من أبرز ما يمكن أن يتمخض عن دوامة العنف الدائرة في المنطقة هذه الأيام، احتمال قيام دولة كردية مستقلة في شمال العراق وشمال غرب سورية وشرق تركيا وفي الشمال الغربي لإيران. بيد أن ما فات الأكراد، من 100 عام، يبدو أنه بعيد المنال اليوم، ليظل حلمهم بقيام دولة مستقلة لهم، ليس بأقرب مما كان عليه الحال طوال قرن من الزمان.
لا أحد ينكر أن الأكراد، طوال عهد بقائهم ضمن دول مستقلة تشكلت بفعل قوى خارجية أكثر منها تعبيراً عن إرادة شعوبها الحرة، عانوا الكثير من التنكر لثقافتهم.. والتهميش لدورهم، وقبل كل ذلك لتطلعاتهم القومية المشروعة، سواء في تركيا أو سورية أو إيران أو العراق، مورس على الأكراد الذوبان القسري ضمن شعوب وثقافات لم يعطوا الفرصة خلالها للتعبير عن أمانيهم القومية، لدرجة أن تلك الدول، التي أُلحق الأكراد بكياناتها السياسية، كانت تفتقر لأدنى درجات مقومات العيش المشترك، الذي يعكس حق الشعوب في تقرير مصيرها.. ويشرعن سياسياً وأخلاقياً وقانونياً، لقيام تلك الدول.
لم يرض الكرد، أبداً، بواقع إلحاقهم بتلك الدول الناشئة حديثاً، وكانوا أبداً مصدراً لعدم استقرارها. في المقابل واجهت كل تلك الدول التي أُلحق الأكراد بها، المسألة الكردية بكل العنف والتربص، بدلاً من خيار الانصهار الطوعي ضمن منظومة تلك الدول الحديثة. حتى أنه لم يُسمح للأكراد، في بعض تلك الدول، بممارسة أي شكل من أشكال التعبير عن خصوصية ثقافتهم.. أو حتى التواصل بلغتهم، واحترام خصوصية هويتهم القومية، دعك من السماح لهم بأي شكل من أشكال الحكم المحلي. خلاف الكثير من الأقليات التي تمكنت بعض تلك الدول من استيعابها ضمن بوتقة الهوية الوطنية للدولة، كما فعل الأتراك بالأقلية العربية في إقليم الإسكندرون، كان الأكراد في كل تلك الدول الأربع أعصى من كل محاولات الاستيعاب والانصهار، وظلوا دائما عصيي الخضوع للسلطة المركزية، في عواصم تلك الدول.
هذا الترابط الجغرافي والسياسي بين الأكراد والدول التي ألحقوا بها قسراً ورغماً عن إرادتهم، يجعل من المسألة الكردية أعصى بأن تجد حلاً لها في قيام دولة كردية على حساب أقاليم هي جزء من دول قومية قائمة، مهما كان دور المتغير الخارجي، الذي سبق وتجاوز المسألة الكردية عندما تجاهل تطلعات الأكراد القومية قبل 100 عام. اليوم لا يمكن أبداً تصور اقتطاع أجزاء من دول قائمة، خاصةً إذا ما كانت هذه الدول تتمتع باستقرار داخلي وبسلطة مركزية قوية في العاصمة، وتكون بعيدة عن «سيناريوهات» التقسيم والتفكك الداخلي.
يمكن تصور استغلال الأكراد لضعف الدولة في سورية والعراق، والاقتراب أكثر من حلم إقامة دولتهم القومية. لكن من الصعب تصور امتداد الدولة الكردية لتشمل أقاليم لدول مستقرة وقوية، كما هو حال تركيا وإيران. ليس هذا، فحسب... فإنه: لا تركيا ولا إيران يمكن أن تسمحا بقيام دولة كردية على تخومهما، بما قد يقود إلى امتداد تطلعات الدولة الكردية الجديدة، إلى أقليم دولتيهما، التي تتواجد فيها أغلبية كردية. ممكن تصور، على سبيل المثال: أن تذعن بغداد لضم مدينة كركوك الغنية بالنفط لإقليم كردستان، ولا يمكن في المقابل أن تقبل تركيا بذلك، ليس بسبب وجود أقلية تركمانية في كركوك، بل الأخطر بالنسبة لأنقرة أن تنضم مدينة غنية بالنفط لإقليم كردستان، ما يعني قطع شريان النفط العراقي الذي يمر عبر الأراضي التركية.. وتوفير موارد مالية إضافية لكيان معادٍ لطالما أرقَ الأتراك.
وكما تقاوم أنقرة التطلعات الكردية على الجبهة العراقية لا يمكن لها أن تسمح بامتداد الخطر الكردي لحدودها الجنوبية مع سورية، وبالتالي تتضاعف مساحة المواجهة مع الأكراد لتشمل جبهتين، بعد أن كانت تاريخياً تشمل جبهة واحدة. لهذا السبب نجد الأتراك يتدخلون في سورية ويقاومون بضراوة امتداد النفوذ الكردي خارج مناطق الأغلبية الكردية في شمال شرق سورية، إلى مناطق لا يمثل فيها الأكراد أغلبية، وهي تاريخياً وجغرافياً تعتبر مناطق عربية.
ويبقى الغرب الذي تنكر للمسألة الكردية من 100 عام ليأتي ويلعب بورقتها اليوم! الولايات المتحدة تراهن كثيراً على الورقة الكردية، للضغط على تركيا، من ناحية، ولضمان حليف في المنطقة قد يتماهى مع مخطط وجود إسرائيل فيها، من أجل إحكام السيطرة على منابع النفط الغنية بها. كما أن الأوربيين لا يثقون في الأتراك، الأمريكيون -في المقابل- لا يثقون في العرب. علينا، أيضاً، ألا ننسى أطماع الروس التي تعيد إلى الأذهان اتفاقية سايكس بيكو الفرنسية ـ البريطانية، التي كان الروس طرفاً فيها، بوعدٍ لإطلالة لهم على شواطى شرق البحر المتوسط.
تظل المسألة الكردية أعصى من أن تتحول لواقع دولة، لأسباب لا تختلف كثيراً عما حال دون قيامها من 100 عام.
talalbannan@icloud.com
لا أحد ينكر أن الأكراد، طوال عهد بقائهم ضمن دول مستقلة تشكلت بفعل قوى خارجية أكثر منها تعبيراً عن إرادة شعوبها الحرة، عانوا الكثير من التنكر لثقافتهم.. والتهميش لدورهم، وقبل كل ذلك لتطلعاتهم القومية المشروعة، سواء في تركيا أو سورية أو إيران أو العراق، مورس على الأكراد الذوبان القسري ضمن شعوب وثقافات لم يعطوا الفرصة خلالها للتعبير عن أمانيهم القومية، لدرجة أن تلك الدول، التي أُلحق الأكراد بكياناتها السياسية، كانت تفتقر لأدنى درجات مقومات العيش المشترك، الذي يعكس حق الشعوب في تقرير مصيرها.. ويشرعن سياسياً وأخلاقياً وقانونياً، لقيام تلك الدول.
لم يرض الكرد، أبداً، بواقع إلحاقهم بتلك الدول الناشئة حديثاً، وكانوا أبداً مصدراً لعدم استقرارها. في المقابل واجهت كل تلك الدول التي أُلحق الأكراد بها، المسألة الكردية بكل العنف والتربص، بدلاً من خيار الانصهار الطوعي ضمن منظومة تلك الدول الحديثة. حتى أنه لم يُسمح للأكراد، في بعض تلك الدول، بممارسة أي شكل من أشكال التعبير عن خصوصية ثقافتهم.. أو حتى التواصل بلغتهم، واحترام خصوصية هويتهم القومية، دعك من السماح لهم بأي شكل من أشكال الحكم المحلي. خلاف الكثير من الأقليات التي تمكنت بعض تلك الدول من استيعابها ضمن بوتقة الهوية الوطنية للدولة، كما فعل الأتراك بالأقلية العربية في إقليم الإسكندرون، كان الأكراد في كل تلك الدول الأربع أعصى من كل محاولات الاستيعاب والانصهار، وظلوا دائما عصيي الخضوع للسلطة المركزية، في عواصم تلك الدول.
هذا الترابط الجغرافي والسياسي بين الأكراد والدول التي ألحقوا بها قسراً ورغماً عن إرادتهم، يجعل من المسألة الكردية أعصى بأن تجد حلاً لها في قيام دولة كردية على حساب أقاليم هي جزء من دول قومية قائمة، مهما كان دور المتغير الخارجي، الذي سبق وتجاوز المسألة الكردية عندما تجاهل تطلعات الأكراد القومية قبل 100 عام. اليوم لا يمكن أبداً تصور اقتطاع أجزاء من دول قائمة، خاصةً إذا ما كانت هذه الدول تتمتع باستقرار داخلي وبسلطة مركزية قوية في العاصمة، وتكون بعيدة عن «سيناريوهات» التقسيم والتفكك الداخلي.
يمكن تصور استغلال الأكراد لضعف الدولة في سورية والعراق، والاقتراب أكثر من حلم إقامة دولتهم القومية. لكن من الصعب تصور امتداد الدولة الكردية لتشمل أقاليم لدول مستقرة وقوية، كما هو حال تركيا وإيران. ليس هذا، فحسب... فإنه: لا تركيا ولا إيران يمكن أن تسمحا بقيام دولة كردية على تخومهما، بما قد يقود إلى امتداد تطلعات الدولة الكردية الجديدة، إلى أقليم دولتيهما، التي تتواجد فيها أغلبية كردية. ممكن تصور، على سبيل المثال: أن تذعن بغداد لضم مدينة كركوك الغنية بالنفط لإقليم كردستان، ولا يمكن في المقابل أن تقبل تركيا بذلك، ليس بسبب وجود أقلية تركمانية في كركوك، بل الأخطر بالنسبة لأنقرة أن تنضم مدينة غنية بالنفط لإقليم كردستان، ما يعني قطع شريان النفط العراقي الذي يمر عبر الأراضي التركية.. وتوفير موارد مالية إضافية لكيان معادٍ لطالما أرقَ الأتراك.
وكما تقاوم أنقرة التطلعات الكردية على الجبهة العراقية لا يمكن لها أن تسمح بامتداد الخطر الكردي لحدودها الجنوبية مع سورية، وبالتالي تتضاعف مساحة المواجهة مع الأكراد لتشمل جبهتين، بعد أن كانت تاريخياً تشمل جبهة واحدة. لهذا السبب نجد الأتراك يتدخلون في سورية ويقاومون بضراوة امتداد النفوذ الكردي خارج مناطق الأغلبية الكردية في شمال شرق سورية، إلى مناطق لا يمثل فيها الأكراد أغلبية، وهي تاريخياً وجغرافياً تعتبر مناطق عربية.
ويبقى الغرب الذي تنكر للمسألة الكردية من 100 عام ليأتي ويلعب بورقتها اليوم! الولايات المتحدة تراهن كثيراً على الورقة الكردية، للضغط على تركيا، من ناحية، ولضمان حليف في المنطقة قد يتماهى مع مخطط وجود إسرائيل فيها، من أجل إحكام السيطرة على منابع النفط الغنية بها. كما أن الأوربيين لا يثقون في الأتراك، الأمريكيون -في المقابل- لا يثقون في العرب. علينا، أيضاً، ألا ننسى أطماع الروس التي تعيد إلى الأذهان اتفاقية سايكس بيكو الفرنسية ـ البريطانية، التي كان الروس طرفاً فيها، بوعدٍ لإطلالة لهم على شواطى شرق البحر المتوسط.
تظل المسألة الكردية أعصى من أن تتحول لواقع دولة، لأسباب لا تختلف كثيراً عما حال دون قيامها من 100 عام.
talalbannan@icloud.com