-A +A
عبداللطيف الضويحي


سواء كان قانون «جاستا» يمثل مصلحة أمريكية آنية أو مصلحة أمريكية مستقبلية، وسواء كان هذا القانون انتقاما من المملكة أو انتصافا لضحايا برج التجارة العالمية، وسواء كان ابتزازا ماليا أو ابتزازا سياسيا، وسواء كان نتيجة لمزايدات أفرزتها حمى الانتخابات الأمريكية بين الديموقراطيين والجمهوريين، وسواء كان سيضر هذا القانون بأمريكا نفسها أو سيضر بخصوم أمريكا وحلفائها، وسواء كان هذا القانون نتيجة مباشرة للأحداث الطاحنة التي يدور رحاها في منطقتنا العربية، أو كان نتيجة مباشرة لمطالبات ذوي ضحايا سقوط البرجين العالميين.


هناك شبه إجماع بين العديد ممن تناول هذا القانون بالتحليل والتعليق والنقد من كتاب وأكاديميين وقانونيين ومهتمين بأن هناك غموضا غير عادي يلف هذا القانون والدوافع وراءه والظروف التي تحيطه والتوقيت الذي صدر خلاله وحجم التصويت الساحق بالغالبية ضد فيتو الرئيس على هذا القانون.

هذا الغموض في الحقيقة امتد واستمر حتى بعد سن التشريع وصدور القانون، إذ أبدى العديد من المشرعين أعضاء الكونغرس الذين صوتوا لصالح القانون نوعا من التراجع عن قراراتهم مستغربين ومندهشين من النتائج التي قد تلحق الأذى بالمصالح الأمريكية قبل غيرها جراء تطبيق هذا القانون كما لو أنهم يعرفون به للمرة الأولى ومعربين عن تخوفهم من حجم الضرر الناجم عن هذا القانون والأثر السلبي الذي سيلحقه هذا القانون بعلاقات بلادهم مع الدول وما يتسبب به من تجاوزات غير مسبوقة للقانون الدولي الذي يحكم العلاقات ما بين الدول. فهل يعقل أن يصوت المشرعون على ما يجهلون نتائجه خاصة أن المشروع ليس جديدا أو مفاجئا؟

هل كان هذا الغموض المصاحب لقانون جاستا مقصودا، وهل يمكن أن تكون كل التناقضات في ظروف ودوافع القانون مصادفة؟ هل يمكن القبول بنظرية الصدفة بكل هذه التناقضات السياسية والاقتصادية والداخلية والخارجية؟

هل يمكن القبول بنظرية الصدفة بكل الملابسات التي صاحبت هذا التشريع منذ كان مولودا وحتى قفز خلال الأيام الماضية ليتزامن مع المعركة الانتخابية الأمريكية للرئاسة؟

لو أردت أن أضع عنوانا لهذا المرحلة الزمنية لما وجدت أدق وأنسب من عنوان مرحلة الغموض، ولو أردت أن أجد عنوانا يلخص السياسة الأمريكية في كل سلوكها لما وجدت أنسب وأدق من سياسة التناقضات.

منذ عصفت بمنطقتنا العربية عواصف الشرق الأوسط الجديد والفوضى الخلاقة والربيع العربي، ونحن ننام على سياسة أمريكية ونستيقظ على سياسة أمريكية جديدة أو ادعاء سياسة جديدة. هذه السياسة ليست دائما من خيالنا أو من الصورة التي يرسمها الإعلام الأمريكي أو العربي. إنها سياسة الغموض والتناقض المقصودة أو الادعاء بأنها هكذا.

فهل الصدفة أم السلوك الأمريكي هو ما جعل أمريكا تناقض نفسها بتبني الإرهاب ودعمه في الوقت نفسه، وذلك منذ احتلالها العراق وحتى تدخلها في سورية، فهي من ناحية تقيم تحالفا لمحاربة الإرهاب وفي المقابل تنخرط بالعمل مع منظمات مصنفة من الأمم المتحدة بأنها إرهابية.

فهل هو النفاق السياسي أم هي إستراتيجية السلوك الأمريكي القائم على إظهار التناقض والعمل بالخفاء مع الحليف التركي ومع الحليف الكردي وهما على طرفي نقيض بل وفي حرب مفتوحة؟ وهل أمريكا التي تتحالف مع الإخوان المسلمين في بلد عربي أم أن أمريكا هي التي تقتل الإخوان في بلد آخر؟ وهل أمريكا هي التي تستقبل اللاجئين وتمنحهم اللجوء والعمل، أم أن أمريكا التي تسببت بتهجير هؤلاء اللاجئين من فلسطين والعراق وأفغانستان وسورية؟

هل أمريكا هي أمريكا التي تنتصر لحقوق الإنسان في عقر دارها بما في ذلك زواج المثليين، أم أن أمريكا هي التي ارتكبت فظائع سجن أبو غريب وقتلت وشردت وعذبت ملايين العراقيين والأفغان وقبلهم وبعدهم؟

وهل أمريكا هي أمريكا التي أصدرت قانون جاستا، أم أن أمريكا التي ستتنصل منه أو تسقطه إذا ما تم التعامل معها بندية تامة من خلال مكاتب محامين محترفين وبواسطة الأدوات التي يجيدها الأمريكيون أنفسهم ويحسبون لها ألف حساب. رُب ضارة نافعة، فلنجعل من هذه الأزمة فرصة للعمل على تأهيل محامين سعوديين وغير سعوديين استعدادا لمرحلة قادمة لن تكون أسهل من هذه المرحلة. ولعلها فرصة لنطلق العنان للمجتمع المدني للقيام بدوره الغائب، ولعلها فرصة لكي يقوم مجلس الشورى بدوره التشريعي والرقابي والمحاسبي وكذلك النيابي بعد إقرار نظام انتخاب أعضاء المجلس.

وأخيرا لعلها تكون الضارة النافعة لإعادة النظر بعمل سفاراتنا وقنصلياتها كما يجب، بما في ذلك تعمل تلك السفارات والقنصليات مع المحامين ومكاتب المحاماة، والتي أثبتت أنها قنصليات معزولة تماما عما يمر به السعوديون من مبتعثين ورجال أعمال وسياح من مشكلات والذين يفتقر بعضهم للمهنية، ناهيك عما يفتقر إليه البعض من تحمل المسؤولية.