-A +A
عبداللطيف الضويحي
كلما انهمر المطر، نبتت أسئلة مبللة بالغرق، يحتار الناس هل يفرحون بالمطر أم يؤجلون فرحتهم لما بعد فصل الشتاء وموسم المطر للتأكد من حجم الأضرار التي تلحق بمنازلهم وطرقات مدينتهم وأنفاقها وجسورها.

آلاف المنازل والمنشآت والمرافق العامة لا تصمد أمام ساعة أو ساعتين متواصلتين من المطر، وإذا استمر هطول المطر مدة أطول تكون النتائج كارثية.


ما هي المشكلة؟ الإجابة السريعة والقصيرة والمتكررة هي الفساد، نعم هو الفساد وأشياء أخرى، فلو كان السبب فسادا فقط لكان من السهل تحديد المتهمين والمتورطين، ولكان بالإمكان عدم تكرار المشكلة والأخطاء.

هناك أسباب تقف وراء عدم وضوح الفساد وتحول دون تسمية الأشياء بمسمياتها، وتجعل من الفساد أمرا مألوفا في كثير من الأحيان لالتباسه مع مشكلات تشريعية ومشكلات تنظيمية ومشكلات مجتمعية.

من أبرز تلك المشكلات في ظني غياب النقابات المهنية والعمالية.. النقابات المهنية والعمالية كفيلة بوضع النقاط على الحروف، وكفيلة بفضح الفساد إذا كان السبب وراء ظاهرة تساقط الأسطح وخرير المياه من الأسقف وتساقط المباني والمرافق والمنازل والممتلكات الخاصة والعامة. فلكي نميز الفساد المقصود بذاته، لا بد أن نقر ونعتمد شهادات مهنية لأصحاب المهن على اختلاف مهنهم.

لا بد من اختبارات دورية، ولا بد من تأهيل أصحاب المهن والعمال كل حسب مهنته ومجاله، لا يمكن القبول باستمرار عمل الطباخين مقاولين، والخياطين مهندسين، والمعقبين والسائقين محامين.

لا يمكن ترك كل من له مزاج يتنقل من صيانة المكيفات إلى العمل في مكاتب السياحة أو الفنادق، هناك مهن يجب أن يحترمها أصحابها، وأن يعملوا بها باحترافية وبتدريب مستمر، وأن يتم لهم اختبارات مستمرة لضمان إتقانهم لمهنتهم، ولمنحهم رخصة واعتمادا يخولهم العمل فقط في هذا المجال دون سواه.

هذا التنظيم لا يمكن للحكومة أن تقوم به ولا يمكن للقطاع الخاص أن يقوم به، وإذا أرادت الحكومة إنشاء مؤسسة حكومية للقيام به، فسوف لن يختلف هذا الجهاز عن مؤسسة التدريب التقني والمهني المعاقة بنفسها، والتي أعاقت كل ما عداها ممن يتعامل معها.

هذا العمل هو مسؤولية النقابات المهنية والعمالية، والتي تتبع عادة المجتمع المدني. لقد حان الوقت لإقرار نظام النقابات المهنية والعمالية للارتقاء بمستوى العمل ولتحديد المسؤوليات عندما تقع الأزمات والكوارث سواء في موسم المطر أو في ظروف أخرى.

أعتقد أن جزءا كبيرا من مشكلة تحديد المسؤولية عند انهيار المباني، أو تساقط المباني أو خرير المياه من السطوح أو جرف السيول للأنفاق والجسور، هو التداخل بين مسؤوليات المهن وعدم وضوح المسؤوليات والناتجة عن أن الكل يعمل الكل. فالحارس حاليا بعد سنة يمكنه القيام بأعمال المقاول وبعد سنتين يكون «مؤهلا» لخوض التجربة إذا كانت مربحة، والسائق يمكنه أن يجتاز نفسيا الحاجز المهني ويعمل خبير مبيدات حشرية وبعدها بسنة يصبح مهندسا زراعيا، خاصة أن المؤسسة الحكومية لا تكترث كثيرا للأخطاء الفنية والمهنية والتنفيذية، بقدر ما تهتم بالشكليات والديكور الخارجية، ولا ينعكس اهتمامها في العقود، بحيث تتضمن عقود الترسية، صيانة الطرق والشبكات والجسور على نفس الجهة المنفذة لكي تحسب تلك الجهات ألف حساب لنوعية التنفيذ ومستوى التنفيذ ومهنية المنفذين.

لو أرادت نزاهة اليوم أن تحدد مسؤولية الفساد في حادثة سقوط أحد مباني جامعة الإمام، أو أحد الجسور في جدة أو سقوط أسقف مطار، ربما لأمكنها تحديد الشركة التي وقعت ونفذت وكذلك الطرف الحكومي المتخاذل أو المتواطئ معها، لكنني أشك أن نزاهة تستطيع تحديد مسؤولية المهنيين في الشركة بدءا من المقاولين والمهندسين والمصممين والحدادين والنجارين والكهربائيين والسباكين والتقنيين لسبب بسيط هو أن جميع هؤلاء كأفراد ببساطة يستطيعون أن ينكروا صلتهم المهنية بالموضوع، فلا تصنيف لهم مهنيا ولا جهة نقابية تسحب منهم تصنيفهم أو تعاقبهم بعد العديد من الكوارث التي يرتكبونها، والأدهى والأمر هو أن من يتم عقابه في حادثة أو كارثة، يمكنه بعدها أن يستمر في ذات المهنة أو المهن التي تستهويه، ولا أحد مهنيا يستطيع أن يضعه في القائمة السوداء مهنيا. وبمعنى آخر، نحتاج لأن يشمل عقاب نزاهة أو غيرها الذين لا يحملون شهادة مهنة أو يعملون بغير مهنتهم، ولا يكفي عقاب الشخصيات أو الشركات المتورطة بالفساد.

لقد حان الوقت لوقف هذا العبث وهذه الفوضى المهنية، لوقف الداخلين على المهنة من باب المزاج ومن باب العرض والطلب ومن باب تنويع الزبائن وتوسيع سوق العمل الشخصي، إننا اليوم، ووفقا لكل ما تشهده المملكة من تطلعات وتخوفات، بحاجة لإصدار نظام النقابات المهنية والعمالية لتكون القائمة السوداء هي أقل ما يمكن القيام به داخل المملكة وفي دول الخليج لكل المتورطين والمتلاعبين مهنيا.