لم أتمالك نفسي من الابتسام وأنا أقرأ ردود الفعل الغاضبة والحزينة على مكانة حرية الصحافة وموقعها المتدني في الترتيب العالمي، وذلك بحسب أحد التقارير الدورية لإحدى المنظمات العالمية. كان بالقرب مني أحد الأصدقاء القدامى وهو من المهتمين بالشأن الإعلامي العربي وقال: «معقول وصل بنا الحال إلى هذا المستوى؟» فأدرت وجهي إليه وقلت له: الظاهر أنك «تعارض المسألة جدا»؟ قال لي ما قصدك؟ قلت له نحن ليس لدينا في العالم العربي إعلام حر ومستقل بمعناه الموجود في الغرب، وعليه فإن المقارنة معهم دوما ستكون ظالمة. الصحافة في الغرب يطلق عليها مسمى «السلطة الرابعة»، وهي عبارة فيها احترام وتقدير للدور الإعلامي المهم الذي تلعبه الصحافة كأداة مكملة للسلطات الثلاث الأساسية للحكم (السلطة التنفيذية، والسلطة التشريعية، والسلطة القضائية)، فهي بالتالي عين المجتمع وضميره والرقيب على أداء السلطات الثلاث الأخرى. هذه هي الصحافة ودورها في المجتمعات المدنية، وهذه المسألة ليست موجودة في العالم العربي. فالصحف في معظمها تم تأميمها أو تفتيت ملكيتها، ولا يوجد أيضا في الغرب عبارات مثل «الخطوط الحمراء»، و«النقد الهادف والبناء»، و«تجاوز الحدود المسموح بها»، وهي عبارات لا غرض منها سوى إخفاء حرية الرأي وتقليص سقف المسموح بمقولة أحد الزعماء العرب عن مقالة كتبت فما كان منه إلا أن علق قائلا «خليهم يتسلوا»، وآخر في مداخلة تلفزيونية قال فيها «أليس بكافٍ أننا سمحنا لكم بالنقد والحديث في هذه الأمور؟». في الصحافة العربية تتم كتابة مقالة الرأي التي من المفروض أن تنشر في صفحة الرأي ولكنها في مرات كثيرة لا تنشر، وإذا نشرت تمر بمراحل غربلة وفلترة أشبه بورقة درس تعبير على أيدي معلم في الصف الرابع الابتدائي، فيتم حذف جمل وإزالة عبارات وتغيير كلمات حتى يتحول المقال المرسل إلى مسخ مشوه من الأصل الذي تم إرساله، ويصبح مقال رأي لأحد آخر، وبالتالي يكون السؤال هنا عمن تعبر صفحة الرأي في الصحافة العربية؟ هل هي صفحة لكتّاب الرأي؟ أم للناشر؟ أم لرئيس التحرير؟ أم لوزارة الإعلام؟ أم للرقيب؟ أسئلة قد تبدو ساخرة في شكلها ولكنها حقيقية. هذه النظرة للرأي وللكتابة فيه والحساسية المفرطة والمبالغ فيها أوجدت جمودا وقوالب في النمط الإعلامي في العالم العربي، وجعلت بالتالي المادة المقدمة هشة وضعيفة وخارج السياق التاريخي والمعاصر إذا ما تمت مقارنتها مع دول أخرى حول العالم، وليس الحديث هنا عن الدول الصناعية الكبرى في الغرب، ولكنه يطال تجارب لافتة لحرية الرأي «الجديدة» في دول شرق أوروبا، وكمبوديا، والهند، وكينيا، على سبيل المثال لا الحصر. هذا المناخ ستكون نتيجته الطبيعية جدا أن تتذيل الصحافة العربية الترتيب العالمي. المسألة بحاجة لوقفة جادة لمعالجة وضع الإعلام في العالم العربي ليعكس الحال المجتمعي بحق بدلا من الدفاع المستميت عن واقع متردٍ، وإنكار العلل والعيوب فيه، باعتبار كل ذلك ما هو إلا جزء من مؤامرة تحاك ضد العالم العربي. تحسين واقع الإعلام العربي مسألة لا تقل أهمية عن إصلاح البنى التحتية والتعليم والصحة، لأنه بالسماح بالحديث عن مشاكلنا بأنفسنا سنسد الطريق عن حديث الآخرين علينا، وهذا أقل المكاسب.