alitawati@
فاجأنا وزير التعليم الدكتور أحمد العيسى بتوقيع عقد مع شركة تطوير لتقنيات التعليم للتحول نحو التعليم الرقمي لدعم تقدم الطالب والمعلم بحسب ما أعلن. والتعليم الرقمي مطلوب فعلا بل ضروري في البحث والاستزادة من المعرفة، ولا اعتراض لأحد عليه في عصر ثورة المعلومات الرقمية الذي نعيشه. ولكن أن يصل الإعجاب به حد «الاستغناء عن الكتاب المدرسي الورقي المطبوع» فهذه مسألة فيها نظر، ولم تعد محل جدل في الدول التي اخترعت الرقمية وكل ما يمت للرقمية بصلة.
فالكتاب الرقمي الذي يعتمد على مصدر للطاقة في اضمحلال منذ عدة سنوات. ولقد بدأت علامات هذا الاضمحلال تظهر في بيانات صناعة الكتب الرقمية الأمريكية بصفة عامة منذ 2015م، في الوقت الذي استمر فيه الطلب على الكتب المطبوعة على نفس الوتيرة.
ونحن بغنى عن سرد الأضرار الصحية والاجتماعية والاقتصادية التي تنجم عن الاعتماد كليا على الكتاب الرقمي في القراءة فهي معروفة، ولكن يمكن القول إن الدراسات على مستوى الكتاب المدرسي لا تبشر بخير ولا تشجع على إحلال الرقمي محل الورقي المطبوع.
فقد وجد الباحثون في جامعة ويست تشيستر البريطانية في دراسة أجروها على عينة من طلاب المدارس المتوسطة أن الطلاب الذين يقرأون على أجهزة «آي باد» كان لديهم فهم أقل للمادة الدراسية من فهمهم لنفس المادة بقراءتها من الكتب المطبوعة. كما وجد الباحثون أيضا أن الأطفال يتجاوزون أحيانا النص المطلوب تعلمه بالتشاغل بالميزات التفاعلية والإعلانات التي تحتويها الكتب الإلكترونية.
ونتائج مماثلة ظهرت من خلال دراسة أجريت على مجموعة تتألف من 32 طفلا في مركز جوان غانز كوني البريطاني بتكليف بعضهم بقراءة موضوع معين بالكتب الإلكترونية والبعض الآخر بالقراءة في الكتب المطبوعة. فقد وجد الباحثون أن الكتب الإلكترونية المطورة قد تكون مشتتة لانتباه الأطفال ليتذكروا في نهاية المطاف تفاصيل سردية أقل من أولئك الذين قرأوا في الكتب المطبوعة.
كما وجدت دراسة أخرى أجراها علماء من جامعة ستافنجر في النرويج بين البالغين، أن الكتب الإلكترونية صعبة الاستيعاب. فقد طلبوا من 25 شخصا قراءة قصة من 28 صفحة على القارئ الرقمي «كيندل» وطلب من 25 آخرين قراءة نفس القصة في كتاب مطبوع، ثم طلب من القراء ترتيب 14 حدثا من الأحداث التي وردت في القصة في سياقها الزمني الذي ورد في الكتاب، فكان أداء من قرأوا القصة في «كيندل» أسوأ بكثير ممن قرؤوها في الكتاب المطبوع. ولقد تعزز هذا البحث ببحث سابق أجراه نفس العلماء من أن طلاب «الصف العاشر» النرويجيين يتذكرون أيضا المزيد من النصوص إذا ما قرؤوها في الكتب المطبوعة وليس على شاشة الكمبيوتر.
أما على المستوى الجامعي، فبالرغم من رخص الكتاب الإلكتروني وسهولة حمله، إلا أن عددا من الدراسات الاستقصائية بين طلاب الجامعات تفيد بأن غالبيتهم لا يفضلونه ككتاب دراسي.
وبصرف النظر عن كل الدراسات التي قد تكون متناقضة في بعض الأحيان، أو تختلف في زاوية الرؤية في أحيان أخرى ما يزيد من احتمالات استمرار اللغط وتعزيز المواقف بالحجة والحجة المضادة لصالح هذا المدخل أو ذاك، إلا أننا لا بد أن نتفق على مجموعة من المسلمات من أهمها: 1/ ألا نربط الكتاب المدرسي الأساسي على أي مستوى بأي تقنيات حديثة متبدلة ومتغيرة ومرتبطة بتوافر مصدر للطاقة أو متطلبات فنية معقدة أو أجهزة وبرامج قابلة للضياع أو للأعطال، 2/ أن نحاول تقديم الكتاب المدرسي في أبسط صيغة عرفها الإنسان، وهي الصيغة الورقية المطبوعة التي لا تتأثر بأي تعقيدات من أي نوع سواء كانت اقتصادية أو اجتماعية أو صحية، 3/ أن نقتنع جميعا بأن اللجوء للكتاب المدرسي الإلكتروني غير مجد من الناحية الاقتصادية كونه يمكن أن يكون عرضة للاستغلال والاحتكار ناهيك عن كونه مكلفا للغاية، وأن ما يتم توفيره من الطباعة سينفق على مصادر الطاقة ومزودات الخدمة وأجهزة القراءة وتطوير البرامج والدعم الفني، 4/ أن الكتاب المدرسي الإلكتروني أكثر عرضة للدس والتزوير والتلاعب بالنصوص بمسحها أو استبدالها وبثها مجانا عبر شبكات التواصل الاجتماعي من مصادر وجهات أجنبية مغرضة ما سيلقي بظلال كئيبة على العملية التعليمية برمتها ويدخلنا في متاهات لا نهاية لها.
ويبقى أن نعرف بأن بعض النصوص لا يمكن تخيل الاستغناء فيها عن الكتاب المطبوع والورقة والقلم لأسباب متعددة، ومنها «القرآن الكريم» وعلومه، وقراءة الخرائط وغيرها من العلوم.
ولذلك، آمل أن يعيد وزير التعليم النظر في تصريحه ويتجاوز القاعدة الاستشارية الضيقة في وزارته للقاعدة البحثية والمعلوماتية الهائلة من مراكز بحوث ودراسات وقدرات علمية استثنائية متوفرة بين يديه وطوع بنانه في الجامعات والكليات والمدارس الحكومية والأهلية، التي تديرها وتشرف عليها وزارته، في إعادة دراسة المسألة بمختلف جوانبها من جديد..
* أستاذ الاقتصاد والتمويل المساعد في جامعة الأعمال والتكنولوجيا بجدة
altawati@gmail.com
فاجأنا وزير التعليم الدكتور أحمد العيسى بتوقيع عقد مع شركة تطوير لتقنيات التعليم للتحول نحو التعليم الرقمي لدعم تقدم الطالب والمعلم بحسب ما أعلن. والتعليم الرقمي مطلوب فعلا بل ضروري في البحث والاستزادة من المعرفة، ولا اعتراض لأحد عليه في عصر ثورة المعلومات الرقمية الذي نعيشه. ولكن أن يصل الإعجاب به حد «الاستغناء عن الكتاب المدرسي الورقي المطبوع» فهذه مسألة فيها نظر، ولم تعد محل جدل في الدول التي اخترعت الرقمية وكل ما يمت للرقمية بصلة.
فالكتاب الرقمي الذي يعتمد على مصدر للطاقة في اضمحلال منذ عدة سنوات. ولقد بدأت علامات هذا الاضمحلال تظهر في بيانات صناعة الكتب الرقمية الأمريكية بصفة عامة منذ 2015م، في الوقت الذي استمر فيه الطلب على الكتب المطبوعة على نفس الوتيرة.
ونحن بغنى عن سرد الأضرار الصحية والاجتماعية والاقتصادية التي تنجم عن الاعتماد كليا على الكتاب الرقمي في القراءة فهي معروفة، ولكن يمكن القول إن الدراسات على مستوى الكتاب المدرسي لا تبشر بخير ولا تشجع على إحلال الرقمي محل الورقي المطبوع.
فقد وجد الباحثون في جامعة ويست تشيستر البريطانية في دراسة أجروها على عينة من طلاب المدارس المتوسطة أن الطلاب الذين يقرأون على أجهزة «آي باد» كان لديهم فهم أقل للمادة الدراسية من فهمهم لنفس المادة بقراءتها من الكتب المطبوعة. كما وجد الباحثون أيضا أن الأطفال يتجاوزون أحيانا النص المطلوب تعلمه بالتشاغل بالميزات التفاعلية والإعلانات التي تحتويها الكتب الإلكترونية.
ونتائج مماثلة ظهرت من خلال دراسة أجريت على مجموعة تتألف من 32 طفلا في مركز جوان غانز كوني البريطاني بتكليف بعضهم بقراءة موضوع معين بالكتب الإلكترونية والبعض الآخر بالقراءة في الكتب المطبوعة. فقد وجد الباحثون أن الكتب الإلكترونية المطورة قد تكون مشتتة لانتباه الأطفال ليتذكروا في نهاية المطاف تفاصيل سردية أقل من أولئك الذين قرأوا في الكتب المطبوعة.
كما وجدت دراسة أخرى أجراها علماء من جامعة ستافنجر في النرويج بين البالغين، أن الكتب الإلكترونية صعبة الاستيعاب. فقد طلبوا من 25 شخصا قراءة قصة من 28 صفحة على القارئ الرقمي «كيندل» وطلب من 25 آخرين قراءة نفس القصة في كتاب مطبوع، ثم طلب من القراء ترتيب 14 حدثا من الأحداث التي وردت في القصة في سياقها الزمني الذي ورد في الكتاب، فكان أداء من قرأوا القصة في «كيندل» أسوأ بكثير ممن قرؤوها في الكتاب المطبوع. ولقد تعزز هذا البحث ببحث سابق أجراه نفس العلماء من أن طلاب «الصف العاشر» النرويجيين يتذكرون أيضا المزيد من النصوص إذا ما قرؤوها في الكتب المطبوعة وليس على شاشة الكمبيوتر.
أما على المستوى الجامعي، فبالرغم من رخص الكتاب الإلكتروني وسهولة حمله، إلا أن عددا من الدراسات الاستقصائية بين طلاب الجامعات تفيد بأن غالبيتهم لا يفضلونه ككتاب دراسي.
وبصرف النظر عن كل الدراسات التي قد تكون متناقضة في بعض الأحيان، أو تختلف في زاوية الرؤية في أحيان أخرى ما يزيد من احتمالات استمرار اللغط وتعزيز المواقف بالحجة والحجة المضادة لصالح هذا المدخل أو ذاك، إلا أننا لا بد أن نتفق على مجموعة من المسلمات من أهمها: 1/ ألا نربط الكتاب المدرسي الأساسي على أي مستوى بأي تقنيات حديثة متبدلة ومتغيرة ومرتبطة بتوافر مصدر للطاقة أو متطلبات فنية معقدة أو أجهزة وبرامج قابلة للضياع أو للأعطال، 2/ أن نحاول تقديم الكتاب المدرسي في أبسط صيغة عرفها الإنسان، وهي الصيغة الورقية المطبوعة التي لا تتأثر بأي تعقيدات من أي نوع سواء كانت اقتصادية أو اجتماعية أو صحية، 3/ أن نقتنع جميعا بأن اللجوء للكتاب المدرسي الإلكتروني غير مجد من الناحية الاقتصادية كونه يمكن أن يكون عرضة للاستغلال والاحتكار ناهيك عن كونه مكلفا للغاية، وأن ما يتم توفيره من الطباعة سينفق على مصادر الطاقة ومزودات الخدمة وأجهزة القراءة وتطوير البرامج والدعم الفني، 4/ أن الكتاب المدرسي الإلكتروني أكثر عرضة للدس والتزوير والتلاعب بالنصوص بمسحها أو استبدالها وبثها مجانا عبر شبكات التواصل الاجتماعي من مصادر وجهات أجنبية مغرضة ما سيلقي بظلال كئيبة على العملية التعليمية برمتها ويدخلنا في متاهات لا نهاية لها.
ويبقى أن نعرف بأن بعض النصوص لا يمكن تخيل الاستغناء فيها عن الكتاب المطبوع والورقة والقلم لأسباب متعددة، ومنها «القرآن الكريم» وعلومه، وقراءة الخرائط وغيرها من العلوم.
ولذلك، آمل أن يعيد وزير التعليم النظر في تصريحه ويتجاوز القاعدة الاستشارية الضيقة في وزارته للقاعدة البحثية والمعلوماتية الهائلة من مراكز بحوث ودراسات وقدرات علمية استثنائية متوفرة بين يديه وطوع بنانه في الجامعات والكليات والمدارس الحكومية والأهلية، التي تديرها وتشرف عليها وزارته، في إعادة دراسة المسألة بمختلف جوانبها من جديد..
* أستاذ الاقتصاد والتمويل المساعد في جامعة الأعمال والتكنولوجيا بجدة
altawati@gmail.com