-A +A
محمد مفتي
بداية دعونا نتساءل: هل يمكن لأي حزب سياسي في أي دولة أن ينتخب أميناً له بشرط موالاته لدولة أخرى، وأن تقوم هذه الدولة الأخرى بتحديد مهام وسياسات هذا الحزب بما فيها العسكرية، هل يمكن أن تتدخل دولة بشؤون دولة أخرى لهذه الدرجة؟ وكيف لدولة ألا تحترم سيادة أخرى لهذا الحد؟ وكيف لحزب ينتمي لدولة أن يعلن انتماءه وولاءه لدولة أخرى بمثل هذا الوضوح دون استحياء ولا خوف من حكومته؟ وهل يمكن لدولة أن تستقر وهي تسمح لأي حزب فيها بتكوين ميليشيات عسكرية بدعم من دول أخرى تمدها بالمال والسلاح؟ هل يمكن أن تنعم يوماً ما بأدنى درجات الحرية والسيادة والاستقلال؟.

من الصعوبة بمكان أن نتخيل أن تهتم دولة برفاهية شعب دولة أخرى أو تسعى لاستتباب استقراره -وفي نفس الوقت- تقوم بالتدخل في شؤونه الداخلية وتفرض عليه أجندتها الخارجية، فالدول تتدخل في شؤون الدول لأسباب واضحة ومن أهمها استغلال مواردها وخيراتها، أو لتهيمن سياسياً على قراراتها، أو من أجل توسيع رقعة نفوذها وبسط سيطرتها على مناطق أخرى لتغدو تابعة لها وتحت إمرتها السياسية، أو لتصدير أفكارها ومعتقداتها، أو لكل هذه الأسباب مجتمعة معاً.


بعد اتفاق الطائف 1989 والذي أنهى الحرب اللبنانية الأهلية التي استمرت لـ 15 عاماً متصلة، تم الاتفاق على حل جميع الميليشيات العسكرية بلبنان والتأكيد على تعزيز السلطة السياسية فيه، وقد هدفت الاتفاقية -بصورة أساسية- لأن يعود لبنان للبنانيين وأن يتم توحيد الصف اللبناني وتعود العلاقات وثيقة بين الشعب اللبناني وحكومته بعد حرب طاحنة تسببت في قتل عشرات الآلاف من المواطنين، على أن يتم تعزيز وإعادة بناء جدار الثقة بين أبناء الشعب الواحد بعد سنين طويلة من التقاتل والعراك الطائفي البغيض.

غير أن الخلل في تطبيق هذه الاتفاقية هو ما أوصل لبنان إلى ما هي عليه الآن من تمزق، كما سمح بفتح الباب على مصراعيه للدول الأخرى للتدخل في شؤونه وتحويله لمجرد امتداد جغرافي لها، وهو ما أسهم في تكوين الميليشيات المسلحة التي لم تتورع عن تحويل أسلحتها وعتادها -بدلاً من محاربة العدو الإسرائيلي- لصدور الشعب اللبناني ذاته كما حدث ذلك خلال الحرب الأهلية، مما عمق الانقسام وزاد الفرقة بين أبناء الشعب اللبناني أكثر فأكثر.

من المؤكد أن جميع الدول العربية وأولهم المملكة العربية السعودية تتمنى الاستقرار للشعب اللبناني، وتتمنى أن يعود لبنان لسابق عهده من الاستقرار والرخاء ويعود لمكانته الخلابة التي كان يحتلها في السابق كواحد من أعرق الواجهات السياحية في العالم العربي، فلبنان كما يعرف الجميع يشتهر بطبيعته الرائعة ومناطق جذبه السياحية الشهيرة، كما أن الحيوية التي كان يمتاز بها القطاع السياحي اللبناني كانت تدفع مواطني الدول العربية لتفضيلها عن السياحة في أوروبا، ومن المحزن تماماً أن يصاب بلد بكل هذه الإمكانات السياحية بمثل هذه الحروب المتتالية إلى الحد الذي أصبح فيه مرتعاً للتدخلات الخارجية.

غير أن الأمنيات لا وزن لها في عالم السياسة المعقد والمتشابك، فالحل الوحيد لإعادة لبنان للاستقرار هو لبنان نفسه، فالأمر يقع بيدي أبنائه وليس بيد أي طرف آخر، فتعطيل الحياة السياسية وعرقلة الحياة بكافة أوجهها في لبنان لا يصب في مصلحة لبنان بل يصب في مصلحة أطراف أخرى لا يهمها سوى أن تستمر لبنان ممزقة حتى يسهل إخضاعها وتطويعها لخدمة أغراض وأهداف دول أخرى، والطريق الذي يجب أن تبدأ منه لبنان هو أن تعمل جميع القوى والفصائل في لبنان على منع التدخل الخارجي في شؤونهم الداخلية، وعلى الاصطفاف والتوحد جبهة واحدة ضد كل من يسعى للتغلغل في صفوفهم وبث نزعات الفرقة والانفصال بين أبناء الشعب الواحد.

إن الخطوة الأولى لتحقيق ذلك يستدعي بالضرورة حل الميليشيات العسكرية ونزح سلاح الفصائل المسلحة جميعها والتسليم بقيادة لبنانية وطنية موحدة، ولا شك أن هذه الخطوة لا بديل عنها لإعادة تماسك الشعب اللبناني وعودة الحياة لطبيعتها في لبنان، وغير ذلك لن يكون أكثر من مجرد ضرب من الأوهام وسياسات أشبه بالمسكنات التي لا تخفف ألماً ولا تضمد جراحاً، ودونه لن يستطيع لبنان أن يعود أبداً إلى الاستقرار والهدوء الذي يرجوه -ليس كل مواطن لبناني فحسب- بل كل مواطن عربي أيضاً.