تناول الدكتور محمد القنيبط في مقاله الأسبوع الماضي «الرجَّال واصل» قضية الفساد المؤسسي وأسبابها المجتمعية، وأرجعها لما يُطلِق عليه الفوبيا السعودية -وربما الخليجية- والتي يوجزها في هذه الخرافة التي تتردد على ألسنة الجميع، وتحول دون كشف الفساد وتعريته أمام المسؤولين، وهو ما يسهم في تضخم حالة الفساد واستشرائها شيئاً، ولا شك أننا نتفق جملة وتفصيلاً مع الكثير مما ذهب إليه الزميل الفاضل من تحليلات وأسباب ونتائج، غير أنه من الأهمية بمكان أن نشير هنا إلى أن الكثير من العاملين بمؤسسات الدولة المختلفة، ومن مختلف الدرجات الوظيفية، يرغبون في محاربة الفساد، ويفضلون أن تسود الشفافية والوضوح المنظومة المؤسسية بالكامل، والأكثر من ذلك أنهم يستطيعون بقدر الصلاحيات المتاحة لهم أن يقضوا على مستويات عديدة من الفساد الإداري، غير أن ذلك غير ممكن عملياً لأسباب متعددة.
ولو عدنا قليلاً لتحليل أسباب هذا الإخفاق فسنجدها تتركز في خوف ورهبة الكثير من المرؤوسين من صلاحيات الرؤساء التي تبدو لهم مطلقة وكأنها سيف مسلط على رقابهم، تحول دون قدرتهم على استجماع شجاعتهم والكشف عما يرونه من خلل أو أوضاع تستحق التعديل بالمنشآت التي يعملون بها، ناهيك عن عدم قدرتهم على التقدم بشكاوى ضد رئيس المؤسسة لفضح أي تهاون أو تقصير أو إهمال يعتري عمله، فتكون نتيجة اجتهادهم أو خوفهم على الصالح العام أن يتم حرمانهم مثلاً من ترقيات أو علاوات مستحقة، والنتيجة في نهاية المطاف تكون لصالح سياسة «خليك جنب الحيط».
أما القلة من الموظفين الحالمين الذين يقاومون رهبة صلاحيات الرئيس المباشر ويتجرأون ويقومون بتقديم شكاوى ضد رؤساء عملهم المباشرين، فإنه من السهل إيقاعهم في شباك التشكيك والمشاغبة وانعدام المصداقية، حيث لا يخفى على المتمرسين في العمل الإداري أن بعضاً من رؤساء المؤسسات يطبقون مبدأ «الإدارة بالأذنين»، فالرئيس المباشر للموظف المشتكي هو دوماً الصادق الصدوق بالنسبة لرئيس المؤسسة (ولِم لا؟ فهو من قام باختياره وتزكيته)، أما الموظف المشتكي فهو المشاغب الذي يرغب في تشويه صورة المؤسسة، ولهذا يرى الكثير من الموظفين بالفعل اختصار كل هذه العقبات الشاقة والطرق الوعرة، والإبقاء على أفواههم مغلقة وغض البصر عما يرونه من أخطاء وتقصير.
من المؤسف أن تكون الكثير من طبقات الفساد المتراكمة سببها خرافات راسخة في عقول الموظفين فحسب، خرافات أصلها أن هؤلاء المسؤولين وشلتهم «واصلون» ولا يمكن محاسبتهم من الأساس، ولهذا نرى الكثير من المخالفات قد لا يعلم بها حتى بعض المسؤولين حتى تتحول لقضايا كبرى مؤرقة، تطرح أسئلة عسيرة من قبل: «متى بدأت هذه المشكلة؟» أو «كيف تفاقمت لهذا الحد؟» أو «لماذا لم يتم متابعتها من بداية حدوثها؟» وهكذا دواليك، من المهم أن نرى ظاهرة الفساد الإداري والمؤسسي من جميع الزوايا، خاصة تلك السلوكيات والظواهر الممقوتة - ولنطلق عليها النفاق الإداري - والتي قد تكون هي السبب في ترسيخ هذه الخرافات.
على سبيل المثال عند تعيين مسؤول جديد (وزير أو نائب وزير أو وكيل وزارة، إلخ) تنهال على بعضهم الدعوات الشخصية من كثير ممن حوله، وخلال الاحتفال به يتبارى هؤلاء المضيفون بالاحتفاء به بصورة ممجوجة تصل لحد إلقاء القصائد الشعرية لمدحه والثناء عليه!، حتى لو كانوا يعلمون مقدماً أن هذه الصفات لا تتوافر أي منها في المحتفى به، وعلى الرغم من أن المسؤول الجديد يستشعر بالتملق والتزلف فإن هذا بلا شك يطرب أذنيه، خاصة وهو يرقب باستمتاع نظرات المدعوين؛ منهم المعجب به ومنهم من كانت نظراته تتوسل التقرب منه، فكل هذا يرضي غروره في نهاية المطاف، وعقب انتهاء حفلات النفاق ينضم الداعي راعي الحفل لشلة هذا المسؤول ويبدأ الضيوف والحاضرون في الترويج لأسطورة «الرجَّال واصل»، فهو الصديق الحميم للمحتفى به ومن ثم يبدأ الموظفون في المؤسسة في تملقه أو الخوف منه.
من المؤكد أن هذه الظاهرة المستفحلة بدأت في التعافي مؤخراً من مرضها العضال خاصة بعد انتشار قنوات التواصل الاجتماعي في المجتمع، وأصبح بمقدور الكثيرين البوح بما يرونه من خلال هذه القنوات باعتبارها منابر يمكن من خلالها رصد تجاوزات المسؤولين - وبالذات الوزراء ونوابهم - بالبراهين الدامغة، وقد شهدنا بفضل الله في عهد الحزم إعفاءات لعدد من المسؤولين بعد تداول وثبوت مخالفاتهم سواء كانت إدارية أو سلوكية عبر الكثير من وسائل التواصل الاجتماعي المختلفة، أو حتى بسبب انخفاض الأداء الوزاري، وهذه الإعفاءات التي تمت عقب فترات وجيزة من تعيينهم تعد بوجه عام ظاهرة صحية، فالوزير لم يعد يتمتع بحصانة ضد المحاسبة، بل يمكننا القول إن الوزير أصبح في الوقت الراهن تحت المجهر أكثر من أي وقت مضى، كما أن المواطن - من ناحية أخرى - ليس حقلاً للتجارب.
أضف إلى ذلك أن انفتاح الصحف وحرية التعبير أضحت بارزة للعيان أكثر من أي وقت مضى، وأصبحت هذه الصحف نفسها منبراً لنقل تجاوزات الوزراء ونوابهم، وقد شهدت ذلك بنفسي من خلال تجربتي في الصحافة التي دخلت عامها السادس، بالإضافة لتجارب أخرى أشار إليها العديد من زملائي الكتاب أيضاً، حيث ترد إلى بريدي الكثير من الشكاوى والتظلمات لأعرضها على الرأي العام، غير أنني في غالبية الأحوال لا أتمكن من البت بشأنها وعرضها لعدم درايتي وتخصصي في القضية المطروحة، فما يمكنني طرحه أقوم بعرضه، وما لا يمكنني تناوله أحيله لمن يهمه الأمر.
لا شك أن قضية السرطان الإداري والمؤسسي لها عدة زوايا ورؤى، منها ما يقع على عاتق المسؤولين ومنها ما يقع على عاتق المرؤوسين، ولا يمكن حلها من خلال التركيز على جانب واحد منهما فحسب، فبقدر ما نطالب بتقنين القوانين وإجراءات الكشف عن الفساد والتشجيع على التعامل بشفافية ومسؤولية، بقدر ما نطالب المرؤوسين بالتحلي بالشجاعة والإخلاص وروح الفريق، والكشف عما يرونه من خلل أو إهمال أو تقصير، والحل يجب أن يكون شاملاً ومستقصياً لجميع جوانب المشكلة، فلا المسؤول ذو المرتبة الرفيعة هو المسؤول وحده عن الفساد المتغلغل في المنظومة الإدارية بالمملكة، ولا المرؤوسون المتقهقرون اللامبادرون واللامبالون هم السبب الجوهري في توغل وتغول الفساد، فلكل منهما نصيبه من المشكلة ومن الحل أيضاً، وعلينا أن نبدأ من الآن فصاعداً من العمل على كلتا الجبهتين بنفس الحماس والجهد والإخلاص، لنتخلص من مشكلة أرقتنا كثيراً، وكدنا أن نرضخ لخرافاتها لردح طويل من الزمن.
ولو عدنا قليلاً لتحليل أسباب هذا الإخفاق فسنجدها تتركز في خوف ورهبة الكثير من المرؤوسين من صلاحيات الرؤساء التي تبدو لهم مطلقة وكأنها سيف مسلط على رقابهم، تحول دون قدرتهم على استجماع شجاعتهم والكشف عما يرونه من خلل أو أوضاع تستحق التعديل بالمنشآت التي يعملون بها، ناهيك عن عدم قدرتهم على التقدم بشكاوى ضد رئيس المؤسسة لفضح أي تهاون أو تقصير أو إهمال يعتري عمله، فتكون نتيجة اجتهادهم أو خوفهم على الصالح العام أن يتم حرمانهم مثلاً من ترقيات أو علاوات مستحقة، والنتيجة في نهاية المطاف تكون لصالح سياسة «خليك جنب الحيط».
أما القلة من الموظفين الحالمين الذين يقاومون رهبة صلاحيات الرئيس المباشر ويتجرأون ويقومون بتقديم شكاوى ضد رؤساء عملهم المباشرين، فإنه من السهل إيقاعهم في شباك التشكيك والمشاغبة وانعدام المصداقية، حيث لا يخفى على المتمرسين في العمل الإداري أن بعضاً من رؤساء المؤسسات يطبقون مبدأ «الإدارة بالأذنين»، فالرئيس المباشر للموظف المشتكي هو دوماً الصادق الصدوق بالنسبة لرئيس المؤسسة (ولِم لا؟ فهو من قام باختياره وتزكيته)، أما الموظف المشتكي فهو المشاغب الذي يرغب في تشويه صورة المؤسسة، ولهذا يرى الكثير من الموظفين بالفعل اختصار كل هذه العقبات الشاقة والطرق الوعرة، والإبقاء على أفواههم مغلقة وغض البصر عما يرونه من أخطاء وتقصير.
من المؤسف أن تكون الكثير من طبقات الفساد المتراكمة سببها خرافات راسخة في عقول الموظفين فحسب، خرافات أصلها أن هؤلاء المسؤولين وشلتهم «واصلون» ولا يمكن محاسبتهم من الأساس، ولهذا نرى الكثير من المخالفات قد لا يعلم بها حتى بعض المسؤولين حتى تتحول لقضايا كبرى مؤرقة، تطرح أسئلة عسيرة من قبل: «متى بدأت هذه المشكلة؟» أو «كيف تفاقمت لهذا الحد؟» أو «لماذا لم يتم متابعتها من بداية حدوثها؟» وهكذا دواليك، من المهم أن نرى ظاهرة الفساد الإداري والمؤسسي من جميع الزوايا، خاصة تلك السلوكيات والظواهر الممقوتة - ولنطلق عليها النفاق الإداري - والتي قد تكون هي السبب في ترسيخ هذه الخرافات.
على سبيل المثال عند تعيين مسؤول جديد (وزير أو نائب وزير أو وكيل وزارة، إلخ) تنهال على بعضهم الدعوات الشخصية من كثير ممن حوله، وخلال الاحتفال به يتبارى هؤلاء المضيفون بالاحتفاء به بصورة ممجوجة تصل لحد إلقاء القصائد الشعرية لمدحه والثناء عليه!، حتى لو كانوا يعلمون مقدماً أن هذه الصفات لا تتوافر أي منها في المحتفى به، وعلى الرغم من أن المسؤول الجديد يستشعر بالتملق والتزلف فإن هذا بلا شك يطرب أذنيه، خاصة وهو يرقب باستمتاع نظرات المدعوين؛ منهم المعجب به ومنهم من كانت نظراته تتوسل التقرب منه، فكل هذا يرضي غروره في نهاية المطاف، وعقب انتهاء حفلات النفاق ينضم الداعي راعي الحفل لشلة هذا المسؤول ويبدأ الضيوف والحاضرون في الترويج لأسطورة «الرجَّال واصل»، فهو الصديق الحميم للمحتفى به ومن ثم يبدأ الموظفون في المؤسسة في تملقه أو الخوف منه.
من المؤكد أن هذه الظاهرة المستفحلة بدأت في التعافي مؤخراً من مرضها العضال خاصة بعد انتشار قنوات التواصل الاجتماعي في المجتمع، وأصبح بمقدور الكثيرين البوح بما يرونه من خلال هذه القنوات باعتبارها منابر يمكن من خلالها رصد تجاوزات المسؤولين - وبالذات الوزراء ونوابهم - بالبراهين الدامغة، وقد شهدنا بفضل الله في عهد الحزم إعفاءات لعدد من المسؤولين بعد تداول وثبوت مخالفاتهم سواء كانت إدارية أو سلوكية عبر الكثير من وسائل التواصل الاجتماعي المختلفة، أو حتى بسبب انخفاض الأداء الوزاري، وهذه الإعفاءات التي تمت عقب فترات وجيزة من تعيينهم تعد بوجه عام ظاهرة صحية، فالوزير لم يعد يتمتع بحصانة ضد المحاسبة، بل يمكننا القول إن الوزير أصبح في الوقت الراهن تحت المجهر أكثر من أي وقت مضى، كما أن المواطن - من ناحية أخرى - ليس حقلاً للتجارب.
أضف إلى ذلك أن انفتاح الصحف وحرية التعبير أضحت بارزة للعيان أكثر من أي وقت مضى، وأصبحت هذه الصحف نفسها منبراً لنقل تجاوزات الوزراء ونوابهم، وقد شهدت ذلك بنفسي من خلال تجربتي في الصحافة التي دخلت عامها السادس، بالإضافة لتجارب أخرى أشار إليها العديد من زملائي الكتاب أيضاً، حيث ترد إلى بريدي الكثير من الشكاوى والتظلمات لأعرضها على الرأي العام، غير أنني في غالبية الأحوال لا أتمكن من البت بشأنها وعرضها لعدم درايتي وتخصصي في القضية المطروحة، فما يمكنني طرحه أقوم بعرضه، وما لا يمكنني تناوله أحيله لمن يهمه الأمر.
لا شك أن قضية السرطان الإداري والمؤسسي لها عدة زوايا ورؤى، منها ما يقع على عاتق المسؤولين ومنها ما يقع على عاتق المرؤوسين، ولا يمكن حلها من خلال التركيز على جانب واحد منهما فحسب، فبقدر ما نطالب بتقنين القوانين وإجراءات الكشف عن الفساد والتشجيع على التعامل بشفافية ومسؤولية، بقدر ما نطالب المرؤوسين بالتحلي بالشجاعة والإخلاص وروح الفريق، والكشف عما يرونه من خلل أو إهمال أو تقصير، والحل يجب أن يكون شاملاً ومستقصياً لجميع جوانب المشكلة، فلا المسؤول ذو المرتبة الرفيعة هو المسؤول وحده عن الفساد المتغلغل في المنظومة الإدارية بالمملكة، ولا المرؤوسون المتقهقرون اللامبادرون واللامبالون هم السبب الجوهري في توغل وتغول الفساد، فلكل منهما نصيبه من المشكلة ومن الحل أيضاً، وعلينا أن نبدأ من الآن فصاعداً من العمل على كلتا الجبهتين بنفس الحماس والجهد والإخلاص، لنتخلص من مشكلة أرقتنا كثيراً، وكدنا أن نرضخ لخرافاتها لردح طويل من الزمن.