ظلّت ثلاثية؛ التطرّف، والتوسّط، والتفريط، بدرجاتها المختلفة والمتباينة، مدار نشاط العقل الإنساني، ومسرح جولان فكره، في ما يستقبله من معتقدات وأفكار، سواء كانت سماوية أو أرضية، بدرجات متفاوتة تتحكّم فيها عوامل كثيرة، تتشابك، وتتقاطع، وتتوازى بما يشكّل في النهاية موقفه المائز، وانحيازه المسيّج بقناعاته، وإيمانه الذي يسير به بين الناس مطمئنًا.
وما شُقيت الإنسانية بأمرٍ قدر شقاوتها بمن يحاولون حمل الناس بالإكراه والتعسّف والجبر والتطرّف والغلو للقبول بمخرجات عقولهم، والانصياع لمعتقداتهم، والتماهي مع ما يجنحون إليه من تفسير، ويركنون إليه من تأويل، مضيّقين ما يتسع، ومستفردين بهذا «الحق» ظلمًا وجهلًا.
وقد شقينا في هذه الديار المباركة ردحًا من الزمن بطائفة منهم في زمن الغيبوبة، التي لبست اسم «الصحوة» زورًا، فلم يكن لها من اسمها إلا ما أيقظ الفتن النائمة، وأذكى ضرام التعنّت والفرقة والشتات، لكن البشارة جاءتنا مع بزوغ فجر «الرؤية»، التي استأصلت شأفة «الصحوة»، وداوت سعارها الفائر، ولجمت خطاب غلوّها المنبعث من ألسنة حداد، أشحة على الخير، فتنفّس الناس الصُّعداء، وبرئت آذاننا من خطب التبديع والتفسيق والتكفير والرمي بالتهم جزافًا
وهو حال نأمل فيه الخير الكثير، ونتوسّم فيه الاستقرار الأمثل بنوازع التوسّط والوسطية، التي حضّ عليها ديننا الحنيف، وحثّنا عليها، نبذًا للإفراط، ومُجانبة للتفريط وهو درس وعاه كثير ممن ركبوا موجة «الصحوة» في السابق، بعد أن بلغوا الغاية في التفريق بين الناس بتفتيش النوايا، والعجلة في التصنيف، والإسراع بالتبديع والتفسيق والتكفير لكل من خالف نهجهم، وارتأى غير ما يرون في مسائل تحتمل الاختلاف والنظر المتباين، فاعتدلوا بعد تطرّف، وصحّ قولهم بعد سقم واعتلال.
غير أن البعض ما يزال على سابق عهده بالصحوة، بوضع نفسه موضع المحتكر لفهم الدين، والحامل لأختام «التصنيف» والجالس على أبواب القلوب يحصي ما يطوف عليها، وما يستكنّ فيها، متأليًا على الذات العلية، ومقتعدًا لنفسه مقعد «المصحح» للعقائد، ومنصّبًا نفسه المسؤول عن علاقتهم بربهم.
فإن رأيت فيما أقول تعميمًا غير مسنود بمثال حيٍّ، فما أزيدك غير لفت نظرك إلى ما «تفضّل» به الكاتب محمد السعيدي من آراء طي مقاله المنشور في الوطن بتاريخ الأول من سبتمبر 2024م، بعنوان «عدت على الرحب والسعة يا شيخ فدعق»، في معرض رده على مقال للكتاب عبدالله فدعق، الموسوم بـ«كفى تبديعا».
ففي «تلافيف» ذلك الرد تستيقظ أفكار «الصحوة» من مواتها الأكلينيكي، وتحاول النهوض من مراقد قبرها المطبق عليها، وعى السعيدي ذلك أم لم يعِ..! فإن وجد في هذا ما يستغربه فليعد إلى تفاصيل رده، من مبتدأ عنوانه؛ «عدت على الرحب والسعة يا شيخ فدعق»، وما ينطوي عليه من حمولة «التربّص»، التي كشفت عنها طوايا المقال، فلم يكفه ما جاء في مقال «فدعق» من طرح عن «البدعة»، استحسنه «السعيدي» بقوله: [نشر عبدالله فدعق في صحيفة «الوطن» مقالة جميلة يدعو فيها إلى الوحدة وترك الخصومة، والانشغال بما هو الألزم والأهم من دفع الصائلين على بلادنا في الإعلام الخارجي]، فكان الأوفق أن يمضي في ذات الاتجاه، ويتماهى مع الخطاب الحاض على التوحّد، وأن يراجع موقفه «هو» من «البدعة»، ويضيف إلى فهم «فدعق» فهمًا جديدًا بتصحيح اعتقاد البعض عنها، وتذكيرهم بأن «البدعة» ليست دليلًا شرعيًا يحمل في أضاميمه حكمًا؛ وإنما هي «وصف» لحالة، يكون مدار الحكم عليها من ثمَّ قائم بوضعها في موازين الشرع، وفق الأحكام التكليفية الخمسة؛ الفرض، والندب، والحرمة، والكراهة، والإباحة، وأن يلزم ويلتزم بما تواطأ عليه العلماء في مقام العلم والبحث بهدوء النَّفَس، وسعة الإدراك، وسلامة المرجع، وما استقرّ من أقوال الأفاضل في هذا الدرس المهم، وما جاء في كتب الأئمة من أمثال الشافعي، وابن الأثير، والغزالي، والزركشي، والشاطبي، وغيرهم، ممن عرّفوا البدعة خير تعريف، وأنزلوها خير منزل مستقر غير قلق ولا نافر أو منفّر.
هذا الذي كنت أتوقعه وأتوسمه من «السعيدي»، غير أنه وجد في نفسه السعة ليعيد نهج «الصحوة» باعتلاء منصة التصنيف، والحرص على حمل الأختام، والجرأة على تفتيش النوايا، فما زاد على أن ذكّر «فدعق» بماضيه «الصوفي»، وآراء شيوخه، مطالبًا إياه ببيان موقفه من مسألتين، تتعلّق الأولى بـ«دعاء غير الله تعالى والاستغاثة بالأموات»، والأخرى ذكر الله بطرق مخالفة كالقفز والرقص.. مرتئيًا في ذلك «مُضلات الصوفية»، واضعًا نفسه في «مرتبة عالية»، بانتظار رد «فدعق» على هاتين المسألتين، حتى ينظر في أمره، ويقرر بشأنه، في سياق قوله: [.. وتكفيني هاتين المسألتين اللتين أفصحت عنهما، فلعل الشيخ يوافينا بمقالة يبرأ فيها من القول بدعاء غير الله تعالى سواء أكان وثنًا أو صاحب قبر، كما يبرأ من القول على الله بغير علم في مسألة الرقص وزعم أنه لله تعالى].
وهنا مناط استغرابي، وموضع استنكاري، فبأيّ حق كسب «السعيدي» هذا التألّي، وبأي جرأة وضع نفسه موضع المصنّف والمصحح للعقائد، ولو أنه أنصف نفسه أولًا، لعلم أنّه خلط خلطًا منكرًا في مسألتيه، بين مسائل الفقه ومسائل العقيدة، وبينهما من الافتراق ما يدركه العلماء الجهابذ، ويفهمه الواقرون في العلم، وكذا الحال مع مسألة الحركة عند الذكر ووصفها بـ«القفز والرقص»، فهذان مبحثان طويلان يحتاجان إلى نفس هادئ كما أسلفت، ونقاش تكون قاعدته الأساسية «لا تحريم إلا بنص قطعي الثبوت قطعي الدلالة، بحيث لا يحتمل الشك»، وأن يتوفّر فيمن يخوضون فيهما سعة الإدراك، وشمول المعرفة، ونصاعة الحجة، ووقار الحكمة، وحسن الموعظة، وجِماعها في حسن الظن بالمسلم وإن خالف رأيه رأي أخيه، بهذا تتأسس قواعد مجالس العلم الحقيقي، وتُدرك مقاصده من النفع والإصلاح، ولن يبلغ ذلك من جلس متوجسًا، متربصًا، متأليًا بحمل أختام التصنيف في غرور زائف، وجرأة عجيبة تنسيه إصلاح شأن نفسه وتفوّت عليه فرصة الانكفاء على مداواتها.
وما شُقيت الإنسانية بأمرٍ قدر شقاوتها بمن يحاولون حمل الناس بالإكراه والتعسّف والجبر والتطرّف والغلو للقبول بمخرجات عقولهم، والانصياع لمعتقداتهم، والتماهي مع ما يجنحون إليه من تفسير، ويركنون إليه من تأويل، مضيّقين ما يتسع، ومستفردين بهذا «الحق» ظلمًا وجهلًا.
وقد شقينا في هذه الديار المباركة ردحًا من الزمن بطائفة منهم في زمن الغيبوبة، التي لبست اسم «الصحوة» زورًا، فلم يكن لها من اسمها إلا ما أيقظ الفتن النائمة، وأذكى ضرام التعنّت والفرقة والشتات، لكن البشارة جاءتنا مع بزوغ فجر «الرؤية»، التي استأصلت شأفة «الصحوة»، وداوت سعارها الفائر، ولجمت خطاب غلوّها المنبعث من ألسنة حداد، أشحة على الخير، فتنفّس الناس الصُّعداء، وبرئت آذاننا من خطب التبديع والتفسيق والتكفير والرمي بالتهم جزافًا
وهو حال نأمل فيه الخير الكثير، ونتوسّم فيه الاستقرار الأمثل بنوازع التوسّط والوسطية، التي حضّ عليها ديننا الحنيف، وحثّنا عليها، نبذًا للإفراط، ومُجانبة للتفريط وهو درس وعاه كثير ممن ركبوا موجة «الصحوة» في السابق، بعد أن بلغوا الغاية في التفريق بين الناس بتفتيش النوايا، والعجلة في التصنيف، والإسراع بالتبديع والتفسيق والتكفير لكل من خالف نهجهم، وارتأى غير ما يرون في مسائل تحتمل الاختلاف والنظر المتباين، فاعتدلوا بعد تطرّف، وصحّ قولهم بعد سقم واعتلال.
غير أن البعض ما يزال على سابق عهده بالصحوة، بوضع نفسه موضع المحتكر لفهم الدين، والحامل لأختام «التصنيف» والجالس على أبواب القلوب يحصي ما يطوف عليها، وما يستكنّ فيها، متأليًا على الذات العلية، ومقتعدًا لنفسه مقعد «المصحح» للعقائد، ومنصّبًا نفسه المسؤول عن علاقتهم بربهم.
فإن رأيت فيما أقول تعميمًا غير مسنود بمثال حيٍّ، فما أزيدك غير لفت نظرك إلى ما «تفضّل» به الكاتب محمد السعيدي من آراء طي مقاله المنشور في الوطن بتاريخ الأول من سبتمبر 2024م، بعنوان «عدت على الرحب والسعة يا شيخ فدعق»، في معرض رده على مقال للكتاب عبدالله فدعق، الموسوم بـ«كفى تبديعا».
ففي «تلافيف» ذلك الرد تستيقظ أفكار «الصحوة» من مواتها الأكلينيكي، وتحاول النهوض من مراقد قبرها المطبق عليها، وعى السعيدي ذلك أم لم يعِ..! فإن وجد في هذا ما يستغربه فليعد إلى تفاصيل رده، من مبتدأ عنوانه؛ «عدت على الرحب والسعة يا شيخ فدعق»، وما ينطوي عليه من حمولة «التربّص»، التي كشفت عنها طوايا المقال، فلم يكفه ما جاء في مقال «فدعق» من طرح عن «البدعة»، استحسنه «السعيدي» بقوله: [نشر عبدالله فدعق في صحيفة «الوطن» مقالة جميلة يدعو فيها إلى الوحدة وترك الخصومة، والانشغال بما هو الألزم والأهم من دفع الصائلين على بلادنا في الإعلام الخارجي]، فكان الأوفق أن يمضي في ذات الاتجاه، ويتماهى مع الخطاب الحاض على التوحّد، وأن يراجع موقفه «هو» من «البدعة»، ويضيف إلى فهم «فدعق» فهمًا جديدًا بتصحيح اعتقاد البعض عنها، وتذكيرهم بأن «البدعة» ليست دليلًا شرعيًا يحمل في أضاميمه حكمًا؛ وإنما هي «وصف» لحالة، يكون مدار الحكم عليها من ثمَّ قائم بوضعها في موازين الشرع، وفق الأحكام التكليفية الخمسة؛ الفرض، والندب، والحرمة، والكراهة، والإباحة، وأن يلزم ويلتزم بما تواطأ عليه العلماء في مقام العلم والبحث بهدوء النَّفَس، وسعة الإدراك، وسلامة المرجع، وما استقرّ من أقوال الأفاضل في هذا الدرس المهم، وما جاء في كتب الأئمة من أمثال الشافعي، وابن الأثير، والغزالي، والزركشي، والشاطبي، وغيرهم، ممن عرّفوا البدعة خير تعريف، وأنزلوها خير منزل مستقر غير قلق ولا نافر أو منفّر.
هذا الذي كنت أتوقعه وأتوسمه من «السعيدي»، غير أنه وجد في نفسه السعة ليعيد نهج «الصحوة» باعتلاء منصة التصنيف، والحرص على حمل الأختام، والجرأة على تفتيش النوايا، فما زاد على أن ذكّر «فدعق» بماضيه «الصوفي»، وآراء شيوخه، مطالبًا إياه ببيان موقفه من مسألتين، تتعلّق الأولى بـ«دعاء غير الله تعالى والاستغاثة بالأموات»، والأخرى ذكر الله بطرق مخالفة كالقفز والرقص.. مرتئيًا في ذلك «مُضلات الصوفية»، واضعًا نفسه في «مرتبة عالية»، بانتظار رد «فدعق» على هاتين المسألتين، حتى ينظر في أمره، ويقرر بشأنه، في سياق قوله: [.. وتكفيني هاتين المسألتين اللتين أفصحت عنهما، فلعل الشيخ يوافينا بمقالة يبرأ فيها من القول بدعاء غير الله تعالى سواء أكان وثنًا أو صاحب قبر، كما يبرأ من القول على الله بغير علم في مسألة الرقص وزعم أنه لله تعالى].
وهنا مناط استغرابي، وموضع استنكاري، فبأيّ حق كسب «السعيدي» هذا التألّي، وبأي جرأة وضع نفسه موضع المصنّف والمصحح للعقائد، ولو أنه أنصف نفسه أولًا، لعلم أنّه خلط خلطًا منكرًا في مسألتيه، بين مسائل الفقه ومسائل العقيدة، وبينهما من الافتراق ما يدركه العلماء الجهابذ، ويفهمه الواقرون في العلم، وكذا الحال مع مسألة الحركة عند الذكر ووصفها بـ«القفز والرقص»، فهذان مبحثان طويلان يحتاجان إلى نفس هادئ كما أسلفت، ونقاش تكون قاعدته الأساسية «لا تحريم إلا بنص قطعي الثبوت قطعي الدلالة، بحيث لا يحتمل الشك»، وأن يتوفّر فيمن يخوضون فيهما سعة الإدراك، وشمول المعرفة، ونصاعة الحجة، ووقار الحكمة، وحسن الموعظة، وجِماعها في حسن الظن بالمسلم وإن خالف رأيه رأي أخيه، بهذا تتأسس قواعد مجالس العلم الحقيقي، وتُدرك مقاصده من النفع والإصلاح، ولن يبلغ ذلك من جلس متوجسًا، متربصًا، متأليًا بحمل أختام التصنيف في غرور زائف، وجرأة عجيبة تنسيه إصلاح شأن نفسه وتفوّت عليه فرصة الانكفاء على مداواتها.