تدور الأيام في فلكها بدون توان، وأنا هنا في نيويورك.. حنين ساكن في الأعماق لهذه المدينة أحاول أن أشبعه تلامس شعيراته مسام الجسد وخلايا اللاوعي، وأنت لا تستطيع أن تستبصر كل أعراضه والمنحنيات التي يرتادها خلسة قبل أن تتقد الأحشاء ويعتلج الشوق، وتبدأ سيرورة التبدل وكأنك تشاهد طفرة إحيائية تحول جلدك وذاكرتك وجيناتك.. تستشعر كأنما ينتابك نسول كما الطير يستبدل عظامك بريش يسعفك على التحليق بعيداً خارج حدود المكان والزمان المقيدة.. هل الحنين ارتداد ؟ أم هو معانقة لما استصفته الذاكرة وقطرة الوجدان ليكون الأبقى في رحلة الحياة نحو مُلاقاة العدم.. كانت تلك الخواطر تتشابك في ذهني وأنا مستلقى على السرير في الدور العشرين أُطل على «السنترل بارك»، أتململ يميناً ويساراً أفكر في ما أنا فاعل اليوم ؟ مددت يدي لأضغط على جهاز التحكم التلفزيوني.. توقفت أصابعي عن الضغط وأنا أتنقل بين محطات التلفزيون، كان ما يعرض عادياً ومكرراً ولا جديد.. توقفت أمام محطة تعرض حلقة من حلقات التقاضي، والتي تبث مباشرة بعد موافقة الأطراف على ذلك.. كانت زوجة أمريكية تشكو زوجاً يبدو من اسمه وشكله ليس أمريكي الأصل، إنه يفتح خطاباتها التي تصل إليها عن طريق البريد ويقرأها.. وقالت إن هذه الخطابات سر من أسرارها الخاصة، ولهذا السبب فإن الحياة بينهما أصبحت مستحيلة، وطلبت الحكم لها بالطلاق، وبعد أن استمع القاضي لأقوال الزوجين أصدر حكمه بالطلاق، معللاً ذلك بأن الزوجين يختلفان في نقطة جوهرية، فالزوج يرى من جانبه أن من حقه الاطلاع على خطابات الزوجة، وأن واجبها في حفظ عهده والوفاء له ينطوي تحته السماح له بمراقبة خطاباتها، ولكن الزوجة ترى أن واجب الزوج احترام شعورها، وأن إصراره على مراقبة ما يصل إليها معناه أنه يرتاب ويشك في سلوكها، وانعدام الثقة على هذا الوجه يجعل الحياة بينهما مستحيلة، وقد ناقشت المحكمة الزوج في نظريته، فقال إن زوجته جميلة للغاية، ولها معجبون كثيرون، وهو مع اعترافه بأنه لم يعثر حتى الآن في الخطابات العديدة التي وصلتها أو التي كتبتها على ما يمكن أن يكون موضع شك بالنسبة لسلوكها، إلا أنه لا يستطيع مطلقاً أن يسلم بحقها التام في كتابة ما تحب من خطابات، ولا يقبل منعه من الاطلاع على مضمون ما تحتويه، سواء ما يصلها أو ما تكتبه ! وقال إنه قرأ في خطاب أخيراً «عزيزتي الجميلة المجهولة لا أدري كيف أخاطبك.. إنها جرأة مني.. أن أتبعك وأعرف عنوانك وأنك متزوجة، ولكن ماذا أصنع، إن جمالك فوق الوصف، وفوق الاحتمال، لقد رأيتك قبل شهر كامل وسرت وراءك أراقبك، والتفتِ مرة إلي وابتسمت ولم تحدثيني.. إنني لا أعرف بماذا أفسر هذه الابتسامة.. هل هي عطف أم سخرية أم إعجاب متبادل.. أريد أن أدعوك على فنجان قهوة فهل تقبلين ؟ أكتبي لي على هذا العنوان......»، وتساءل الزوج.. هل أستطيع أن أقرأ كل هذا ولا أخاف على زوجتي من الغواية؟ فطلبت منها أن تردع هؤلاء عن إغرائها، ولكنها سخرت مني وقالت ضاحكة ماذا يهمك ما دمت مخلصة لك ! وقالت الزوجة في دفاعها يكفي أن زوجي اعترف أنني لم أفعل ما يشين سمعته، واعترفت أن الكثيرين من المعجبين بها يرسلون لها خطابات تفيض محبة وغراماً، وقالت إنها تجد لذة في قراءتها، لأنها تشعر بما لجمالها من سحر في النفوس، ولكنها لم تفكر قط في خيانة زوجها ! وسألها القاضي إذن لماذا تمانعين في أن يقرأ زوجك هذه الخطابات؟ قالت أنا لا أمانع ولكن بشرط أن أسمح له بذلك، أما أن يغافلني ويفتح البريد الخاص بي بدافع الشك فهذا ما لا أقبله.. قال لها القاضي ولكنه يغار عليك.. أجابته ولكني شريفة وأكره هذه الغيرة! هل ترين أن الحياة بينكما أصبحت مستحيلة ؟ أرى ذلك ما لم يعتذر لي عما بدر منه.. ويتعهد بعدم العودة إلى ذلك مرة أخرى ! ورفض الزوج الاعتذار.. وقضت المحكمة بالطلاق ! هذا ما حدث في نيويورك.. فما رأي الأزواج والزوجات هنا ؟!