت أرى الجهد قد بلغ بك هذا، أما تجد شاة؟» قلت: «لا»، قال: «صُم ثلاثة أيّام أو اطعم ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع من طعام واحلق رأسك». فنزلت هذه الآية فيّ خاصة وهي لكم عامة).

فكانت دليل أبو حنيفة على تعويض أي نقص في العبادة، وجاء حكمها على التخيير بين الذبح أو الصيام أو الصدقة، لقوله عليه الصلاة والسلام (أو) بين بدائل الكفّارات، وهي للتخيير عند أهل اللغة.

أجاز المذهب الحنفي أداء الطواف على غير طهارة بالرغم من حديث رسول الله «الطواف صلاة»، فهم أجازوا هذه العبادة على غير طهارة للعذر باعتبار أن هذا الحديث خبر آحاد، ووفق قواعدهم الأصولية أن خبر الآحاد لا يُخصّص ولا يُعمّم مطلقاً ولا عموم القرآن. وقد جاء في الطواف قوله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ}. وجاءت هذه الآية على إطلاقها من غير قيد في عدد الأشواط ولا في اشتراط الطهارة ولا جعل الكعبة على يسار الطائفين ولا من أين يبدأ.

ولذلك يجوز عند الحنفية الطواف بلا طهارة، مع الكفارة، وقد ذهب ابن تيمية إلى صحة طوافهن ولا يلزمهن كفارة؛ لأنهن لسن مفرطات ولا كفارة عليهن فيما لا تفريط فيه.

بل لو طاف المرء أربعة أشواط أجزأته عن الباقي لأنه قد جاء بأكثر من النصف، وعليه من الكفّارة عن كل شوط من الناقصة إطعام مسكين واحد.

وفي هذه الأحكام تيسير ورفع حرج عن الحجاج، وهو مطلب شرعي، خاصة في هذه الأيام الصعبة من الزحام وشدة الحر.

فالمرأة التي تكون حائضاً ولم تكن قد طافت طواف الإفاضة؛ وهو ركن لا يصح الحج بدونه، وحان وقت سفرها، تستطيع أن تستنفر أي تضع فوطة صحية مكان نزول الدم وتطوف.

ولكن طواف الإفاضة على أي حال يجوز تأخيره إلى غير أمد عند عامة أهل العلم، غير أن الحج في هذه الحالة يكون معلّقاً.

وفي جواز تأخير هذا الطواف تيسير ورفع الحرج على كثير من الحجّاج؛ فإن من يستطيع منهم السفر إلى بلاده والعودة إلى مكة ويؤدّي هذا الطواف فإن هذا جائز أيضاً ولا كفّارة عليه ويكون طيلة هذه الفترة ممنوعاً من مقاربة النساء، لأن التحلّل الكامل لا يتم إلّا بطواف الإفاضة.

والخلاصة أن طواف الإفاضة ركنٌ لا يصح الحج بدونه، ويجوز عند الحنفية أداؤه على غير طهارة مع الكفّارة. ويجوز عند كافة أهل العلم تأخيره إلى غير أمد بلا كفّارة. وهذا من سعة الدين ورحمة الله بالمسلمين والتخفيف عليهم.