يضيف باروت إلى تعليله لموقف رشيد رضا المساجل للشيعة تعليلاً آخر، هو «انحياز رضا في شروط عمله من أجل الاستقلال العربي عن المحتلين الأوروبيين إلى نجد في مواجهة الهاشميين». هذا الانحياز يرى أنه «دفع إلى إيقاظ العناصر المتشددة النائمة في سلفية رضا العامة المرنة».
وبعد أن يقدم هذا التعليل يتوجه إلى رضا بالنقد القائم على تقديم الرجل بصورة متناقضة، فيقول: «رغم أن جهاز مفاهيم رضا يختلف كثيراً في طريقة الانتظام والفهم عن بنية السلفية المذهبية الصلبة... وأن قاعدة التكفير الوهابية التي تنص على تكفير من آمن بالطاغوت، أو اعتبر بشريعته، تنطبق عليه حين كان رئيساً للمؤتمر السوري في عام 1920 والذي أقر دستوراً ينطبق عليه منظور السلفية المذهبية الصلبة، ومفهوم الطاغوت».
تعليل باروت الآخر، هو تعليل مخل ومبتسر، وهو فوق ذلك متحامل.
لنقدم صورة واضحة عن تحولات الشيخ رشيد رضا التي اختزلها بموقفه المساجل للشيعة.
الشيخ رشيد رضا مثلما كان شيخه محمد عبده وشيخ شيخه جمال الدين الأفغاني، هو من أتباع فكرة الجامعة الإسلامية والوحدة الإسلامية، ومن المؤمنين بفكرة التقارب بين الشيعة والسنة والداعين إليها، وهو الذي أرسى ما أسماه بقاعدة (المنار) الذهبية: (نتعاون على ما نتفق عليه، ويعذر بعضنا بعضاً في ما نختلف فيه). وهي القاعدة التي أخذها عنه الشيخ البنا، واشتهرت بواسطة جماعة الإخوان المسلمين.
يتسم فهم الشيخ رشد رضا – كما الشيخ محمد عبده – لمسألة نشأة الخلاف والفرق في الإسلام، بأنه فهم محدد ومحدود بالسياسة. «فسبب الخلاف المذهبي عنده سبب سياسي محض، يعود إلى خلل النظام السياسي في تاريخ الإسلام... فوقف منذ فصوله الأولى – أي في مجلة المنار – ضد التنازع المذهبي بين أصحاب الفرق وحتى ما اتصل منه بفرعيات الدين وجزئياته، فضلاً عن الأصول التي هي في نظره معروفة ومضبوطة عند الجميع ولا سبيل إلى التفرق في فهمها». (الدكتور محمد صالح المراكشي، تفكير محمد رشيد رضا من خلال مجلة المنار 1898-1935، ص279 و280).
يقول الدكتور يوسف حسين إيبش والدكتور يوسف قزما خوري، معدّا ومحققا كتاب (مقالات الشيخ رشيد السياسية): إن الشيخ رشيد كان أكثر ميلاً إلى السيد جمال الدين في عمله السياسي من الشيخ محمد عبده في برنامجه الإصلاحي للتربية والتعليم، وإنه يرى أن الإصلاح عن طريق السياسة أدنى وأسرع، وإن الإصلاح عن طريق تطوير برامج التعليم العالي بطيء ومردوده لا يثمر إلا في الأمد الطويل. الجزء الأول ص15.
يرى الدكتور محمد فتحي عثمان أن محمد رشيد رضا كان أعلم بنهج السلف وأحرص على الالتزام من شيخه محمد عبده، ولا يقنع ببيان الدلالة العامة للآيات ومراميها الأخلاقية والاجتماعية. وينقل عنه قوله في مفتتح الجزء الأول من تفسير المنار: «وإني لما استقليت بالعمل بعد وفاته خالفت منهجه رحمه الله بالتوسع في ما يتعلق بالآية من السنة الصحيحة سواء كان تفسيراً لها أو في حكمها. (السلفية في المجتمعات المعاصرة، ص81). وينقل الدكتور محمد صالح المراكشي قوله عن شيخه محمد عبده: إنه على نصرته للسنة لم يكن واسع العلم برواية الحديث ولا حفظه ولا كثير العناية بمعرفة الجرح والتعديل فيه، وإنما قرأ علم مصطلح الحديث وبعض متون الصحاح والسنة التي تقرأ في الأزهر وهي قليلة (...) تقرأ للتبرك لا للتفقه». (المرجع السابق، ص 239).
كان رشيد رضا ينظر إلى مشروع عبدالعزيز آل سعود السياسي والديني بإعجاب منذ فترة مبكرة من قيام المشروع. وقد تكفل بمهمة الدفاع عن الدعوة الوهابية مع زحف جيش عبدالعزيز على الحجاز، في وقت كانت الدعوة أشد ما تكون بحاجة إلى دفاعه في مصر وفي العالم الإسلامي. تكفل بالدفاع عنها في مجلته مجلة (المنار) – الذائعة في العالم العربي والعالم الإسلامي – وفي جريدة (الأهرام).
كتب المرجع الشيعي الشيخ محسن الأمين العاملي رسالة عنونها بـ(الحصون المنيعة في رد ما أورده صاحب المنار في حق الشيعة)، هي رد على مقال نشر في مجلة المنار عام 1908 تحت عنوان (كلمات عن العراق وأهله لعالم غيور على الدولة ومذهب أهل السنة) ورد على تعليق رشيد رضا عليه. المقال نشر باسم مستعار، وهو سائح عربي، عبدالهادي آل الجوهري. وفي رسالة وجهها الشيخ محمود شكري الألوسي إلى الشيخ جمال الدين القاسمي بعد سنتين من ذلك التاريخ، مال إلى أن صاحب المقال هو الشيخ كامل أفندي الرافعي (شامي متمصّر من أسرة الرافعي الطرابلسية)، وذكر أنه سلفي العقيدة.
سكت محمد رشيد رضا عن هذه الرسالة ولم يعلق على نقاشه له فيها. وبعد مضي ما يقرب من العقدين أصدر المرجع الشيعي محسن الأمين العاملي كتاباً بعنوان: (كشف الارتياب عن أتباع محمد بن عبدالوهاب)، فرد عليه رشيد رضا برسالة قصيرة عنوانها (الشيعة والسنة أو الوهابية والرافضة)، ضمنها رسالة الألوسي للقاسمي التي يرد فيها على ما ورد في كتاب (الحصون المعنية...).
يقول المراكشي: «بقي رشيد رضا شديد الحساسية إزاء المذهب الشيعي بالخصوص وعقائده المنتحلة وإزاء مراوغة بعض شيوخه في المجادلة والنظر، وقد برز ذلك بوضوح عندما استقبل رشيد رضا أكبر علماء الشيعة بالعراق بمناسبة المؤتمر الإسلامي الذي عقد في فلسطين 1931، وهو محمد آل كاشف الغطاء زعيم الشيعة في النجف بالعراق، وقد فاوضه المؤلف في شأن سلوك بعض غلاة الشيعة ومهاجمتهم أهل السنة، وراسله الغطاء ونشر رضا رسائله في المنار منتقداً إياه على كثرة إجماله في الكلام في المناظرة وملاحظاته دون أخذ موقف صريح ونزيه من المسألة المذكورة». (المرجع السابق، ص284).
في ضوء الإشارات السابقة يتبين، أن الشيخ رشيد رضا اتجه إلى السلفية بمعناها الخاص، أكثر حتى قبل أن يتصل بالدعوة الوهابية، وأن الدولة السعودية الفتية هي مثاله في العودة بالدين إلى صفائه الأول، وهنا أسأل باستعجاب: لماذا يستنكف باروت – كما توحي عبارته – أن يكتب كتاباً يدافع فيه عن الوهابية؟! المرجع الشيعي محسن الأمين العاملي في كتابيه: (الحصون المنيعة...) و(كشف الاشتباه...) انتقد ابن تيمية وأحمد بن حنبل والوهابية وبدّعهم، وهذا من حقه المذهبي. والشيخ رشيد رضا رد عليه، فما الذي يضيره في رد رضا عليه؟!
خاصة أن الرد، كما يصفه المراكشي «رسالة قصيرة في بيان المذهبين: الوهابي والشيعي وخصائص كل منهما وبيان أوجه الاختلاف وأسباب التعارض بينهما، والمؤلف يبدو متسامحاً إزاء المذهب الثاني، ساعياً إلى التأليف بين أنصار المذهبين». (المرجع السابق، ص69).
إذا ما عدنا إلى الواقعة سنجد أن الشيخ رشيد رضا – وهو يرد على كتاب الشيخ محسن الأمين ويتبادل الرسائل مع المرجع الشيعي محمد آل كاشف الغطاء – كان ما يزال متمسكاً بفكرة التقارب المبنية على قاعدتين رفعهما في (المنار) وأعاد التذكير بهما، وهما: (نتعاون على ما نتفق عليه ويعذر بعضنا بعضاً في ما نختلف فيه) و(من اقترف سيئة من التفريق والآراء أو غير ذلك من إحدى الطائفتين بقول أو كتابة فالواجب أن يتولى الرد عليه العلماء والكتّاب من طائفته).
لكن – كما يتبين لنا - أن مجرد رده على الشيخ محسن الأمين هو عند باروت بحد ذاته، مؤشر على استيقاظ العناصر المتشددة النائمة في سلفيته، أما أن يعده الشيخ محسن الأمين مع الوهابية غير متبعين لسبيل المؤمنين، وأن يرى الشيخ عبدالحسين نورالدين الذي شارك في المناقشة – كما نقل عنه رشيد رضا في كلام الأول المنشور في مجلة المنار – «أن أكثر الصحابة والسواد الأعظم من المسلمين من بعدهم قد نصبوا العداوة والبغضاء لأهل بيت النبوة سلام الله عليهم، من عهد أبيهم علي كرم الله وجهه إلى الآن، وكذلك الأمة العربية في جملتها»، فهذان حكمان عند باروت ليس فيهما أدنى تشدد، ذلك أن التشدد عند باروت قد استأثرت السلفية به من دون المذاهب الأخرى، واحتجزته. والتشدد يكون عنده بين حالات ثلاث – ألمح هو إلى واحدة منها -: إما أن يكون غاطاً في النوم! وإما أن يكون يغالبه النعاس! وإما أن يكون متيقظاً لا ينام ولا يعتريه النعاس!
من ناحية موضوعية، إذا ما فتحنا ملف تلك الواقعة، سنجد أن الشيخ رضا كان أكثر شفافية ووضوحاً والتزاماً بالمضمون الحقيقي لفكرة التقارب المذهبي، ولا معدى – إذا توخينا الإنصاف – من أن نحكم له وليس عليه.
إننا إن عدنا إلى الفترة الزمنية التي نافح الشيخ رشيد رضا عن الدعوة الوهابية فيها وإلى الفترة الزمنية التي قبلها والفترة الزمنية التي بعدها، لوجدنا أن الدعوة الوهابية هي الركن الضعيف والمستضعف في حرب الدعاية المذهبية - لا الشيعة - في العالم الإسلامي، ومع هذا فإن باروت كان منزعجاً ومتأذياً أن تظفر السلفية بمنافح عنها كرشيد رضا الذي كان الوحيد في ميدان المنافحة إلى أن ظهر قبل وفاته بأربع سنوات شاب سلفي من نجد يدرس في الأزهر، اسمه عبدالله القصيمي، جال في ميدان المنافحة، فألّف في مرحلته السلفية كتباً قارع الأزاهرة فيها في سبيل الدفاع عن الدعوة الوهابية، وأخرج كتاباً بعد وفاة رشيد رضا بسنتين عام 1937 في الرد على كتاب المرجع الشيعي محسن الأمين: (كشف الارتياب عن أتباع الشيخ محمد بن عبدالوهاب) اسمه (الصراع بين الإسلام والوثنية). وكان هذا الكتاب هو آخر كتبه في ميدان المنافحة، إذ اتجه بعدها إلى طور إصلاحي إسلامي تجديدي ألّف فيه كتابه الشهير: (هذه هي الأغلال) ثم أوغل في الزندقة والتزندق، ولم يخلفه أحد في ميدان المنافحة، فبقي الموقع شاغراً إلى عقود طويلة.
إن رشيد رضا للأسباب التي أوردناها كان متسقاً مع نفسه ومع فكريته السلفية، حين دافع عن الدعوة الوهابية ومشروع الملك عبدالعزيز السياسي في مواجهة هجوم الشيخ محسن الأمين عليهما. والإيمان بدعوة لا يقتضي التطابق التام «في طريقة الانتظام والفهم في جهاز المفاهيم» بين المؤمن بالدعوة وبين أصحابها، وهو أمر لا يجهله باروت لكن الإغراق في الملاحاة والإسراف في العداوة، دفعه إلى أن يفهم الأمر على نحو أصولي متشدد ضيق.
أريد أن أُذّكره «أن جهاز مفاهيم» أحمد أمين وعباس محمود العقاد الليبرالي و«جهاز مفاهيم» طه حسين الساطع في علمانيته الليبرالية، رغم اختلاف هذين الجهازين الجذري «في طريقة – الانتظام والفهم عن بنية السلفية المذهبية الصلبة» لم يمنعا هؤلاء عن إطراء دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب، ولا الثناء على الدولة السعودية.
لكن هذا التذكير لا يفيد باروت، فهو مصر على تجاهل حقيقة تاريخية، وهي أن ثمة قضايا اجتمعت عليها الدعوة الوهابية والدعوة السلفية الحديثة مع الإصلاحية الإسلامية التحديثية ومع التنويريين العلمانيين من منطلقات وغايات مختلفة في مواجهة الفقهاء عامة والمؤسسات الدينية التقليدية والتدين السائد، الذي يجنح إلى الخرافة والتعبد بالأولياء أو تقديسهم.
وبعد أن يقدم هذا التعليل يتوجه إلى رضا بالنقد القائم على تقديم الرجل بصورة متناقضة، فيقول: «رغم أن جهاز مفاهيم رضا يختلف كثيراً في طريقة الانتظام والفهم عن بنية السلفية المذهبية الصلبة... وأن قاعدة التكفير الوهابية التي تنص على تكفير من آمن بالطاغوت، أو اعتبر بشريعته، تنطبق عليه حين كان رئيساً للمؤتمر السوري في عام 1920 والذي أقر دستوراً ينطبق عليه منظور السلفية المذهبية الصلبة، ومفهوم الطاغوت».
تعليل باروت الآخر، هو تعليل مخل ومبتسر، وهو فوق ذلك متحامل.
لنقدم صورة واضحة عن تحولات الشيخ رشيد رضا التي اختزلها بموقفه المساجل للشيعة.
الشيخ رشيد رضا مثلما كان شيخه محمد عبده وشيخ شيخه جمال الدين الأفغاني، هو من أتباع فكرة الجامعة الإسلامية والوحدة الإسلامية، ومن المؤمنين بفكرة التقارب بين الشيعة والسنة والداعين إليها، وهو الذي أرسى ما أسماه بقاعدة (المنار) الذهبية: (نتعاون على ما نتفق عليه، ويعذر بعضنا بعضاً في ما نختلف فيه). وهي القاعدة التي أخذها عنه الشيخ البنا، واشتهرت بواسطة جماعة الإخوان المسلمين.
يتسم فهم الشيخ رشد رضا – كما الشيخ محمد عبده – لمسألة نشأة الخلاف والفرق في الإسلام، بأنه فهم محدد ومحدود بالسياسة. «فسبب الخلاف المذهبي عنده سبب سياسي محض، يعود إلى خلل النظام السياسي في تاريخ الإسلام... فوقف منذ فصوله الأولى – أي في مجلة المنار – ضد التنازع المذهبي بين أصحاب الفرق وحتى ما اتصل منه بفرعيات الدين وجزئياته، فضلاً عن الأصول التي هي في نظره معروفة ومضبوطة عند الجميع ولا سبيل إلى التفرق في فهمها». (الدكتور محمد صالح المراكشي، تفكير محمد رشيد رضا من خلال مجلة المنار 1898-1935، ص279 و280).
يقول الدكتور يوسف حسين إيبش والدكتور يوسف قزما خوري، معدّا ومحققا كتاب (مقالات الشيخ رشيد السياسية): إن الشيخ رشيد كان أكثر ميلاً إلى السيد جمال الدين في عمله السياسي من الشيخ محمد عبده في برنامجه الإصلاحي للتربية والتعليم، وإنه يرى أن الإصلاح عن طريق السياسة أدنى وأسرع، وإن الإصلاح عن طريق تطوير برامج التعليم العالي بطيء ومردوده لا يثمر إلا في الأمد الطويل. الجزء الأول ص15.
يرى الدكتور محمد فتحي عثمان أن محمد رشيد رضا كان أعلم بنهج السلف وأحرص على الالتزام من شيخه محمد عبده، ولا يقنع ببيان الدلالة العامة للآيات ومراميها الأخلاقية والاجتماعية. وينقل عنه قوله في مفتتح الجزء الأول من تفسير المنار: «وإني لما استقليت بالعمل بعد وفاته خالفت منهجه رحمه الله بالتوسع في ما يتعلق بالآية من السنة الصحيحة سواء كان تفسيراً لها أو في حكمها. (السلفية في المجتمعات المعاصرة، ص81). وينقل الدكتور محمد صالح المراكشي قوله عن شيخه محمد عبده: إنه على نصرته للسنة لم يكن واسع العلم برواية الحديث ولا حفظه ولا كثير العناية بمعرفة الجرح والتعديل فيه، وإنما قرأ علم مصطلح الحديث وبعض متون الصحاح والسنة التي تقرأ في الأزهر وهي قليلة (...) تقرأ للتبرك لا للتفقه». (المرجع السابق، ص 239).
كان رشيد رضا ينظر إلى مشروع عبدالعزيز آل سعود السياسي والديني بإعجاب منذ فترة مبكرة من قيام المشروع. وقد تكفل بمهمة الدفاع عن الدعوة الوهابية مع زحف جيش عبدالعزيز على الحجاز، في وقت كانت الدعوة أشد ما تكون بحاجة إلى دفاعه في مصر وفي العالم الإسلامي. تكفل بالدفاع عنها في مجلته مجلة (المنار) – الذائعة في العالم العربي والعالم الإسلامي – وفي جريدة (الأهرام).
كتب المرجع الشيعي الشيخ محسن الأمين العاملي رسالة عنونها بـ(الحصون المنيعة في رد ما أورده صاحب المنار في حق الشيعة)، هي رد على مقال نشر في مجلة المنار عام 1908 تحت عنوان (كلمات عن العراق وأهله لعالم غيور على الدولة ومذهب أهل السنة) ورد على تعليق رشيد رضا عليه. المقال نشر باسم مستعار، وهو سائح عربي، عبدالهادي آل الجوهري. وفي رسالة وجهها الشيخ محمود شكري الألوسي إلى الشيخ جمال الدين القاسمي بعد سنتين من ذلك التاريخ، مال إلى أن صاحب المقال هو الشيخ كامل أفندي الرافعي (شامي متمصّر من أسرة الرافعي الطرابلسية)، وذكر أنه سلفي العقيدة.
سكت محمد رشيد رضا عن هذه الرسالة ولم يعلق على نقاشه له فيها. وبعد مضي ما يقرب من العقدين أصدر المرجع الشيعي محسن الأمين العاملي كتاباً بعنوان: (كشف الارتياب عن أتباع محمد بن عبدالوهاب)، فرد عليه رشيد رضا برسالة قصيرة عنوانها (الشيعة والسنة أو الوهابية والرافضة)، ضمنها رسالة الألوسي للقاسمي التي يرد فيها على ما ورد في كتاب (الحصون المعنية...).
يقول المراكشي: «بقي رشيد رضا شديد الحساسية إزاء المذهب الشيعي بالخصوص وعقائده المنتحلة وإزاء مراوغة بعض شيوخه في المجادلة والنظر، وقد برز ذلك بوضوح عندما استقبل رشيد رضا أكبر علماء الشيعة بالعراق بمناسبة المؤتمر الإسلامي الذي عقد في فلسطين 1931، وهو محمد آل كاشف الغطاء زعيم الشيعة في النجف بالعراق، وقد فاوضه المؤلف في شأن سلوك بعض غلاة الشيعة ومهاجمتهم أهل السنة، وراسله الغطاء ونشر رضا رسائله في المنار منتقداً إياه على كثرة إجماله في الكلام في المناظرة وملاحظاته دون أخذ موقف صريح ونزيه من المسألة المذكورة». (المرجع السابق، ص284).
في ضوء الإشارات السابقة يتبين، أن الشيخ رشيد رضا اتجه إلى السلفية بمعناها الخاص، أكثر حتى قبل أن يتصل بالدعوة الوهابية، وأن الدولة السعودية الفتية هي مثاله في العودة بالدين إلى صفائه الأول، وهنا أسأل باستعجاب: لماذا يستنكف باروت – كما توحي عبارته – أن يكتب كتاباً يدافع فيه عن الوهابية؟! المرجع الشيعي محسن الأمين العاملي في كتابيه: (الحصون المنيعة...) و(كشف الاشتباه...) انتقد ابن تيمية وأحمد بن حنبل والوهابية وبدّعهم، وهذا من حقه المذهبي. والشيخ رشيد رضا رد عليه، فما الذي يضيره في رد رضا عليه؟!
خاصة أن الرد، كما يصفه المراكشي «رسالة قصيرة في بيان المذهبين: الوهابي والشيعي وخصائص كل منهما وبيان أوجه الاختلاف وأسباب التعارض بينهما، والمؤلف يبدو متسامحاً إزاء المذهب الثاني، ساعياً إلى التأليف بين أنصار المذهبين». (المرجع السابق، ص69).
إذا ما عدنا إلى الواقعة سنجد أن الشيخ رشيد رضا – وهو يرد على كتاب الشيخ محسن الأمين ويتبادل الرسائل مع المرجع الشيعي محمد آل كاشف الغطاء – كان ما يزال متمسكاً بفكرة التقارب المبنية على قاعدتين رفعهما في (المنار) وأعاد التذكير بهما، وهما: (نتعاون على ما نتفق عليه ويعذر بعضنا بعضاً في ما نختلف فيه) و(من اقترف سيئة من التفريق والآراء أو غير ذلك من إحدى الطائفتين بقول أو كتابة فالواجب أن يتولى الرد عليه العلماء والكتّاب من طائفته).
لكن – كما يتبين لنا - أن مجرد رده على الشيخ محسن الأمين هو عند باروت بحد ذاته، مؤشر على استيقاظ العناصر المتشددة النائمة في سلفيته، أما أن يعده الشيخ محسن الأمين مع الوهابية غير متبعين لسبيل المؤمنين، وأن يرى الشيخ عبدالحسين نورالدين الذي شارك في المناقشة – كما نقل عنه رشيد رضا في كلام الأول المنشور في مجلة المنار – «أن أكثر الصحابة والسواد الأعظم من المسلمين من بعدهم قد نصبوا العداوة والبغضاء لأهل بيت النبوة سلام الله عليهم، من عهد أبيهم علي كرم الله وجهه إلى الآن، وكذلك الأمة العربية في جملتها»، فهذان حكمان عند باروت ليس فيهما أدنى تشدد، ذلك أن التشدد عند باروت قد استأثرت السلفية به من دون المذاهب الأخرى، واحتجزته. والتشدد يكون عنده بين حالات ثلاث – ألمح هو إلى واحدة منها -: إما أن يكون غاطاً في النوم! وإما أن يكون يغالبه النعاس! وإما أن يكون متيقظاً لا ينام ولا يعتريه النعاس!
من ناحية موضوعية، إذا ما فتحنا ملف تلك الواقعة، سنجد أن الشيخ رضا كان أكثر شفافية ووضوحاً والتزاماً بالمضمون الحقيقي لفكرة التقارب المذهبي، ولا معدى – إذا توخينا الإنصاف – من أن نحكم له وليس عليه.
إننا إن عدنا إلى الفترة الزمنية التي نافح الشيخ رشيد رضا عن الدعوة الوهابية فيها وإلى الفترة الزمنية التي قبلها والفترة الزمنية التي بعدها، لوجدنا أن الدعوة الوهابية هي الركن الضعيف والمستضعف في حرب الدعاية المذهبية - لا الشيعة - في العالم الإسلامي، ومع هذا فإن باروت كان منزعجاً ومتأذياً أن تظفر السلفية بمنافح عنها كرشيد رضا الذي كان الوحيد في ميدان المنافحة إلى أن ظهر قبل وفاته بأربع سنوات شاب سلفي من نجد يدرس في الأزهر، اسمه عبدالله القصيمي، جال في ميدان المنافحة، فألّف في مرحلته السلفية كتباً قارع الأزاهرة فيها في سبيل الدفاع عن الدعوة الوهابية، وأخرج كتاباً بعد وفاة رشيد رضا بسنتين عام 1937 في الرد على كتاب المرجع الشيعي محسن الأمين: (كشف الارتياب عن أتباع الشيخ محمد بن عبدالوهاب) اسمه (الصراع بين الإسلام والوثنية). وكان هذا الكتاب هو آخر كتبه في ميدان المنافحة، إذ اتجه بعدها إلى طور إصلاحي إسلامي تجديدي ألّف فيه كتابه الشهير: (هذه هي الأغلال) ثم أوغل في الزندقة والتزندق، ولم يخلفه أحد في ميدان المنافحة، فبقي الموقع شاغراً إلى عقود طويلة.
إن رشيد رضا للأسباب التي أوردناها كان متسقاً مع نفسه ومع فكريته السلفية، حين دافع عن الدعوة الوهابية ومشروع الملك عبدالعزيز السياسي في مواجهة هجوم الشيخ محسن الأمين عليهما. والإيمان بدعوة لا يقتضي التطابق التام «في طريقة الانتظام والفهم في جهاز المفاهيم» بين المؤمن بالدعوة وبين أصحابها، وهو أمر لا يجهله باروت لكن الإغراق في الملاحاة والإسراف في العداوة، دفعه إلى أن يفهم الأمر على نحو أصولي متشدد ضيق.
أريد أن أُذّكره «أن جهاز مفاهيم» أحمد أمين وعباس محمود العقاد الليبرالي و«جهاز مفاهيم» طه حسين الساطع في علمانيته الليبرالية، رغم اختلاف هذين الجهازين الجذري «في طريقة – الانتظام والفهم عن بنية السلفية المذهبية الصلبة» لم يمنعا هؤلاء عن إطراء دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب، ولا الثناء على الدولة السعودية.
لكن هذا التذكير لا يفيد باروت، فهو مصر على تجاهل حقيقة تاريخية، وهي أن ثمة قضايا اجتمعت عليها الدعوة الوهابية والدعوة السلفية الحديثة مع الإصلاحية الإسلامية التحديثية ومع التنويريين العلمانيين من منطلقات وغايات مختلفة في مواجهة الفقهاء عامة والمؤسسات الدينية التقليدية والتدين السائد، الذي يجنح إلى الخرافة والتعبد بالأولياء أو تقديسهم.