ولد الجندي ديسموند دوس في ٧ فبراير ١٩١٩ وتوفي في ٢٣ مارس ٢٠٠٦، وكان أول منخرط في الجيش الأمريكي يحصل على وسام الشرف في بلاده من الرئيس هاري ترومان في ١٢ أكتوبر ١٩٤٥، رغم رفضه حمل السلاح ضد «العدو» الياباني في الحرب العالمية الثانية، وقدم درسا في الشجاعة بإنقاذه أكثر من ٧٠ من زملائه في الفرقة، فجعل رفاقه الذين سخروا من موقفه يعيدون له الاعتبار بعد نهاية الحرب نظير ما قدمه من خدمات إنسانية لهم.
في المنطقة العربية تشهد عدد من البلدان حروبا أهلية أحدثت انقسامات اجتماعية ومناطقية أفرزت مؤيدين ومعارضين من غير المشاركين فيها، فنجد فريقا يدافعون عنها ويسندون ذلك بمبررات يحسبونها مقنعة ومنطقية ويطالبون باستمرارها حتى تحقق الأهداف المعلنة ويرون في التراجع أو حتى التوقف المؤقت ما يشبه الخيانة.. في الطرف المقابل يقول المطالبون بوقف الحرب إنها تشكل بداية يتمكن معها الناس من البحث عن وسائل تهيئ لهم البدء في البحث عن قوت يوم يسد رمقهم وما يداوي جراحهم ويستندون في ذلك إلى المبررات الأخلاقية والإنسانية التي تمنعهم من قبول الحرب كمبدأ لحل الأزمات.
يصبح البحث في أسباب الحروب ومبرراتها مكررا وعديم القيمة عند المواطنين البسطاء الذين لا تهمهم ولا تعنيهم انشغالات النخب وجدالاتهم عن «الظروف» و«التعقيدات» و«الانعكاسات»، فتلك مفردات لا تنفع أيتاما وأرامل فقدوا عائلهم، ولا تعيد حياة أطفال قتلتهم الألغام والقصف العشوائي، ولا تشفي مريضا أصابته الأمراض ولم يجد الدواء، ولا تبني مدرسة دمرتها القذائف، ولكن هذا المنطق الأخلاقي لا يتناسب مع رغبة من يؤيدون استمرار الحروب، إذ يرون أن إيقافها قبل خضوع «العدو» سيتيح له فرصة لالتقاط أنفاسه وهو منطق لا تنقصه الحجة لو كانوا يعانون مع الناس ويلات الحرب فيصبحون أبطالا شجعانا ويدخلون إلى ساحات القتال، لكن من غير الأخلاقي أن يكون مطلقو صيحات الحرب ممن يعيشون بعيدا عن أرض المعركة ولهيبها الذي يأكل حاضر أوطانهم ويجعل مستقبلها تربة أحقاد وكراهية ورغبة في الثأر.
يتفق الكثيرون أن الصراعات الأهلية هي نتاج سياسات داخلية تشعر فيها أطراف محلية بتهميشها أو تعرضها للخطر أو انسداد الأفق أمامها، ولكن الخطير في الأمر هو تحولها إلى صراع مسلح تكون الغلبة فيه إلى الأكثر اندماجا فكريا وتنظيما وانضباطا حتى لو كان الأقل تسليحا وعددا، وفي حالات كثيرة تتمكن الأقليات من تسيد الموقف لشعورها الكامن بالقلق والخوف من القادم، ما يجعلها أكثر تماسكا وأشد عزيمة، وتتحول من فئة تشعر بالظلم والخوف إلى فئة تستبعد الجميع من المشاركة وترهب معارضيها وتفرض قيودا على مخالفيها ويشتد قمعها للآخرين كلما دبت فيها عوامل الضعف والوهن.
إن التوصل إلى حل مستدام لمثل هذه الحالات من المعضلات المحلية تزداد تعقيداته كلما ازداد ضعف أي طرف وشعوره بأن الحرب لم تصل به إلى مبتغاه، فيصبح الأمر في النهاية قضية حياة أو موت، وفي نفس الوقت فإن قدرة أي طرف فيها على تحقيق انتصار حاسم غير محتملة مهما ارتفعت أصوات المدافع، ويظل السؤال: متى وكيف تقف الحروب الأهلية.
تتشكل في كل حرب أهلية فئات من المستفيدين باستمرارها وبهذا تكون نهايتها غير مجدية لهم، كما أن شعور أي فريق بأنه سيدفع الثمن السياسي والخوف على مستقبلهم الشخصي في حال التسويات الكبرى يعقد المسألة ويدفعهم إلى التمسك بمواقفهم حتى وإن كانت على حساب المواطنين الذين يصبحون آخر هموم قادة المتقاتلين، وهناك بعد أكثر عمقا في مخرجات الحروب الأهلية، إذ تنشأ بعيدا عن الأعين نتوءات وجماعات لا تتقيد بقواعد اللعبة الجارية فتصبح خارج السيطرة ولا تلتزم بأي اتفاقات قد تعقدها الجماعات التي بدأت بها الحرب، وفي هذه الحالة تصبح الأقلية المنضبطة أكثر تمكنا من ضبط محيطها وإدارته، بينما تصير المناطق البعيدة عنها في حالة من الشتات والتمزق الاجتماعي.
إطالة أمد الحروب يرفع معدلات الإحباط واليأس عند الذين يكتوون بنارها، بينما دعاة الحرب هاربون من سعيرها، ودعاة السلام متهمون بالانهزام وأنهم عديمو الحيلة، وإنهاء أي حرب أهلية يحتاج إلى رجال يؤمنون بأن مبدأ الحياة للإنسان هو أغلى وأثمن من كل دعاوى القتل والدمار، وبلدان ليس فيها هذه النوعية يتواصل فيها النزيف حتى تقع أطرافها خائرة قواها وحينها سيجد المنتصر الافتراضي أنه أمام كارثة لا يستطيع مواجهتها ولا تحمل أثمانها.
ديسموند دوس لم يكن معارضا لبلاده، لكنه عبر عن حبه بإنقاذ أرواح زملائه وليس بقتل خصومها، ونيلسون مانديلا خرج من سجن دام ما يزيد على ربع قرن ولم يسع للانتقام من سجانيه بل حمل روح المصالحة الوطنية، ويتذكر اليمنيون النعمان الذي سجنه الإمام سبع سنوات وأعدم عمه الشهيد عبدالوهاب نعمان وسجنه عبدالناصر في ١٩٦٦، لكنه لم يتنازل عن فكرة السلام بين اليمنيين وأنها ستحقق لهم مستقبلا آمنا لا مساحة فيه للثأرات والانتقام والإقصاء، فسحب «الثوار» جنسيته عقابا له.
* كاتب يمني وسفير سابق
mustapha.noman@gmail.com
في المنطقة العربية تشهد عدد من البلدان حروبا أهلية أحدثت انقسامات اجتماعية ومناطقية أفرزت مؤيدين ومعارضين من غير المشاركين فيها، فنجد فريقا يدافعون عنها ويسندون ذلك بمبررات يحسبونها مقنعة ومنطقية ويطالبون باستمرارها حتى تحقق الأهداف المعلنة ويرون في التراجع أو حتى التوقف المؤقت ما يشبه الخيانة.. في الطرف المقابل يقول المطالبون بوقف الحرب إنها تشكل بداية يتمكن معها الناس من البحث عن وسائل تهيئ لهم البدء في البحث عن قوت يوم يسد رمقهم وما يداوي جراحهم ويستندون في ذلك إلى المبررات الأخلاقية والإنسانية التي تمنعهم من قبول الحرب كمبدأ لحل الأزمات.
يصبح البحث في أسباب الحروب ومبرراتها مكررا وعديم القيمة عند المواطنين البسطاء الذين لا تهمهم ولا تعنيهم انشغالات النخب وجدالاتهم عن «الظروف» و«التعقيدات» و«الانعكاسات»، فتلك مفردات لا تنفع أيتاما وأرامل فقدوا عائلهم، ولا تعيد حياة أطفال قتلتهم الألغام والقصف العشوائي، ولا تشفي مريضا أصابته الأمراض ولم يجد الدواء، ولا تبني مدرسة دمرتها القذائف، ولكن هذا المنطق الأخلاقي لا يتناسب مع رغبة من يؤيدون استمرار الحروب، إذ يرون أن إيقافها قبل خضوع «العدو» سيتيح له فرصة لالتقاط أنفاسه وهو منطق لا تنقصه الحجة لو كانوا يعانون مع الناس ويلات الحرب فيصبحون أبطالا شجعانا ويدخلون إلى ساحات القتال، لكن من غير الأخلاقي أن يكون مطلقو صيحات الحرب ممن يعيشون بعيدا عن أرض المعركة ولهيبها الذي يأكل حاضر أوطانهم ويجعل مستقبلها تربة أحقاد وكراهية ورغبة في الثأر.
يتفق الكثيرون أن الصراعات الأهلية هي نتاج سياسات داخلية تشعر فيها أطراف محلية بتهميشها أو تعرضها للخطر أو انسداد الأفق أمامها، ولكن الخطير في الأمر هو تحولها إلى صراع مسلح تكون الغلبة فيه إلى الأكثر اندماجا فكريا وتنظيما وانضباطا حتى لو كان الأقل تسليحا وعددا، وفي حالات كثيرة تتمكن الأقليات من تسيد الموقف لشعورها الكامن بالقلق والخوف من القادم، ما يجعلها أكثر تماسكا وأشد عزيمة، وتتحول من فئة تشعر بالظلم والخوف إلى فئة تستبعد الجميع من المشاركة وترهب معارضيها وتفرض قيودا على مخالفيها ويشتد قمعها للآخرين كلما دبت فيها عوامل الضعف والوهن.
إن التوصل إلى حل مستدام لمثل هذه الحالات من المعضلات المحلية تزداد تعقيداته كلما ازداد ضعف أي طرف وشعوره بأن الحرب لم تصل به إلى مبتغاه، فيصبح الأمر في النهاية قضية حياة أو موت، وفي نفس الوقت فإن قدرة أي طرف فيها على تحقيق انتصار حاسم غير محتملة مهما ارتفعت أصوات المدافع، ويظل السؤال: متى وكيف تقف الحروب الأهلية.
تتشكل في كل حرب أهلية فئات من المستفيدين باستمرارها وبهذا تكون نهايتها غير مجدية لهم، كما أن شعور أي فريق بأنه سيدفع الثمن السياسي والخوف على مستقبلهم الشخصي في حال التسويات الكبرى يعقد المسألة ويدفعهم إلى التمسك بمواقفهم حتى وإن كانت على حساب المواطنين الذين يصبحون آخر هموم قادة المتقاتلين، وهناك بعد أكثر عمقا في مخرجات الحروب الأهلية، إذ تنشأ بعيدا عن الأعين نتوءات وجماعات لا تتقيد بقواعد اللعبة الجارية فتصبح خارج السيطرة ولا تلتزم بأي اتفاقات قد تعقدها الجماعات التي بدأت بها الحرب، وفي هذه الحالة تصبح الأقلية المنضبطة أكثر تمكنا من ضبط محيطها وإدارته، بينما تصير المناطق البعيدة عنها في حالة من الشتات والتمزق الاجتماعي.
إطالة أمد الحروب يرفع معدلات الإحباط واليأس عند الذين يكتوون بنارها، بينما دعاة الحرب هاربون من سعيرها، ودعاة السلام متهمون بالانهزام وأنهم عديمو الحيلة، وإنهاء أي حرب أهلية يحتاج إلى رجال يؤمنون بأن مبدأ الحياة للإنسان هو أغلى وأثمن من كل دعاوى القتل والدمار، وبلدان ليس فيها هذه النوعية يتواصل فيها النزيف حتى تقع أطرافها خائرة قواها وحينها سيجد المنتصر الافتراضي أنه أمام كارثة لا يستطيع مواجهتها ولا تحمل أثمانها.
ديسموند دوس لم يكن معارضا لبلاده، لكنه عبر عن حبه بإنقاذ أرواح زملائه وليس بقتل خصومها، ونيلسون مانديلا خرج من سجن دام ما يزيد على ربع قرن ولم يسع للانتقام من سجانيه بل حمل روح المصالحة الوطنية، ويتذكر اليمنيون النعمان الذي سجنه الإمام سبع سنوات وأعدم عمه الشهيد عبدالوهاب نعمان وسجنه عبدالناصر في ١٩٦٦، لكنه لم يتنازل عن فكرة السلام بين اليمنيين وأنها ستحقق لهم مستقبلا آمنا لا مساحة فيه للثأرات والانتقام والإقصاء، فسحب «الثوار» جنسيته عقابا له.
* كاتب يمني وسفير سابق
mustapha.noman@gmail.com