هذا المقال عن الحروب.. ولكنني سأبدأ بالحديث عن «الطرشي». معظمنا نعشق هذه الخضروات المخللة المملحة التي تبقى جميلة ولذيذة بمشيئة الله مهما طالت فترة تخزينها. وحتى بعد اختراع وسائل التبريد والتخزين الحديثة التي تحفظ الخضروات لمدة طويلة، لا يزال غرام الإنسان بالطرشي محتفظا بمكانة خاصة. وقد ساهمت هذه النعمة في تغير التاريخ حول العالم لأنها فتحت آفاقا جديدة للاستكشافات في البر والبحر. وتحديدا، فقد سمحت تقنية حفظ الأطعمة بحمل كميات مختلفة من الغذاء لفترات طويلة، ولمسافات بعيدة. وكانت ضمن الإمدادات التي سمحت بفتح البلدان، وتدمير بلدان أخرى، بل وتغير تاريخ العالم بأكمله. وجمال الطرشي لا يكمن في شكله الجميل فحسب، ولا يقتصر على رائحته ونكهته المميزة، ولا على فوائده الغذائية، بل هو أكثر من ذلك بكثير. لاحظ أنه يداعب أحاسيسنا من خلال روائعه الصوتية في «قرقشته»، وملمسه الجميل، وطعمه الرائع. وكل هذا جعله بإرادة الله من ضروريات الموائد من الشرق والغرب. ومن جميع أنواع الخضروات المخللة، لا شك أن الخيار هو إمبراطور «الطرشي» وبالذات بسبب الدور الذي لعبته الوجبات السريعة وخصوصا الهامبورجر في انتشار شعبيته حول العالم. كل يوم يلتهم العالم بلايين السندويتشات ومعظمها تحتوي على الخيار المخلل بأشكاله وأنواعه. وما علاقة كل هذا بالحرب؟ عندما انتشرت ظاهرة الغارات الجوية على المناطق الآهلة بالسكان، حرص البعض على السعي نحو تقليص الخسائر المدنية وتحسين دقة قاذفات القنابل وأداء الغارات الجوية. وإذا تأملت في هندسة إلقاء القنابل من ارتفاعات شاهقة بسرعات عالية، وبوجود تيارات هوائية على ارتفاعات مختلفة، فستجد أن الموضوع غاية في الصعوبة. الموضوع ببساطة أن مستوى الدقة يتطلب حسابات كثيرة ومعقدة للغاية. ومن أبرز الأسماء التي لمعت في إطار أجهزة توجيه القذائف الطائرة كان المهندس الهولندي «كارل نوردون» الذي هاجر من وطنه إلى الولايات المتحدة عام 1904 وقرر أن يقلب هذه الموازين باختراع آلة معقدة جدا للتصويب الجوي للقنابل. وكان اختراعه الذي قدمه بمطلع الحرب العالمية الثانية عام 1939 هو عبارة عن جهاز بحجم ووزن يعادل تقريبا حبحبه كبيرة من وادي الدواسر. وكان الجهاز مكلفا جدا، وسريا جدا، ومعقدا جدا. كان عبارة عن كومة من الصناديق المعدنية وبداخلها «هيصة» من العجلات والرمان بلي والأزارير. وكان سعره يعادل سعر حوالي عشرة في المئة من سعر قاذفة القنابل التي يثبت في مقدمتها. الشاهد أن المخترع «نوردون» كانت لديه مقولة شهيرة إن هذا الجهاز السري جدا جدا يضمن أن يوجه حبة «طرشي» لتسقط بداخل برميل من على ارتفاع 20 ألف قدم... لحظة واحدة لنتخيل هذا الادعاء: طول حبة الخيار المخلل يعادل تقريبا ارتفاع علبة الفيمتو... و20 ألف قدم تفوق ارتفاع جبل الهدا، وقطر البرميل يعادل قطر «التبسي» الكبير. وسرعة الطائرة التي ستصوب حبة الطرشي لن تقل عن 350 كيلومترا في الساعة... تصويب الخيارة المخللة يبدو وكأنه من المستحيلات. وفعلا أثبتت التجارب أن «الطرشي» في البرميل من على ارتفاع 20 ألف قدم كان ضربا من الخيال فظهرت الخيبة الكبرى في الميدان. كان التصويب أقل دقة من المأمول بكثير وكالعادة دفع الثمن آلاف المدنيين الأبرياء. وذكرى هذه المحاولات محفوظة في المقولة الشهيرة «الطرشي في البرميل» Pickle in a Barrel
أمنيــــــة
تمر السنين وتظهر التقنيات الجديدة من أجهزة التصويب بالليزر، وأجهزة التوجيه بالأقمار الصناعية، والقنابل الذكية، وغيرها.. وكلها رائعة على الورق، ولكن في الميدان نجد أن الضحايا الأبرياء لا يزالون يدفعون الثمن غاليا. أتمنى أن يتم إنهاء مأساة القسوة ضد المدنيين ومحاسبة من يمارسونها، ويبدعون في ابتكارات قتل الأبرياء. والله لهم بالمرصاد
وهو من وراء القصد.
أمنيــــــة
تمر السنين وتظهر التقنيات الجديدة من أجهزة التصويب بالليزر، وأجهزة التوجيه بالأقمار الصناعية، والقنابل الذكية، وغيرها.. وكلها رائعة على الورق، ولكن في الميدان نجد أن الضحايا الأبرياء لا يزالون يدفعون الثمن غاليا. أتمنى أن يتم إنهاء مأساة القسوة ضد المدنيين ومحاسبة من يمارسونها، ويبدعون في ابتكارات قتل الأبرياء. والله لهم بالمرصاد
وهو من وراء القصد.