كنت وأنا طفلة رفيقة أبي الدائمة، فكلانا يحب رياضة المشي وخاصة بجوار البحر، وكلانا يحب المرح ويكره النكد. كنت أسليه وكان يسليني كالأصدقاء. سألته يوماً عن والدته التي لم أعاصرها، فابتسم ببطء قائلاً: «رحمها الله كانت صارمة، تضربني حينما أخطئ ولكن حينما أنام تقبلني وتبكي».
كان أبي كوالدته، ليس أباً حنوناً بالمعنى التقليدي ولكنه يخفي خلف قناع الصرامة مشاعر. لم يلجأ للضرب، ولكنه ضد أي نوع من الدلال، فنشأنا أنا وإخوتي هشام ودينا نشأة صارمة مختلفة عن أترابنا من جيلنا.
كان يحدثني عن ذكريات الأجداد وشظف العيش قديماً ويردد أن الأجيال الجديدة يجب أن تحمد الله على النعمة التي حبانا الله إياها بدولتنا، فقبلها كان الناس يعيشون في جوع وأمراض وجهل وخوف. عاصر كأترابه القفزة الهائلة بتاريخ البلاد. ففي طفولته لم يعرفوا الشوكولا ولا الحلويات فقد عاصر الحرب العالمية الثانية والعالم كله يئن اقتصادياً وطرق التجارة والملاحة معرقلة. وكانوا كأطفال ينتظرون صلاة المغرب ليشربوا الشاي المحلى بالسكر، وكان تذوق حبيبات السكر هذه اللحظة الذهبية في يومهم.
بدأ عمله كمدير مدرسة طلابها يقاربونه سناً، ثم تدرج بالسلم الدبلوماسي ليصبح سفيرا وحدثني عن ذكرياته بالقدس العربية حيث عين قنصلاً سعودياً في رام الله، ثم ذكرياته بغينيا، وسويسرا، واليابان (حيث ولدت أنا وأخي) وفرنسا وكوريا واليمن وغيرها. وحينما تعرض لحادثة الخطف ضمن الدبلوماسيين السعوديين بمبنى السفارة في باريس وهددهم المختطفون بالقتل، قال لهم بشجاعته وبدعابته المعروفة: «طيب بالقليل اقتلونا في الحدائق الجميلة بالخارج وليس بداخل المبنى!»، وكان واثقاً وساخراً كعادته حتى وهم مختطفون بطائرة تحلق بهم جواً بوقود شحيح والموت على رؤوسهم.
كان يشجعني وإخوتي على القراءة والعلم والاختلاط بمختلف الثقافات، ويؤكد بأن ذلك يصقل فكر الفرد ويهيئه للحياة بعالمنا الحديث. كان يؤكد بأن الإنسان يمثل نفسه ووطنه ودينه فيجب أن يقدم للعالم أفضل صورة. وكان يؤمن بأن إنسانا واحدا يستطيع التغيير. والحمد لله فقد رأيت ذلك بنفسي حينما اكتسبت صداقات من كانوا باعترافهم يخافون العرب والمسلمين.
كان كاتبا أديباً يقرأ بالعربية والإنجليزية والفرنسية والألمانية. وكان والده جدي عبدالقادر علاقي أول من أسس صالوناً أدبيا بجازان وكان من أعيانها، فوالدي نتاج محيط متنوّر راقي الفكر في أيام الظلام وندرة متذوقي الأدب والعلم. محيط أنتج أمثاله هو وعمي الدكتور مدني عبدالقادر علاقي: رجال علم وعمل وخلق. وكان جدي من المؤمنين بتعليم الفتيات لدرجة أنه أرسل بناته للتعلم في المدرسة الوحيدة الموجودة وقتها وكانت للبنين فقط ولكنهن كن يأخذن لهن زاوية لينهلن العلم ولم يكن يتعرض لهن أحد في أيام الطيبين.
كان أبي يحرص على جمع الكتب حينما يسافر للسياحة ورفيقه الدائم كتاب يقرأه في كافيه وحيدا. وكان من أعز أصدقاء طفولته وحياته الكاتب والناقد المعروف عابد خزندار رحمه الله، جمعهم حب الأدب وذكريات الدراسة.
كان كريماً مضيافاً محباً للإحسان والمساعدة بصمت. وكان العاملون بمنزله يأكلون الطعام الذي يحبه، فينهونه قبل أن يمسه، وكان ينهانا أن نكلمهم ويقول: «دعوهم يأكلون فبلادهم فقيرة ونحن الحمد لله بنعمة».
شاهدته في أوج مجده، سفيراً يتلقى الدروع في المحافل وتصفق له المدرجات من الناس، يقف قوياً متبسماً يتحدث بثقة وطلاقة. كما رأيته بكل حزن يذبل أمام عيني، ليتحول بالتدريج إلى بقايا من أبي: ليس تماماً الأب الذي أعرفه ولكنه لمحة منه، تعلقت بها لأنها كل ما تبقى لي. امتلأت أرفف مكتباته بالأدوية عوضا عن الكتب. ومنزله الذي كان يضج بالزوار صار مزاراً للأطباء والممرضات. رأيته يحن لمن رحل من رفاقه. ورأيت الأشجار والورود التي كان يرعاها تجف بعدما تولاها المزارعون.
لم أشعر أبداً بأنه يخاف أو يقلق من الغد وكان لديه إيمان قوي بالقضاء والقدر. وكلما سألته عن حاله رغم شدة المرض قال بثقة وجلد وبصوت جهور: «بخير وعافية».
وفجأة رحل بصمت!
أذكر أحد حواراتنا الأخيرة قبل تدهور صحته حينما قال لي على غير عادته: «انتبهي على نفسك» وكأنه شعر بأن حليفي ضد العالم سيتركني أواجه معركتي الآن وحدي.
أتركتني يا أبي الآن وطالما فصلت بيننا غربة ببحار وكيلومترات؟ رحلت لتذكرني بأن الحياة لا تسوى شيئاً إلا حفنة من تراب.
سوف تعيش بداخلي يا أبي بذكرياتك، ذكريات إنسان، بكل ما تعنيه الكلمة: من ضعف وقوة وتناقض وجمال.
آن لك يا أبي أن ترتاح فقد أجهدتك الرحلة الطويلة. نم بسلام بلا ألم يا أبي فقد ذهبت لأرحم الراحمين.
كان أبي كوالدته، ليس أباً حنوناً بالمعنى التقليدي ولكنه يخفي خلف قناع الصرامة مشاعر. لم يلجأ للضرب، ولكنه ضد أي نوع من الدلال، فنشأنا أنا وإخوتي هشام ودينا نشأة صارمة مختلفة عن أترابنا من جيلنا.
كان يحدثني عن ذكريات الأجداد وشظف العيش قديماً ويردد أن الأجيال الجديدة يجب أن تحمد الله على النعمة التي حبانا الله إياها بدولتنا، فقبلها كان الناس يعيشون في جوع وأمراض وجهل وخوف. عاصر كأترابه القفزة الهائلة بتاريخ البلاد. ففي طفولته لم يعرفوا الشوكولا ولا الحلويات فقد عاصر الحرب العالمية الثانية والعالم كله يئن اقتصادياً وطرق التجارة والملاحة معرقلة. وكانوا كأطفال ينتظرون صلاة المغرب ليشربوا الشاي المحلى بالسكر، وكان تذوق حبيبات السكر هذه اللحظة الذهبية في يومهم.
بدأ عمله كمدير مدرسة طلابها يقاربونه سناً، ثم تدرج بالسلم الدبلوماسي ليصبح سفيرا وحدثني عن ذكرياته بالقدس العربية حيث عين قنصلاً سعودياً في رام الله، ثم ذكرياته بغينيا، وسويسرا، واليابان (حيث ولدت أنا وأخي) وفرنسا وكوريا واليمن وغيرها. وحينما تعرض لحادثة الخطف ضمن الدبلوماسيين السعوديين بمبنى السفارة في باريس وهددهم المختطفون بالقتل، قال لهم بشجاعته وبدعابته المعروفة: «طيب بالقليل اقتلونا في الحدائق الجميلة بالخارج وليس بداخل المبنى!»، وكان واثقاً وساخراً كعادته حتى وهم مختطفون بطائرة تحلق بهم جواً بوقود شحيح والموت على رؤوسهم.
كان يشجعني وإخوتي على القراءة والعلم والاختلاط بمختلف الثقافات، ويؤكد بأن ذلك يصقل فكر الفرد ويهيئه للحياة بعالمنا الحديث. كان يؤكد بأن الإنسان يمثل نفسه ووطنه ودينه فيجب أن يقدم للعالم أفضل صورة. وكان يؤمن بأن إنسانا واحدا يستطيع التغيير. والحمد لله فقد رأيت ذلك بنفسي حينما اكتسبت صداقات من كانوا باعترافهم يخافون العرب والمسلمين.
كان كاتبا أديباً يقرأ بالعربية والإنجليزية والفرنسية والألمانية. وكان والده جدي عبدالقادر علاقي أول من أسس صالوناً أدبيا بجازان وكان من أعيانها، فوالدي نتاج محيط متنوّر راقي الفكر في أيام الظلام وندرة متذوقي الأدب والعلم. محيط أنتج أمثاله هو وعمي الدكتور مدني عبدالقادر علاقي: رجال علم وعمل وخلق. وكان جدي من المؤمنين بتعليم الفتيات لدرجة أنه أرسل بناته للتعلم في المدرسة الوحيدة الموجودة وقتها وكانت للبنين فقط ولكنهن كن يأخذن لهن زاوية لينهلن العلم ولم يكن يتعرض لهن أحد في أيام الطيبين.
كان أبي يحرص على جمع الكتب حينما يسافر للسياحة ورفيقه الدائم كتاب يقرأه في كافيه وحيدا. وكان من أعز أصدقاء طفولته وحياته الكاتب والناقد المعروف عابد خزندار رحمه الله، جمعهم حب الأدب وذكريات الدراسة.
كان كريماً مضيافاً محباً للإحسان والمساعدة بصمت. وكان العاملون بمنزله يأكلون الطعام الذي يحبه، فينهونه قبل أن يمسه، وكان ينهانا أن نكلمهم ويقول: «دعوهم يأكلون فبلادهم فقيرة ونحن الحمد لله بنعمة».
شاهدته في أوج مجده، سفيراً يتلقى الدروع في المحافل وتصفق له المدرجات من الناس، يقف قوياً متبسماً يتحدث بثقة وطلاقة. كما رأيته بكل حزن يذبل أمام عيني، ليتحول بالتدريج إلى بقايا من أبي: ليس تماماً الأب الذي أعرفه ولكنه لمحة منه، تعلقت بها لأنها كل ما تبقى لي. امتلأت أرفف مكتباته بالأدوية عوضا عن الكتب. ومنزله الذي كان يضج بالزوار صار مزاراً للأطباء والممرضات. رأيته يحن لمن رحل من رفاقه. ورأيت الأشجار والورود التي كان يرعاها تجف بعدما تولاها المزارعون.
لم أشعر أبداً بأنه يخاف أو يقلق من الغد وكان لديه إيمان قوي بالقضاء والقدر. وكلما سألته عن حاله رغم شدة المرض قال بثقة وجلد وبصوت جهور: «بخير وعافية».
وفجأة رحل بصمت!
أذكر أحد حواراتنا الأخيرة قبل تدهور صحته حينما قال لي على غير عادته: «انتبهي على نفسك» وكأنه شعر بأن حليفي ضد العالم سيتركني أواجه معركتي الآن وحدي.
أتركتني يا أبي الآن وطالما فصلت بيننا غربة ببحار وكيلومترات؟ رحلت لتذكرني بأن الحياة لا تسوى شيئاً إلا حفنة من تراب.
سوف تعيش بداخلي يا أبي بذكرياتك، ذكريات إنسان، بكل ما تعنيه الكلمة: من ضعف وقوة وتناقض وجمال.
آن لك يا أبي أن ترتاح فقد أجهدتك الرحلة الطويلة. نم بسلام بلا ألم يا أبي فقد ذهبت لأرحم الراحمين.