أعتقد أن من يمر بمدينة (لندن) دون أن يذهب إلى المسرح، كمن يزور القاهرة ولا يشرب كوباً من العرقسوس المصفى.. وقد يكون هذا الاعتقاد ناتجا عن حكاية العشق الطويلة التي نشأت بيننا أنا والمسرح للدرجة التي أصبحت أؤمن بحقيقة أن الحياة بلا مسرح ما هي إلا مقبرة كبيرة، فالمسرح والموسيقى والسينما والكتاب -من وجهة نظري- مواد أولية حقيقية لتشكيل فكر ومشاعر وأحاسيس الإنسان.. وإذا كان للعصافير في (لندن) في الليل من مأوى تعود إليه وللقطارات محطات تستريح فيها من تعب النهار فراحتي في الإجازة كرسي في مسارح (بردوي) في نيويورك أو (ودروي لين) في (لندن) قد لا أستطيع فعلاً وصف الغبطة التي تغمرني حين أشاهد مسرحية رفيعة المستوى، ولكني سأحاول أن أقرب لكم هذا الشعور..
تخيل مشاعرك وأنت تعود إلى البيت متأخراً فتدنو من طفلك تقبله دون أن توقظه أو أن تجلس في مقهى تتأمل المراكب تتوالد من النهاية لترى محمد صادق دياب (أبو غنوة) أو عبدالله الجفري (أبو وجدي) آتياً من العدم ماشياً فوق الماء، لك أن تتخيل أن من يموت يعود! اليس ذلك منتهى البهجة! كنت أقتل الوقت متسكعاً في (الكوفن جاردن) قبل أن تبدأ المسرحية حالماً، وضعت جسدي على سجادة القطع الحجرية التي تغطي الطريق، تأملت العشاق يرمي كل منهم بأمنية وقطعة نقدية في بركة الحديقة المقابلة للكنيسة العتيقة، بريق غامض كان يكسو عيونهم وهم يفعلون ذلك.. لكم هي حلوة هذه المنطقة من المدينة، فحتى الشحاذون فيها غير تقليديين، متسولو (لندن) لا يمدون أيديهم وإنما يلعبون بفرشاتهم وألوانهم ليرسموك في دقائق على لوحة بديعة، تجد كذلك بين هؤلاء من يمسك بآلة موسيقية يجيد العزف عليها ويطلق ألحانه على المارة طالباً بعض النقود، إنهم شحاذون فنانون وهذا أرقى أنواع التسول في مدينة كتبت التاريخ.. استوقفني صوت موسيقى على مدخل الطريق الضيق، كان عازف يعلق آلة كمان على مستوى كتفه يبث ألحانه وقد ترك صندوقها الأسود مفتوحاً ليضع فيها المارة نقوداً أثناء عزفه لمعزوفة جميلة ومجهولة تماماً بالنسبة لي.. صوت الفتاة التي تقف إلى جواره معبر وجميل.. كانت هدنة موقتة في سماء (لندن)، استرخت أعصابي وأنا أتابع كلمات الأغنية «وجهان مبتسمان.. هكذا اعتادا أن يكونا دائماً.. لكن ذلك الذي كان أبدياً بينهما أصبح مجرد ذكرى تتلاشى.. أعتقد أنه كان مجرد وهم وبدون تفسير.. سقطت الأزهار من الورود.. أيتها السماء ساعدي قلبي.. فإن ثمة الكثيرين أمثالي.. متى أستعيد الحب الذي أحتاج إليه أيتها السماء».. تركت المكان لألحق بالمسرحية وأنا أحاول جاهداً أن أعرف اسم الأغنية، ألم يحدث لكم موقف مشابه عندما تستمعون صدفة إلى أغنيه عذبة حائرة لا تعرفون اسمها واسم مغنيها وبعدها تمارسون البحث الجميل عن هذا الطيف حتى تحصلوا عليه والعثور عليه متعة تعادل مهمة البحث وسماع الأغنية نفسها أحياناً.. استلمت الكتيب الأنيق الذي منحتني إياه الفتاة في مدخل المسرح والذي يروي نبذة مختصرة عن المسرحية التي استلهم موضوعها المؤلف من صورة منشورة في إحدى المجلات عثر عليها صدفة فوق البيانو الخاص به عام 1985، وكانت الصورة عبارة عن لقطة لامرأة فيتنامية ترتسم على وجهها معالم الحزن والأسى العميق وهي واقفة في مطار (هوش منه) تودع طفلتها الصغيرة المسافرة إلى والدها الأمريكي الذي أنجبتها منه خلال فترة وجوده في فيتنام التي لن تراها بعد ذلك أبداً، وكانت اللقطة تتضمن صورة الطفلة التي تمد يديها إلى أمها في هلع وتبكي بعد أن انتزعت من الشخص الوحيد الذي تعرفه في العالم في طريقها إلى والد لم تره من قبل.. ساعتان من العرض تجعلانك تتخيل أنك في حلم من الأحلام التي ترفعك إلى عنان السماء باكياً من جمال موسيقى (كلود ميشيل) والمؤلف (ألن بوبيل) التونسي الأصل الذي لا يقل عنه المرحوم السوري (محمد الماغوط) قدره سوى أن (ألن بوبيل) يوقع اسمه باللغة الفرنسية ولا يتحدث العربية.
تخيل مشاعرك وأنت تعود إلى البيت متأخراً فتدنو من طفلك تقبله دون أن توقظه أو أن تجلس في مقهى تتأمل المراكب تتوالد من النهاية لترى محمد صادق دياب (أبو غنوة) أو عبدالله الجفري (أبو وجدي) آتياً من العدم ماشياً فوق الماء، لك أن تتخيل أن من يموت يعود! اليس ذلك منتهى البهجة! كنت أقتل الوقت متسكعاً في (الكوفن جاردن) قبل أن تبدأ المسرحية حالماً، وضعت جسدي على سجادة القطع الحجرية التي تغطي الطريق، تأملت العشاق يرمي كل منهم بأمنية وقطعة نقدية في بركة الحديقة المقابلة للكنيسة العتيقة، بريق غامض كان يكسو عيونهم وهم يفعلون ذلك.. لكم هي حلوة هذه المنطقة من المدينة، فحتى الشحاذون فيها غير تقليديين، متسولو (لندن) لا يمدون أيديهم وإنما يلعبون بفرشاتهم وألوانهم ليرسموك في دقائق على لوحة بديعة، تجد كذلك بين هؤلاء من يمسك بآلة موسيقية يجيد العزف عليها ويطلق ألحانه على المارة طالباً بعض النقود، إنهم شحاذون فنانون وهذا أرقى أنواع التسول في مدينة كتبت التاريخ.. استوقفني صوت موسيقى على مدخل الطريق الضيق، كان عازف يعلق آلة كمان على مستوى كتفه يبث ألحانه وقد ترك صندوقها الأسود مفتوحاً ليضع فيها المارة نقوداً أثناء عزفه لمعزوفة جميلة ومجهولة تماماً بالنسبة لي.. صوت الفتاة التي تقف إلى جواره معبر وجميل.. كانت هدنة موقتة في سماء (لندن)، استرخت أعصابي وأنا أتابع كلمات الأغنية «وجهان مبتسمان.. هكذا اعتادا أن يكونا دائماً.. لكن ذلك الذي كان أبدياً بينهما أصبح مجرد ذكرى تتلاشى.. أعتقد أنه كان مجرد وهم وبدون تفسير.. سقطت الأزهار من الورود.. أيتها السماء ساعدي قلبي.. فإن ثمة الكثيرين أمثالي.. متى أستعيد الحب الذي أحتاج إليه أيتها السماء».. تركت المكان لألحق بالمسرحية وأنا أحاول جاهداً أن أعرف اسم الأغنية، ألم يحدث لكم موقف مشابه عندما تستمعون صدفة إلى أغنيه عذبة حائرة لا تعرفون اسمها واسم مغنيها وبعدها تمارسون البحث الجميل عن هذا الطيف حتى تحصلوا عليه والعثور عليه متعة تعادل مهمة البحث وسماع الأغنية نفسها أحياناً.. استلمت الكتيب الأنيق الذي منحتني إياه الفتاة في مدخل المسرح والذي يروي نبذة مختصرة عن المسرحية التي استلهم موضوعها المؤلف من صورة منشورة في إحدى المجلات عثر عليها صدفة فوق البيانو الخاص به عام 1985، وكانت الصورة عبارة عن لقطة لامرأة فيتنامية ترتسم على وجهها معالم الحزن والأسى العميق وهي واقفة في مطار (هوش منه) تودع طفلتها الصغيرة المسافرة إلى والدها الأمريكي الذي أنجبتها منه خلال فترة وجوده في فيتنام التي لن تراها بعد ذلك أبداً، وكانت اللقطة تتضمن صورة الطفلة التي تمد يديها إلى أمها في هلع وتبكي بعد أن انتزعت من الشخص الوحيد الذي تعرفه في العالم في طريقها إلى والد لم تره من قبل.. ساعتان من العرض تجعلانك تتخيل أنك في حلم من الأحلام التي ترفعك إلى عنان السماء باكياً من جمال موسيقى (كلود ميشيل) والمؤلف (ألن بوبيل) التونسي الأصل الذي لا يقل عنه المرحوم السوري (محمد الماغوط) قدره سوى أن (ألن بوبيل) يوقع اسمه باللغة الفرنسية ولا يتحدث العربية.