-A +A
نجيب يماني

@NAJEEBYAMANI

تهديدات، حرائق، مطاردات، صيحات استنكار، رعب يكسو الوجوه، هروب، اعتذارات، تبريرات، تصريحات تتأكد في الليل وتنفى بالنهار، فوضى واحتساب على عادات وتقاليد بحجج واهية، مرة بحجة الاختلاط، وأخرى سماع أصوات لمزامير الشيطان، وثالثة فساد وتغريب وإخراج الحرائر من خدورهن، وكأن ليس للعالم قضية إلا هن! ورابعة من باب سد الذرائع، وخامسة مخالفة لشرع الله. ما حدث في أمسية الشاعر حيدر العبد الله في النادي الأدبي بمدينة الطائف، وقبلها في أماسٍ متعددة لفعاليات شعرية وأدبية ومهرجانات رسمية، أصحابها من رحم الوطن أبناء له. إذ ينبعث أُناس يدّعون الاحتساب على كل فعاليات الفرح بطول الوطن وعرضه دون دليل مقنع يمكنهم من فعلهم هذا إلا جهل متوارث من أيام صحوة سادت ثم بادت كزبد يذهب جفاء، فهي صحوة لم تنفع الناس ولم تمكث في أرض الله، في دلالة إلهية على أن الباطل مصيره إلى اضمحلال، وأن خاتمة الأديان وسطية واعتدال.

من بواطل أقوالهم ونواقض تشنيعاتهم أن استضافة (شاعر) معصية لله، وأن الشعراء يدسون السم في العسل، وأن قصائد الشعراء في النوادي الأدبية التي ترعاها دولة التوحيد منحرفة باطلة، مطالبين رؤساء النوادي بعدم فتح باب الشر، ولو كان الشعر شراً لما شجعه وأقره من هو خير منهم سيد الثقلين عليه الصلاة والسلام في مسجده المبارك، يقول لأصحابه اسمعوا لكعب بن زهير وهو يقول الشعر حتى إذا انتهى من قصيدته ألقى عليه بردته الشريفة وأهداه مئة من الإبل، مما اعتبره عقلاء الأمة وفقهاؤها الحقيقيون حجة في سنية الجائزة على الشعر، بل وفي إعلاء شأنه.


كما كان حبر هذه الأمة عبدالله ابن عباس كما يروي ابن الأثير في (كامله) وهو جالس في المسجد الحرام أمام أول بيت وضع للناس ببكة مباركاً، وعنده ناس من الخوارج يسألونه، إذ أقبل عمرو بن أبي ربيعة أشعر شعراء قريش وأشهرهم بقول الغزل وشعر المجون والخلاعة لقبه العاشق، مشهور بتحرشه بالجميلات وتشببه بهن في موسم الحج، حتى أنه تمنى لو كان الحج مستمراً طوال العام، وكان لا يمدح إلا النساء، فقال له العباس بعد أن أعرض عمن أمامه أنشدنا فأنشد له:

أَمِن آلِ نُعمٍ أَنتَ غادٍ فَمُبكِرُ

غَداةَ غَدٍ أَم رائِحٌ فَمُهَجِّرُ

حتى إذا سمعها كلها مُعجباً طرباً انبرى له الخوارج قائلين، تالله يا ابن عباس نضرب إليك أكباد الإبل لنسألك عن الحرام والحلال ويأتيك مترف من مترفي قريش فينشدك فتسمح له. وفي هذا دلالة واضحة على جهل من يحتسب على الشعر وصناعة الأدب ويدعي باطلاً أنه شر ومخالف للشرع. وهذا مما ينفيه ابن عباس ويؤكده لمريديه إذا أشكل عليكم الشيء من القرآن فارجعوا فيه إلى الشعر فإنه ديوان العرب، وكان رضي الله عنه يسأل عن القرآن فينشد الشعر. وكان شاعر الإسلام حسان بن ثابت الذي قال عنه نبي الرحمة أن روح القدس لا يزال يؤيده، ينشد شعره في مسجد رسول الله وبين يديه، ويبتسم نبي الرحمة له ويفرح لشعره، وكان صاحب هذه الرسالة العظيمة يستحسن الشعر ويستنشده من أهله ويثيب قائله ويقول في كل مرة (إن من الشعر لحكمة وإن من البيان لسحر).

ويحاول سيدنا عمر الشديد القوي أن يمنع حسان من قول الشعر في مسجد رسول الله، فيرده حسان بقوله لقد أنشدت فيه من هو خير منك، فمن باب أولى أن ينشد الشعر ويتذوق من على منابر النوادي الأدبية، والمهرجانات برعاية الدولة ومؤسساتها الرسمية فلا مكان لكم للاحتساب ولا تقربون، فإن ما تفعلونه إنما هو تطفل ولقافة لا مكان لها في دين المحبة والسلام. وفي احتساب مبتدع يستنكر المحتسبين على شاعر فصل جسد المرأة في شعره في أدبي المدينة وادعوا باطلاً أن هذا دخيل على ثقافتنا العربية أتى بها الشاعر من ثقافات يونانية وغربية كعادتنا في غسيل الذوات وأبلسة الآخر وشيطنة الغرب تناسوا أن الشاعر العربي لا يروق له الشعر إلا بوصف المرأة وتفاصيلها حتى أصبح جزءا مهما من نسيج القصيدة العربية يقول كعب أمام حضرة النبي: هيفاء مقبلة عجزاء مدبرة لا يشتكي منها قصر ولا طول، يتغزل بسعاد بداية وهو في موقف الاعتذار أمام رسول الله وغير كعب ألوف انسربوا في الغزل والنثر بشكل فاضح وآخر عذري يمتد إلى عنق المعنى المتبطن في هذه الكلمة فلا تستفتح قصيدة إلا بغزل ولو كان من الخيال.

لا تحتسبوا على أشياء الأصل فيها الإباحة بفعل نبي الأمة والصحابة، ولا تضيقوا على الناس ما وسعهم، فالأمور الخلافية لا احتساب عليها. نحتاج إلى السماع والانتشاء وطرد النكد لنعيش اللحظة ونرسم البسمة. لابد من إعادة تشكيل الوعي بإشاعة الفنون وفق خطاب تنويري نخلص به من بذور التطرف وسوءات الصحوة والتي تفسد أي مشروع لبناء إنسان حقيقي لهذه الأرض الطيبة.