-A +A
عزيزة المانع
أيهما يصنع الآخر، هل المجتمع الواعي المستنير يصنع الثقافة الحية المزدهرة، أم أن الثقافة الحية المزدهرة هي التي تصنع المجتمع الواعي المستنير؟

حين ننظر إلى المجتمعات التي تزدهر فيها الثقافة والفكر، نجد أنها في معظم الحالات مجتمعات مستنيرة واعية، والعكس أيضا صحيح، فمعظم المجتمعات المتخلفة فكريا وحضاريا تكون الثقافة فيها متدنية وضحلة إن لم تكن غائبة تماما، فأيهما الذي صنع الآخر؟


لعل الإجابة السريعة التي تتبادر إلى الذهن، هي أن ازدهار الثقافة يؤثر على المجتمع فالثقافة هي التي تصنع حضارته وتنير فكره فتعمل على رقيه وتحضره. ولكن هل يمكن لنا الجزم بذلك؟ هل يمكن حقا للثقافة أن تنمو وتزدهر، إن لم يكن المجتمع أصلا في حالة من الوعي تجعله يحسن احتضان الثقافة ورعايتها وإتاحة بيئة مناسبة لنموها وازدهارها؟

هناك كثيرون لدينا يشتكون من ركود الثقافة في بلادنا وهزالة ما تقدمه من نتاج، وغالبا يتوجهون بإلقاء اللوم على الجهة العليا المسئولة عن رعاية الثقافة، فيلومونها أنها لا تعنى بالثقافة كما يجب، ولا تقدم لها من التشجيع والرعاية ما يدفع بها إلى التبلور والنمو.

من النادر أن نجد أحدا يرجع ركود الثقافة إلى البيئة الاجتماعية وما تنطوي عليه من آفات سامة تصيب الثقافة بالاعتلال، هناك آفات كامنة في بيئة المجتمع تلقي بسمومها على الثقافة فتمرضها. من هذه الآفات تجريد الثقافة من الحرية، بمعنى أن كل من يشتغل بالثقافة عليه أن يحشر نفسه داخل القفص الثقافي الموحد الذي اختارته بيئة المجتمع ووافقت عليه، وأي محاولة للخروج على ذلك تعني التعرض للعقاب والإرغام للعودة إلى داخل ذلك القفص.

تجريد الثقافة من الحرية يصيبها بالبرودة الشديدة، فتتجمد وتنطوي على ذاتها، وتأخذ في الذبول شيئا فشيئا، فمثلا، مؤسسات الفكر والفن والأدب والبحث العلمي والإنساني والابداع الموسيقي والمسرحي والرياضي وجمعيات المجتمع المدني على اختلاف أشكالها، كلها مؤسسات ثقافية تسهم في خدمة الازدهار الثقافي في المجتمع، لكنها لا تقوم بذلك الدور إلا متى وجدت مساحة من الحرية تتيح لها التحرك براحة، فهي غالبا متى كانت مقيدة تتعثر في العقبات الملقاة في طريقها، تنطوي على ذاتها تلوذ بالقديم وتبحث عن المقبول الذي لا يخشى عليه من الاعتراض والوأد فتعيد تقديمه.

والآفة الأخرى التي تمرض الثقافة، هي تعصب البيئة الاجتماعية ضد أي ظهور ثقافي أو فكري مختلف، فالبيئة الاجتماعية ترزح تحت وطأة عجزها عن التسامح وتقبل ما هو مغاير لما ألفته، ولو أن الأمر اقتصر على هذا لربما هان، لكنه يتجاوز ذلك إلى الوقوف موقفا بالغ التطرف من الاختلاف الثقافي والفكري، وذلك بمعاقبة المخالف وإرغامه على العودة للبقاء داخل القفص الثقافي الموحد الذي يتوقع أن ينحشر فيه كل من يشغل نفسه بالثقافة.

في وسط بيئة كهذه لا يتوقع أي نهوض للثقافة أو الفكر، فالحراك الثقافي والفكري يحتاج إلى بيئة مجتمعية تعزز النمو، وليس بيئة تتعمد وأد النبتة كلما طلت براعمها.