-A +A
نجيب يماني
بعد معاناة استمرت أعواماً دوارين في الشوارع نبحث عن وايت ماء، أزمة عشناها تجلت في انقطاع المياه وشحها نقضى سحابة يومنا وشطر من ليلنا بين أشياب التحلية في طوابير طويلة لنحظى بمن جعلها الله سبباً لكل شيء حي.

حتى أطلّ علينا عهد جديد حاملاً البشرى برؤية المملكة الطموحة، رؤية فتحت الباب لشموس الغد لتعانق سماء الوطن، وترسم لنا الطريق نحو استلهام المستقبل، والبحث عن «جودة الحياة» على إيقاع الرؤية. فأصبحت المياه المحلاة تجري إلى صهاريج بيوتنا برسوم معينة وعدادات ذكية وخدمات موفقة، واختفت الوايتات المزعجة بسوقها السوداء وابتزاز سائقيها للمحتاجين وحوادثهم الأليمة ومناظرها المؤذية، ونسينا طريق أشياب التحلية.


فالشكر لمسؤولي شركة المياه الوطنية وتفهّمهم بأن هناك رؤية، وأن هذه الرؤية تهدى إلى خير الوطن وأهله فتمتد التمديدات إلى باقي أحياء مدينة جدة التي تتوسع وتتمدد في كل الاتجاهات وتختفي بقية الوايتات من على أرض المدينة.

في المقابل استبشرنا خيراً بإعادة هيكلة الإدارة العامة للصرف الصحي بعد ان أشبعنا القائمون عليها سابقاً بوعود وعهود وكلام معسول بأن العمل يجري ويسابق اللحظة، وأنه بحلول عام 2015 كل البيوت مشبوكة بتوصيلة للصرف الصحي، وكانت وعود عرقوب أباطيل.

هدفت الهيكلة لتقديم الدعم التشغيلي والفني والتوسع في بناء شبكات الصرف الصحي والاستفادة من المياه المعالجة ضمن مبادرات برنامج التحول الوطني ورؤية المملكة الباذخة والهادفة لخير الوطن ومن يعيش على أرضه. من المفترض أن يكون هذا القطاع التابع لوزارة البيئة والمياه والزراعة قد اكتسب خبرة واسعة ولديه تجارب متراكمة نتيجة ما مر عليه من أحداث ومشاكل وخيبات يحتفظ بها للعبرة والعظة وتجنّب أخطاء الماضي والعصمة من تكرار البدايات الساذجة، ومنزلقات التقصير التي عانينا معها الكثير، فلا يمكن تفسير أي تقاعس الآن إلا أنه ضرب من الإهمال والتقصير، ينبئ عن عدم احترام لمن يتعامل معها.

في خاطري تحتشد مواقف متعددة بلون العتب والغضب والانفعال والقهر والأسف دوافعها أن الشركة مصرة على تنغيص حياتنا، تحرمنا أن نعيش جودة الحياة، نسكن في حي نموذجي شمال مدينة جدة مجموعة بيوت حديثة صرف عليها ملاكها الغالي والرخيص لبنائها بشكل صحيح يتناسب والوضع المعيشي الذي نحيا فيه، وصلت إلينا كل الخدمات وغابت عنا خدمة الصرف الصحي، أسقطتنا من ذاكرتها دون تبرير.

فلا تزال الوايتات القميئة بشكلها وعفنها وما ترسله علينا من بقاياها بكلّ الألوان والإشكال وشتى الروائح تعطر فضاء المكان، رائحة تدخل عبر النوافذ المغلقة والأبواب المؤصدة، تفرض نفسها بالقوة على قاطني البيوت، تتعلق بذرات الهواء المشبع بالرطوبة، تهاجمك، تلصق بك، تعطرك برائحتها النفاذة. فلا تملك حيالها إلا عطاساً مستمراً وحساسية تنخر جيوبك الأنفية وحكة مؤلمة في عيونك تذرف دمعاً برائحة المجاري. يعانق بصرك صباحاً بعض ما خلفته وايتات الشفط على حفر الطريق، وهي كثيرة وعلى الأرصفة المكسرة والسيارات الواقفة وأوراق شجرة البروزميا المفروضة علينا غصباً من قبل أمانة جدة. هذه الوايتات لا يحلو لها الشفط وفتح خزانات الصرف الصحي للمنازل إلا بعد منتصف الليل وسط السكون والهدوء، تقف تئن بفحيح مزعج يشاركه بعنف أكبر صوت ماتور الشفط الراكب على ظهر الوايت ينفث الديزل مع رائحة البيارة يخدش سكون الليل وهدوء اللحظة سارقاً الوسن من عيون نائمة تحلم وأجساد مرهقة تبحث عن الراحة في مخالفة صريحة لقانون الطبيعة.

منطقتنا تقع جنوب ميدان التاريخ في حي اسمة الزهرة، ليس له من الزهرة نصيب؛ بفعل غياب شبكة الصرف الصحي وإهمال القائمين عليها توصيل الخدمة.

والسؤال الملح: لماذا تركت الشركة وهي المسؤولة هذا الحي لوايتات الشفط غير الصحية، وجعلتنا نعيش في معاناة وتعب ومناحلة مع سائقي هذه الوايتات وأسعارهم بعيداً عن جودة الحياة ورقيها المطلوب؟!

الشركة تملك الكثير من الإمكانات والدعم الحكومي غير المحدود، تتربع كوادرها على مبني جميل في أفضل مواقع المدينة، لديها فرصة كبيرة للتحول إلى مرحلة مميزة وعلامة فارقة في تاريخ تقديم الخدمة المدفوعة للمواطن خاصة أن الصرف الصحي في مدينة جدة لم يأخذ حقه المطلوب من قبل، فبعض من مر عليه اعتبره من الترف، وقال إن البيارات أفضل من المجاري، وضاع الصرف الصحي بين المهاترات وتبادل الاتهامات وعناد هذا وذاك.

مقالي هذا حتماً ليس للتشهير، بل التنبيه لمواطن الخلل بغية إصلاحه، وأن يلقى الضوء على ما بقى من الطريق لا على ما فات منه.

إننا نعيش عصراً تحولياً جديداً، وبنظره إيجابية متفائلة تحمل الأمل لغد مشرق واعد، لا مكان للمتقاعسين فيه، برؤية وطنية كشفت الغمة، وأنارت للوطن طريقاً مفعماً بالخير والأمل يتناسب وحجم الحلم الذي يراود كل من يعيش على أرضه. لا بد من إنزال رؤية 2030 إلى أرض الواقع، وأن هناك واجباً كبيراً يتطلب الخروج بالرؤية من محضن التنظير إلى براح الفعل الملموس، وأن نتهيأ لواقع جديد، وتغيرات جذرية لمواكبة التحول الوطني، وما تسعى إليه الدولة في تشكيل الوعي المجتمعي المتسق مع روح العصر، وأحد مظاهره التخلص من كل المعوقات والإهمال، وأن نكون على قدر المسؤولية في بناء هذا الوطن الذي أصبح اليوم قبلة الدنيا ومحط أنظار العالم واهتمامهم.