-A +A
صدقة يحيى فاضل
اعتاد كثيرٌ من المحللين السياسيين، في نهاية كل عام، على إجراء تقييم عام شامل، لأهم ما جرى من أحداث في العام المنصرم.. ومحاولة استشراف طبيعة العام المقبل، والتنبؤ بما سيحمله من تطورات، وتداعيات.. اعتماداً على مجرى أحداث ووقائع العام المنصرم قبله. وهو «تقليد» مفيد.. يدعم عمليات التحليل، ويثري محاولات الفهم؛ أي أنها عملية توضيح ما كان، ودوره فيما هو كائن، تمهيداً لما سيكون في المدى المنظور.

والواقع، أن أخطر وأهم وقائع أي عام -غالباً- ما تكون سياسية.. لأن «السياسة» هي: الإدارة العليا لأي بلد.. ولأن هذه «الإدارة» توجه التطورات الرئيسة، في كل المجالات الأخرى. لذا، قالوا (محقين): إنّ هذه «الإدارة» إن صلحت، صلح كل شيء في الحياة العامة، وإن فسدت، فسد كل شيء -تقريباً- في تلكم الحياة. ومعروف، أن «السلوك السياسي» (القرارات والسياسات) غالباً ما يكون إيجابياً، أو سلبياً، أو بين بين. ولا يتم، في الغالب، البناء، أو الهدم، المتعمدان، الا بسلوك سياسي.


وهناك من يصر على أن: «العالم اقتصاد».. وهذا -في الواقع- صحيح، إذا أخذنا في الاعتبار: أن الحياة ككل هي -أساساً- «لعبة مصالح»، وأن معظم هذه المصالح مادية.. ورغم ذلك، فإن «السياسة» تدير هذه اللعبة أو تشارك في إدارتها؛ أي أنها تدير الاقتصاد كما يديرها الاقتصاد إلى حد كبير. ولكن، تظل «السياسة» هي المحرك لهذه اللعبة، والمدير الأكثر سلطة.. فهناك -ولا شك- تأثير متبادل بين السياسة والاقتصاد. ولكن تأثير السياسة أقوى من تأثير الأخير عليها.

وإذا أخذنا بالتعريف العلمي السليم لـ«السياسة»، تصبح السياسة الدولية هي من يدير -بصفة أساسية- العلاقات الدولية المختلفة، برمتها. الأمر الذي جعل العلاقات السياسية الدولية هي المحدد، والموجه الرئيس للأحداث المتنوعة. لهذا، استحقت أن تكون في صدارة اهتمام المهتمين بالشؤون الدولية. يكفي أنها تصنع السلام و/‏ أو الحرب.

*****

إن استرجاع أحداث أي عام منصرم -على أي حال- وتحسس نقاط الصلة بين تلك الأحداث، ومحاولة معرفة أسبابها ونتائجها وتداعياتها، واتجاهاتها، يسهم -كثيراً- في توقع وفهم الأحداث المقبلة.. التي يحملها العام الجديد (أو الوقت الحالي)، لأنه امتداد -زمني- لما قبله. فالزمن ليس إلا طريقاً طويلاً واحداً (ثلاثي الأبعاد: ماضٍ، حاضر، مستقبل).. تسير فيه الوقائع، وتتوالى التطورات. ومن كتبت عليه (من قبل من هو أقوى منه) خطى مشاها، غالباً.

كما أن «علم العلاقات الدولية» (وعلم السياسة بعامة) يقدم «أطراً» علمية وموضوعية مهمة، في صدد الفهم (والتنبؤ)، تساعد على تحليل الأحداث، وتفهُّم أسبابها ونتائجها، وتداعياتها المحتملة، بأسلوب موضوعي. واستخدام هذه الأطر -أو تطبيقها- على مناطق معينة من العالم، لمعرفة طبيعة العلاقات الدولية في تلك المناطق، وأهم اتجاهات تحركها، وسيرها، هو الطريق الأكثر صحة ودقة، لمعرفة واقع تلك العلاقات، واتجاهاتها المستقبلية؛ أي: التنبؤ -بدرجة معقولة من الدقة- بما ستكون عليه هذه العلاقات (الأوضاع) مستقبلاً.

****

وكثيرٌ من علماء العلاقات الدولية يقولون: إن استيعاب طبيعة العلاقات الدولية الراهنة في المنطقة العربية، وغيرها من المناطق المشابهة، والإلمام بأهم توجهاتها المستقبلية، وما ستكون عليه -في الآماد المختلفة- لا يكتمل (ولا يصح) إلا إذا استوعب المعنى عدة أطر تحليلية (نظرية) وطبَّقها على واقع العلاقات السياسية في المنطقة المعنية باهتمامه. ومن أهم هذه الأطر، نذكر: 1- نظرية الاستعمار الجديد، 2- النظام العالمي القائم، 3- الديكتاتورية في مواجهة الديمقراطية، 4- عوامل قوة أي دولة، 5- نظرية جماعات المصالح.... إلخ.

وأتفق بأن فهم النظريات (أو الأطر التحليلية) المذكورة، وغيرها، يسهم (إسهاماً فعالاً) في فهم «ما هو كائن»، و«ما سيكون».. من علاقات ووقائع سياسية دولية في المنطقة العربية، التي يشار إليها بـ«الشرق الأوسط»، وفى غيرها من مناطق العالم الثالث. ونضيف إلى ذلك: ضرورة فهم الحركة «الصهيونية»، التي نُكبت بها هذه المنطقة بالذات.. حتى يكتمل فهم ما يجري وسيجري من أحداث، في هذا الجزء المضطرب من الكون.

وكل ذلك لا يغني عن قراءة بعض الكتب العلمية السياسية، ومتابعة «الأخبار»، ومحاولة فهم مغزى الأحداث، والتطورات السياسية، في أي منطقة. هذا، إن أراد المرء أن يمتلك قدراً من الإلمام بحقيقة ما جرى، وسيجري فيها. ولا يخفى على المتابع الحصيف: أن أحداث اليوم، وأوضاعه، هي وليدة «الأمس».. أما أحداث «الغد»، وتطوراته، فهي امتداد لوقائع «اليوم».. باعتبار ثلاثية أبعاد الزمن.

****

وهذا الحديث ذو شجون شتى؛ إذ يثير تساؤلات عدة، تتعلق بمضمونه، ومغزاه، منها: ما دور المتبحّر، الخبير بالسياسة، أو مَنْ يمكن أن يسمى بـ«عالم السياسة»، في شرح وتفسير الأحداث السياسية المتلاحقة. هنا، لا بد من التفريق بين «ما هو كائن» (الواقع/ ‏الحقيقة) وبين «ما يجب أن يكون» (المأمول). ويفترض أن عالم السياسة هو من أكثر الناس معرفة، وإحاطة، بـ«ما هو كائن»، الذي يتحدث عنه. ويفترض أنه يعرف أن علم السياسة يقدم له «أفضل» ما يجب أن يكون لمعظم «ما هو كائن»، محل الاهتمام، خاصة عندما يكون ذلك الـ«ما يجب أن يكون» قائماً على الـ«قيم» الإنسانية النبيلة العامة المشتركة فيما بين البشر؛ أي القيم التي يبجلها، ويثمنها غالبية البشر الأسوياء... أما إذا كان الـ«ما يجب أن يكون» الذي يقترحه، مخالفاً لهذه القيم، فإن ما يقترحه هنا يعتبر من باب التضليل، وضروب النفاق، أو الجهل. ولا، للتضليل!