اليوم هو اليوم العالمي للغة العربية وهذا المقال يتكلم عن صناعة المحتوى العربي في عصرٍ يتغير فيه المشهد الإعلامي بوتيرة متسارعة، عصر أصبح فيه الذكاء الاصطناعي أداة حاسمة في تحسين الإنتاجية وتعزيز كفاءة صناعة المحتوى. ومع ذلك، تواجه هذه التكنولوجيا تحديات فريدة عندما يتعلق الأمر باللغة العربية، لغة تحمل تعقيدات ثقافية ولسانية تجعل تكيف الذكاء الاصطناعي معها مهمة شاقة لكنها مثيرة للاهتمام.
التحدي اللغوي والثقافي: خصوصية لا تقبل التبسيط
توقفت أمام فكرة عميقة طُرحت للنقاش: كيف يمكن للذكاء الاصطناعي، الذي يَعِدُ بتحسين الكفاءة والإنتاجية، أن يتعامل مع خصوصيات لغة ثرية مثل العربية؟ وهل يمكن لهذه التقنية أن تفهم تعقيداتنا اللغوية والثقافية دون أن تُخلّ بجوهر الرسائل التي ننقلها؟ ولماذا غالبًا ما تكون مخرجات المحتوى العربي الذي تولّده هذه التطبيقات ضعيفة الى حد ما؟
هذه التساؤلات ليست نظرية، بل هي جزء من يوميات المتخصصين في صناعة المحتوى، وفي قطاع العلاقات العامة والإعلام، فتطبيقات الذكاء الاصطناعي تُعد «حليفًا مثاليًا» للمساعدة في زيادة الإنتاجية، إلا أن العربية فرضت عليها معضلات تجعل تحقيق الدقة في إنتاج المحتوى أو فهم النصوص أكثر تعقيدًا من اللغات الأخرى، ويعود ذلك إلى «التعددية اللغوية»، حيث تُستخدم (العربية الفصحى المعيارية) في الكتابات الرسمية ووسائل الإعلام، لكنها ليست اللغة المحكية في الحياة اليومية، ولدينا (اللهجات المحلية) التي تختلف بشكل جذري بين الدول العربية، بل وحتى بين المناطق داخل الدولة الواحدة، ففي اللهجة المغربية، تعني كلمة «عافية» النار، بينما في السعودية وبقية دول الخليج فتعني «الصحة».
وحتى مع توسع استخدام اللهجات المحكية في الإعلام الرقمي ووسائل التواصل الاجتماعي، لكنها تمثل تحديًا لتطبيقات الذكاء الاصطناعي؛ لانتفاء وجود قواعد نحوية موحّدة لها، والاختلاف الكبير بينها، مما يُصعِّب على الشركات التقنية تصميم نموذج موحّد لمعالجة اللغات الطبيعية (NLP) يُجيد التعامل مع لغتنا العربية.
ذكاء اصطناعي يعزز الإنتاجية لكنه يفتقر للّمسات الإبداعية
تقرير «جارتنر» لعام 2023 أشار إلى أن استخدام الذكاء الاصطناعي في صناعة المحتوى أدى إلى زيادة الإنتاجية بنسبة 45% لدى الشركات التي تبنته. وفي قطاع العلاقات العامة، أصبح إنتاج البيانات الصحفية والمنشورات الاجتماعية أسرع وأكثر كفاءة. لكن السؤال الذي يطرح نفسه: هل تُترجم هذه الكفاءة إلى محتوى يتفاعل معه الجمهور العربي؟
من تجربتي العملية، النتائج غالبًا ما تفتقر للّمسات الإبداعية التي تجعل النصوص أكثر إنسانية وانسيابية. فاللغة الإنجليزية، التي تعتمد على تراكيب نحوية أبسط، تستفيد بشكل أكبر من قدرات الذكاء الاصطناعي مقارنة بالعربية، التي تتطلب فهماً عميقاً للسياقات الثقافية والاجتماعية.
الدقة مقابل السياق: الترجمة ليست مجرد كلمات
في مجال العلاقات العامة، الترجمة جزء أساس من العمل، ورغم أن هناك أدوات تُسهم في توفير ترجمات سريعة، فإنها تظل بعيدة عن تقديم سياق دقيق ومُلائم. ذات مرة، كنت أراجع بيانًا صحفيًا تُرجم من الإنجليزية إلى العربية باستخدام أداة ذكاء اصطناعي، ورغم أن الجُمَل كانت صحيحة نحويًا، لكنها لم تعكس المعنى الثقافي الذي يستهدف الجمهور العربي، أحد أهم الأسباب، هو أن كلماتنا العربية تُحدد حسب الجنس (مذكر/مؤنث)، وكانت النتيجة بيانًا «ركيكًا» وغير مفهوم؛ لأن الترجمة عبارة عن عملية ثقافية واجتماعية تحتاج إلى فهم السياقات المحلية، وما قد يكون ملائمًا من العبارات لدولة خليجية قد يبدو غير منطقي لدولة في شمال أفريقيا.
الإعلام العربي بين التحديات الرقمية والذكاء الاصطناعي
الإعلام العربي، كغيره من القطاعات، شهد تحولًا رقميًا هائلًا في السنوات الأخيرة. أصبحت غرف الأخبار تعتمد بشكل متزايد على أدوات الذكاء الاصطناعي لإعداد التقارير، وتحليل البيانات، وحتى كتابة المقالات الصحفية.
على سبيل المثال، العديد من وكالات الأنباء العالمية تستخدم الذكاء الاصطناعي لكتابة التقارير الاقتصادية أو تحديث الأخبار العاجلة. ورغم نجاح هذه الأدوات في تحسين السرعة، فإنها تواجه تحديات كبيرة عند التعامل مع المحتوى العربي، حيث تحتاج الأخبار إلى مراعاة السياقات المحلية واللهجات المختلفة.
كما أن التحدي الأكبر يكمن في الحفاظ على المصداقية والدقة في الأخبار، خصوصًا في ظل انتشار الأخبار المزيفة والمعلومات المغلوطة. وهنا يظهر دور الذكاء الاصطناعي في التحقق من صحة المعلومات، لكنه يظل بحاجة إلى إشراف بشري لضمان أن المحتوى يلبي معايير الجودة الصحفية.
أهمية «هندسة تلقيم المحتوى» لتحسين النتائج
ومع توسع استخدام الذكاء الاصطناعي، ظهرت مهارة جديدة تُعرف بـ«هندسة تلقيم المحتوى» (Prompt Engineering)، وهي مهارة متخصصة في صياغة التعليمات (المدخلات) التي تُقدم للتطبيقات، في صورة نصوص، أو أوامر واضحة لتوجيهها نحو إنتاج مخرجات مُعينة. وإتقان هذه المهارة يتيح للكتاب والمختصين في مجال الإعلام والاتصال المؤسسي تحسين جودة المخرجات وتقليل عدد المحاولات للحصول على النتائج المطلوبة. لكنها ليست بديلاً عن الإبداع البشري، بل أداة مكملة له.
الجانب الأخلاقي: من يتحكم في الرسالة؟
ومع زيادة الاعتماد على الذكاء الاصطناعي، يبرز تحدٍ أخلاقي آخر: من يسيطر على الرسالة التي تُنقل للجمهور؟ وهل يمكن للذكاء الاصطناعي أن يكون محايدًا في مجتمع تتعدد فيه القيم والثقافات؟
يجب أن يظل صناع المحتوى يقظين للتأكد من أن الذكاء الاصطناعي لا يعزز التحيزات الثقافية أو الاجتماعية. كما يجب أن تكون هناك رقابة بشرية لضمان توافق المحتوى مع القيم المحلية والخصوصية الثقافية.
مستقبل المحتوى العربي: نحو تكامل الإنسان والآلة
رغم كل التحديات، يظل الذكاء الاصطناعي أداة فعالة في تحسين الإنتاجية وزيادة كفاءة صناعة المحتوى العربي. لكنه لا يمكن أن يكون بديلاً عن الخبرة البشرية، لأن اللغة العربية تتطلب بموروثها الثقافي واللغوي الغني، عناية خاصة لفهم السياقات المحلية، وإنتاج محتوى يعكس هوية الجمهور المستهدف.
النظرة المستقبلية لصناعة المحتوى العربي تتطلب تعاونًا بين الشركات التقنية والمؤسسات الأكاديمية والمختصين لتطوير أدوات ذكاء اصطناعي قادرة على فهم تعقيدات لغتنا. كما تحتاج إلى تدريب العاملين في المجال على مهارات جديدة تجمع بين الفهم العميق للثقافة المحلية وإتقان التقنيات الحديثة.
التحديات التي نواجهها في صناعة المحتوى العربي ليست عائقًا، بل فرصة لإعادة تعريف دورنا في المشهد الرقمي العالمي. من خلال الجمع بين التقنية والإنسان، يمكننا تحويل المحتوى العربي إلى قوة رقمية تساهم في إبراز هويتنا الثقافية وتعزز تأثيرنا على الساحة العالمية. الذكاء الاصطناعي ليس سوى بداية الرحلة، والإبداع البشري هو ما يجعل هذه الرحلة أكثر إشراقًا.
زينب هوساوي
مُتخصصة في الاتصال المؤسسي والعلاقات العامة، وإدارة السمعة والصورة الذهنية
التحدي اللغوي والثقافي: خصوصية لا تقبل التبسيط
توقفت أمام فكرة عميقة طُرحت للنقاش: كيف يمكن للذكاء الاصطناعي، الذي يَعِدُ بتحسين الكفاءة والإنتاجية، أن يتعامل مع خصوصيات لغة ثرية مثل العربية؟ وهل يمكن لهذه التقنية أن تفهم تعقيداتنا اللغوية والثقافية دون أن تُخلّ بجوهر الرسائل التي ننقلها؟ ولماذا غالبًا ما تكون مخرجات المحتوى العربي الذي تولّده هذه التطبيقات ضعيفة الى حد ما؟
هذه التساؤلات ليست نظرية، بل هي جزء من يوميات المتخصصين في صناعة المحتوى، وفي قطاع العلاقات العامة والإعلام، فتطبيقات الذكاء الاصطناعي تُعد «حليفًا مثاليًا» للمساعدة في زيادة الإنتاجية، إلا أن العربية فرضت عليها معضلات تجعل تحقيق الدقة في إنتاج المحتوى أو فهم النصوص أكثر تعقيدًا من اللغات الأخرى، ويعود ذلك إلى «التعددية اللغوية»، حيث تُستخدم (العربية الفصحى المعيارية) في الكتابات الرسمية ووسائل الإعلام، لكنها ليست اللغة المحكية في الحياة اليومية، ولدينا (اللهجات المحلية) التي تختلف بشكل جذري بين الدول العربية، بل وحتى بين المناطق داخل الدولة الواحدة، ففي اللهجة المغربية، تعني كلمة «عافية» النار، بينما في السعودية وبقية دول الخليج فتعني «الصحة».
وحتى مع توسع استخدام اللهجات المحكية في الإعلام الرقمي ووسائل التواصل الاجتماعي، لكنها تمثل تحديًا لتطبيقات الذكاء الاصطناعي؛ لانتفاء وجود قواعد نحوية موحّدة لها، والاختلاف الكبير بينها، مما يُصعِّب على الشركات التقنية تصميم نموذج موحّد لمعالجة اللغات الطبيعية (NLP) يُجيد التعامل مع لغتنا العربية.
ذكاء اصطناعي يعزز الإنتاجية لكنه يفتقر للّمسات الإبداعية
تقرير «جارتنر» لعام 2023 أشار إلى أن استخدام الذكاء الاصطناعي في صناعة المحتوى أدى إلى زيادة الإنتاجية بنسبة 45% لدى الشركات التي تبنته. وفي قطاع العلاقات العامة، أصبح إنتاج البيانات الصحفية والمنشورات الاجتماعية أسرع وأكثر كفاءة. لكن السؤال الذي يطرح نفسه: هل تُترجم هذه الكفاءة إلى محتوى يتفاعل معه الجمهور العربي؟
من تجربتي العملية، النتائج غالبًا ما تفتقر للّمسات الإبداعية التي تجعل النصوص أكثر إنسانية وانسيابية. فاللغة الإنجليزية، التي تعتمد على تراكيب نحوية أبسط، تستفيد بشكل أكبر من قدرات الذكاء الاصطناعي مقارنة بالعربية، التي تتطلب فهماً عميقاً للسياقات الثقافية والاجتماعية.
الدقة مقابل السياق: الترجمة ليست مجرد كلمات
في مجال العلاقات العامة، الترجمة جزء أساس من العمل، ورغم أن هناك أدوات تُسهم في توفير ترجمات سريعة، فإنها تظل بعيدة عن تقديم سياق دقيق ومُلائم. ذات مرة، كنت أراجع بيانًا صحفيًا تُرجم من الإنجليزية إلى العربية باستخدام أداة ذكاء اصطناعي، ورغم أن الجُمَل كانت صحيحة نحويًا، لكنها لم تعكس المعنى الثقافي الذي يستهدف الجمهور العربي، أحد أهم الأسباب، هو أن كلماتنا العربية تُحدد حسب الجنس (مذكر/مؤنث)، وكانت النتيجة بيانًا «ركيكًا» وغير مفهوم؛ لأن الترجمة عبارة عن عملية ثقافية واجتماعية تحتاج إلى فهم السياقات المحلية، وما قد يكون ملائمًا من العبارات لدولة خليجية قد يبدو غير منطقي لدولة في شمال أفريقيا.
الإعلام العربي بين التحديات الرقمية والذكاء الاصطناعي
الإعلام العربي، كغيره من القطاعات، شهد تحولًا رقميًا هائلًا في السنوات الأخيرة. أصبحت غرف الأخبار تعتمد بشكل متزايد على أدوات الذكاء الاصطناعي لإعداد التقارير، وتحليل البيانات، وحتى كتابة المقالات الصحفية.
على سبيل المثال، العديد من وكالات الأنباء العالمية تستخدم الذكاء الاصطناعي لكتابة التقارير الاقتصادية أو تحديث الأخبار العاجلة. ورغم نجاح هذه الأدوات في تحسين السرعة، فإنها تواجه تحديات كبيرة عند التعامل مع المحتوى العربي، حيث تحتاج الأخبار إلى مراعاة السياقات المحلية واللهجات المختلفة.
كما أن التحدي الأكبر يكمن في الحفاظ على المصداقية والدقة في الأخبار، خصوصًا في ظل انتشار الأخبار المزيفة والمعلومات المغلوطة. وهنا يظهر دور الذكاء الاصطناعي في التحقق من صحة المعلومات، لكنه يظل بحاجة إلى إشراف بشري لضمان أن المحتوى يلبي معايير الجودة الصحفية.
أهمية «هندسة تلقيم المحتوى» لتحسين النتائج
ومع توسع استخدام الذكاء الاصطناعي، ظهرت مهارة جديدة تُعرف بـ«هندسة تلقيم المحتوى» (Prompt Engineering)، وهي مهارة متخصصة في صياغة التعليمات (المدخلات) التي تُقدم للتطبيقات، في صورة نصوص، أو أوامر واضحة لتوجيهها نحو إنتاج مخرجات مُعينة. وإتقان هذه المهارة يتيح للكتاب والمختصين في مجال الإعلام والاتصال المؤسسي تحسين جودة المخرجات وتقليل عدد المحاولات للحصول على النتائج المطلوبة. لكنها ليست بديلاً عن الإبداع البشري، بل أداة مكملة له.
الجانب الأخلاقي: من يتحكم في الرسالة؟
ومع زيادة الاعتماد على الذكاء الاصطناعي، يبرز تحدٍ أخلاقي آخر: من يسيطر على الرسالة التي تُنقل للجمهور؟ وهل يمكن للذكاء الاصطناعي أن يكون محايدًا في مجتمع تتعدد فيه القيم والثقافات؟
يجب أن يظل صناع المحتوى يقظين للتأكد من أن الذكاء الاصطناعي لا يعزز التحيزات الثقافية أو الاجتماعية. كما يجب أن تكون هناك رقابة بشرية لضمان توافق المحتوى مع القيم المحلية والخصوصية الثقافية.
مستقبل المحتوى العربي: نحو تكامل الإنسان والآلة
رغم كل التحديات، يظل الذكاء الاصطناعي أداة فعالة في تحسين الإنتاجية وزيادة كفاءة صناعة المحتوى العربي. لكنه لا يمكن أن يكون بديلاً عن الخبرة البشرية، لأن اللغة العربية تتطلب بموروثها الثقافي واللغوي الغني، عناية خاصة لفهم السياقات المحلية، وإنتاج محتوى يعكس هوية الجمهور المستهدف.
النظرة المستقبلية لصناعة المحتوى العربي تتطلب تعاونًا بين الشركات التقنية والمؤسسات الأكاديمية والمختصين لتطوير أدوات ذكاء اصطناعي قادرة على فهم تعقيدات لغتنا. كما تحتاج إلى تدريب العاملين في المجال على مهارات جديدة تجمع بين الفهم العميق للثقافة المحلية وإتقان التقنيات الحديثة.
التحديات التي نواجهها في صناعة المحتوى العربي ليست عائقًا، بل فرصة لإعادة تعريف دورنا في المشهد الرقمي العالمي. من خلال الجمع بين التقنية والإنسان، يمكننا تحويل المحتوى العربي إلى قوة رقمية تساهم في إبراز هويتنا الثقافية وتعزز تأثيرنا على الساحة العالمية. الذكاء الاصطناعي ليس سوى بداية الرحلة، والإبداع البشري هو ما يجعل هذه الرحلة أكثر إشراقًا.
زينب هوساوي
مُتخصصة في الاتصال المؤسسي والعلاقات العامة، وإدارة السمعة والصورة الذهنية