فاجأتنا الرابطة المارونية في لبنان ببيان أسود، أشادت فيه بخطاب حسن نصرالله أمين عام الميليشيا المسماة «حزب الله»، وحيت «شهداء» ميليشياه، وأضافت: «العملية العسكرية الجارية في جرود عرسال تشكل الخطوة الأبرز في حماية الحدود الشرقية للبنان ومنع الإرهاب من مواصلة التسلل إلى الأراضي اللبنانية، حيث ارتكبت في السنوات الماضية جرائم بشعة بحق المدنيين في أكثر من منطقة، بالإضافة إلى الجرائم التي ارتكبت بحق الجيش اللبناني».
صدر البيان بتاريخ ٢٨ يوليو ٢٠١٧، وأعد هذا التاريخ مأتما لثلاث فرق؛ أولهم منظرو القومية اللبنانية والمارونية السياسية على غرار يوسف السودا وشارل مالك وفؤاد افرام البستاني، وثانيهم المنظرون المسيحيون للقومية العربية مثل نجيب عازوري وجورج أنطونيوس، وثالثهم أرباب التناغم اللبناني - العربي كالبطريرك مار نصرالله بطرس صفير والنائب الراحل سمير فرنجية، فبعض جمهورهم لم يصمد في لبنانيته أو عروبته، إنما تأيرن، ومنهم من ابتدع طائفة مستحدثة أو مذهبا جديدا داخل المسيحية، فما نعرفه عن الطوائف المسيحية الرئيسة أنها البروتستانتية والأرثوذكسية والكاثوليكية، والمارونية من تفرعات الأخيرة، لكننا لم نسمع يوما عن مسيحية جعفرية أو مارونية اثنتي عشرية.
والحديث عن الرابطة وصفير يشدنا للحديث عن موقف بكركي، البطريركية المارونية التي تعد الرابطة من مشتقاتها، صفير هو بطريرك لبنان الدائم قبل أن يكون بطريرك الموارنة السابق، لم يتحدث عن الحزب الإلهي أبدا إلا بنص «ما يسمى بحزب الله»، وفي ليلة الانتخابات النيابية عام ٢٠٠٩ صرح محذرا من مشروع إيراني يهدد كيان لبنان وعروبته، ودعا الناخبين إلى اتخاذ المواقف الجريئة التي تحفظ الهوية اللبنانية، ليبقى لبنان وطن الحرية والسيادة والاستقلال.
سيد الصرح الماروني اليوم، البطريرك بشارة الراعي، له مواقف متموجة، فباغتنا في بدء ولايته بزيارتين متناقضتين، الأولى لسوريا الأسد والثانية لفلسطين المحتلة، وقد واجه معارضي الزيارتين بصلابة نادرة، ثم شاهدناه في فرنسا يعلن تأييدا مبطنا لبشار الأسد، ومؤخرا صرح في مقابلة تلفزيونية قاصدا حزب الله: «أنا مواطن لبناني، وشريكي مواطن أيضا، أنا أعزل وهو مسلح، وهذا شيء غير طبيعي»، وليته يصمد، أو أن الرابطة عبرت عن تغير مزاجه. انتقال صولجان بكركي من صفير إلى الراعي غير الكنيسة المارونية، ونترك للتاريخ الحكم على هذا التغيير.
وجد بيان الرابطة غضبة مارونية على مستوى الأفراد أبرزتها وسائل التواصل الاجتماعي، لكن الأحزاب المارونية الكبيرة تعامل أغلبها مع البيان - علنا على الأقل - كأنه لم يكن، لذلك فالصورة العامة تكشف تغير مزاج مسيحي نحو إيران ونظريتها «تحالف الأقليات»، أي تكالب المكونات العربية غير السنية على السنة، فكل شهداء السنة ومهجريهم لا قيمة لهم ولا وزن، وكل الإرهابيين سنة ولا غير.
عانى الموارنة والمسيحيون قبل غيرهم من الفكر الذي عبر عنه بيان الرابطة العرجاء، فمن ينسى أن حزب «حراس الأرز» ظن الجيش الإسرائيلي جيش خلاص للمسيحيين، والجبهة اللبنانية ظنت - في لحظة معينة خلال الحرب الأهلية - أن حافظ الأسد هو حامي المسيحيين وحقوقهم، ولا نستثني مسلمين من هذه الحماقات، وأعني أولئك الذين اعتقدوا في ياسر عرفات ثم البعثي حافظ الأسد رافعة للسنة وللشيعة وللدروز، وبيان الرابطة في صلب هذا السياق، فهي ترى في ميليشيا حزب الله الإرهابية حامية للمسيحيين وصديقة للجيش، مع أنها الميليشيا التي قتلت باسل فليحان وجبران تويني وبيار الجميل وجورج حاوي وسمير قصير وانطوان غانم والنقيب الطيار سامر حنا والعميد فرانسوا الحاج، وكل هؤلاء مسيحيون.
لن أتحدث عن شهداء المسلمين في ثورة الأرز، رفيق الحريري ووليد عيدو ومحمد شطح ووسام عيد ووسام الحسن وهاشم السلمان، فمن لا يرى في سبعة ملايين لاجئ سوري حول العالم إلا لاجئي طائفته، ومن لا يرى من ٥٠٠ ألف قتيل سوري إلا قتلى طائفته، كيف نحدثه بمنطق الإنسانية وبلغة البشر؟، فأغلب هؤلاء اللاجئين والشهداء سنة، وحزب الله الذي تحييه الرابطة المارونية شريك رئيس في هذه الجرائم بجوار داعش وبشار وبوتين والقاعدة وإيران، ولا أرى في تحية الرابطة إلا مباركة لجرائم الحزب من لبنان وسوريا والعراق إلى اليمن ودول الخليج.
بيان الرابطة المارونية بدا وكأنه صادر عن كتلة الوفاء للمقاومة، ولا عجب في ذلك، وقنوات «مسيحية» مثل LBC وMTV تتعامل مع معركة جرود عرسال كتعامل قناة المنار التابعة لحزب الله، وهناك الأسوأ، فتغطية صراع الإرهاب مع الإرهاب في جرود عرسال بدت موحدة في أغلب محطات لبنان، وكأن غرفة العمليات الدعائية التي ترأسها جميل السيد زمن الوصاية السورية قد عادت إلى الحياة والعمل، لكن لمصلحة إيران هذه المرة.
لتنشيط الذاكرة، في ذروة المارونية السياسية كان الرئيس الماروني فؤاد شهاب (١٩٥٨- ١٩٦٤) زعيما للمسلمين أكثر من كونه زعيما مسيحيا، وفي مؤتمر لوزان ١٩٨٣ - ١٩٨٤ وقف سليمان فرنجية «الجد» وقال: «لن أتنازل عن شبر من عروبتي كما لن أتنازل عن شبر من مسيحيتي»، فرد عليه بيار الجميل «الجد»: «لماذا كلما تحدث أحد عن عروبة لبنان نظرتم إلي؟ لبنان عربي».
وحين أعود إلى مذكرات صونيا فرنجية أجدها وثقت إحدى وصايا الملك عبدالعزيز لأبنائه «لبنان هو نافذتنا المفتوحة باتجاه الغرب بفضل مسيحييه، دعونا لا نغلق هذه النافذة حتى لا نختنق. يجب أن يكون رئيس لبنان مسيحيا». وتروي فرنجية أنه في كل مناسبة عربية أو دولية كان الملك فيصل يحرص على الاحتفاء بالرئيس اللبناني الماروني، «للتأكيد على تحضر العرب واحترامهم للتنوع» وفق كلمات الملك.
في ذروة الحرب الأهلية هاجم الكاتب السعودي الدكتور عبدالله مناع رئيس حزب الكتائب بيار الجميل، فاستدعاه وزير الدفاع الأمير سلطان بن عبدالعزيز الذي أعرب عن غضبه واستيائه من المقالات «كيف تهاجم رجلا يدافع عن بلده؟»، وللرئيس المصري محمد أنور السادات تصريح شهير رد فيه على هجمات الصحافة المصرية التي نالت من القيادات المسيحية اللبنانية، «كميل شمعون وبيار الجميل وسليمان فرنجية عرب أقحاح»، فأرسل العميد ريمون إده (رئيس حزب الكتلة الوطنية) رسالة إلى السادات: «هل يجب أن أقتل المسلمين حتى تعترف بعروبتي؟!»، ومن يعرف التاريخ الناصع والمشرف لإده، لن يتعجب من انشقاق رئيس الرابطة المارونية الراهن انطوان قليموس عن حزب العميد وخليفته كارلوس إده، وسوء حظ الرابطة قد يعكس سوء حظ بعض شعبها: من بيار حلو وميشال إده إلى قليموس.
أتأمل المزاج المسيحي هذه الأيام، ومسيرة المارونية السياسية متذكرا مقولة الرئيس التاريخي بشير الجميل الذي يعرف جمهوره أكثر منا ولا مزايدة عليه «نحن ملائكة هذا الشرق وشياطينه»، وبشير هو الرئيس الذي باركت المملكة انتخابه - بعد اجتماعه بوزير الخارجية الأمير سعود الفيصل - ورفضت الانتخاب سوريا وإيران، وقتله حافظ الأسد.
بشير مناضل من سلسلة عريضة، أرادت خروج المسيحية من مفهوم «أهل الذمة» التي اختصروها في دفع الجزية مقابل الحماية، وفي هذه السلسلة هناك من فضل الخروج إلى دولة مسيحية، وهناك من ارتضى الدولة المدنية الوطنية الجامعة، لكن يحسب لهم أنهم أرادوا الدولة بغض النظر عن شكلها وهويتها، ويأسف اليوم الأب جورح مسوح على ميل طوعي وجماعي عند المسيحيين، في انقلاب على الحداثة والتاريخ، لأن يكونوا أهل ذمة حزب الله، فهم في حماية ميليشيا مقابل جزية تغطية السلاح غير الشرعي والمشروع الإيراني وولاية الفقيه.
بشير ومسوح، مع الفوارق الزمنية والوظيفية والفكرية بينهما، لم ينتبها إلى أن المسلمين، والسنة خصوصا، أول من قفزوا فوق مفهوم الذمية، ففي عصر النهضة العربية كان المسيحي الأرمني أديب إسحاق تلميذا للشيخ جمال الدين الأفغاني، وكان شعار حزب الوفد وثورة ١٩١٩ هو عناق الهلال والصليب، كما تعانق لاحقا رياض الصلح وبشارة الخوري من أجل استقلال لبنان، واستمرت هذه الصيرورة، وحقق فهمي هويدي كتابه «مواطنون لا ذميون»، وتمسك رفيق الحريري بعنوان المناصفة.
كتب الأمير طلال بن عبدالعزيز في صحيفة النهار بتاريخ ٢٩ يناير ٢٠٠١ عن المسيحيين بأنهم «شكّلوا حلقة وصل واتصال، وعمقا ثقافيا أصيلا في العروبة ومتقدما في الحداثة، وبقاؤهم ترسيخ للتنوع الثقافي وللدولة العصرية وللتعددية وللديموقراطية، وهجرتهم ضربة عميقة توجه إلى صميم مستقبلنا».
نذكر إخواننا الموارنة بأن «الأقليات»، ونستخدم هذا المصطلح مجازا، لم يتعرضوا للاضطهاد فترة الحكم الإسلامي العربي ثم الليبرالي، إنما كان اضطهادهم في عهدين؛ عهد إسلامي عجمي كالترك والمماليك، وكإيران اليوم. ثم عهد أقلوي، كما فعل الفاطميون بمصر، وكما فعل العلويون في لبنان زمن حافظ الأسد وبشار. والعهدان يستغلان الأقليات قبل التنكيل بهم.
لا يمكن إغفال دور التيار الوطني الحر في تشويه الموارنة وتدمير لبنان وتفجير العلاقات الإسلامية - المسيحية، فمنذ وقع هذا التيار، وهو صاحب أغلبية النواب المسيحيين، وثيقة التفاهم سنة ٢٠٠٦ مع حزب الله، وهو يغطي جرائم الحزب في الداخل والخارج، ووصل به الأمر إلى الاحتفال باغتيال بعض رموز ١٤ آذار أو تمنيه، وعمموا تهمة الإرهاب على جمهور أهل السنة، وشنعوا على السنة بأنهم يغتصبون الحقوق المسيحية، ويمنعون وصول الرئيس القوي «ميشال عون» لرئاسة الجمهورية، وفي سبيل ذلك عطلوا الدولة - بلا خجل - لسنوات، واتهموا تيار المستقبل بالدعشنة وبرعاية التطرف، مع أن المستقبل ضرب تنظيم فتح الإسلام في النهر البارد وحليفهم نصرالله رفض الضربة قائلا «النهر البارد خط أحمر»، أما حليفهم الأكبر بشار الأسد فقد أخرج مؤسس تنظيم «فتح الإسلام» من السجن بالعفو سنة ٢٠٠٥ كما أخرج قائد جبهة النصرة أبا مالك التالي بعفو آخر سنة ٢٠١١.
وكنا نظن أن التسوية الرئاسية أعادت الحقوق المسيحية، ومكنت الرئيس القوي، وأنهت العنصرية العونية ضد السنة، لكن الداء استفحل، فانكب رئيس التيار جبران باسيل مؤكدا على إرهابية اللاجئين السوريين جميعا، وممهدا للمعركة الإرهابية في جرود عرسال بين إرهاب النصرة وإرهاب حزب الله، وهدف المعركة الاستعراضية تبييض صفحة حزب الله الإجرامية وحصر الإرهاب في السنة، وشد عصب «الأقليات» حول الحزب الإلهي، وتغطية انسحابه الذليل من الجنوب السوري، وانكشف المستور بتصريحات قائد النصرة أبي مالك التلي، الذي عقد صفقة مع الحزب ملزمة للدولة اللبنانية، فلم تجتمع من أجل الصفقة حكومة ولم يوقع عليها رئيس قوي، بل المرشد الأعلى للجمهورية اللبنانية حسن نصرالله، ولعل هذا يكشف للبنانيين أن القضية ليست صراعا بين المملكة وإيران داخل لبنان، إنما صراع وجودي يخوضه اللبنانيون ضد إيران.
التيار الوطني الحر وبيان الرابطة يمثلان تورما لنظرية تحالف الأقليات، وهذه الحالة الفكرية، باسم حقوق المسيحيين، وباسم كيد تاريخي ضد الإسلام، وباسم المطامع الشخصية الضيقة، أهدت لبنان إلى إيران، ومكنت نصرالله من تحقيق حلمه القديم الموثق والمسجل: «لا نريد لبنان جمهورية إسلامية فقط، بل جزء لا يتجزأ من دولة ولاية الفقيه»، ولم تخجل صحيفة الأخبار الناطقة باسم الحزب بتهديد الخصوم صراحة بالقتل مثبتة إرهاب الحزب وجرائمه السابقة واللاحقة.
حين انتهى الحزب الإلهي من تفاهماته مع النصرة، وافق على تولي الجيش مواجهة داعش، وأسجل هنا تخوفي من مؤامرتين؛ الأولى توتير متعمد داخل عرسال ومخيماتها لتهجير العراسلة واللاجئين و«تنقية» الحدود الشرقية طائفيا، والثانية إحراج الجيش أمام داعش فتجتمع «الأقليات» والدولة على استدعاء الحزب لمواجهة داعش لأول مرة في التاريخ، فتتكرس الذمية الطوعية الجماعية من بوابة عرسال والحدود الشرقية، وهذه الذمية أرضيتها خصبة بتراجع الدور الوطني للمسيحيين وللدروز.
وفق مصدر دبلوماسي، ذهب السفير الكويتي إلى وزير الخارجية جبران باسيل مقدما مذكرة احتجاج بخصوص خلية حزب الله الإرهابية في الكويت، واتفقا - بعد تفهم السفير - على تسريب المذكرة لرفع الحرج عن الوزير أمام الحزب الإلهي، ولو كنت مكان السفير لنصحت الوزير بصلاة ميخائيل نعيمة «نجني اللهم من صديق يدعي أنه يحبني فوق محبته لنفسه». قارنوا بين هذا الموقف وبين موقف الوزير في الجامعة العربية من اعتداء إيران على البعثة السعودية الدبلوماسية.
أهلا بحقوق المسيحيين الذين تملص بعضهم من شعار «لبنان أولا». وليت الموارنة يقارنون بين عهد رفيق الحريري الذي اتهموه باغتصاب حقوقهم وبين عهد المرشد حسن نصرالله، علهم يرددون قول الشاعر:
يا ليت جور بني مروان دام لنا
وليت عدل بني العباس في النار
صدر البيان بتاريخ ٢٨ يوليو ٢٠١٧، وأعد هذا التاريخ مأتما لثلاث فرق؛ أولهم منظرو القومية اللبنانية والمارونية السياسية على غرار يوسف السودا وشارل مالك وفؤاد افرام البستاني، وثانيهم المنظرون المسيحيون للقومية العربية مثل نجيب عازوري وجورج أنطونيوس، وثالثهم أرباب التناغم اللبناني - العربي كالبطريرك مار نصرالله بطرس صفير والنائب الراحل سمير فرنجية، فبعض جمهورهم لم يصمد في لبنانيته أو عروبته، إنما تأيرن، ومنهم من ابتدع طائفة مستحدثة أو مذهبا جديدا داخل المسيحية، فما نعرفه عن الطوائف المسيحية الرئيسة أنها البروتستانتية والأرثوذكسية والكاثوليكية، والمارونية من تفرعات الأخيرة، لكننا لم نسمع يوما عن مسيحية جعفرية أو مارونية اثنتي عشرية.
والحديث عن الرابطة وصفير يشدنا للحديث عن موقف بكركي، البطريركية المارونية التي تعد الرابطة من مشتقاتها، صفير هو بطريرك لبنان الدائم قبل أن يكون بطريرك الموارنة السابق، لم يتحدث عن الحزب الإلهي أبدا إلا بنص «ما يسمى بحزب الله»، وفي ليلة الانتخابات النيابية عام ٢٠٠٩ صرح محذرا من مشروع إيراني يهدد كيان لبنان وعروبته، ودعا الناخبين إلى اتخاذ المواقف الجريئة التي تحفظ الهوية اللبنانية، ليبقى لبنان وطن الحرية والسيادة والاستقلال.
سيد الصرح الماروني اليوم، البطريرك بشارة الراعي، له مواقف متموجة، فباغتنا في بدء ولايته بزيارتين متناقضتين، الأولى لسوريا الأسد والثانية لفلسطين المحتلة، وقد واجه معارضي الزيارتين بصلابة نادرة، ثم شاهدناه في فرنسا يعلن تأييدا مبطنا لبشار الأسد، ومؤخرا صرح في مقابلة تلفزيونية قاصدا حزب الله: «أنا مواطن لبناني، وشريكي مواطن أيضا، أنا أعزل وهو مسلح، وهذا شيء غير طبيعي»، وليته يصمد، أو أن الرابطة عبرت عن تغير مزاجه. انتقال صولجان بكركي من صفير إلى الراعي غير الكنيسة المارونية، ونترك للتاريخ الحكم على هذا التغيير.
وجد بيان الرابطة غضبة مارونية على مستوى الأفراد أبرزتها وسائل التواصل الاجتماعي، لكن الأحزاب المارونية الكبيرة تعامل أغلبها مع البيان - علنا على الأقل - كأنه لم يكن، لذلك فالصورة العامة تكشف تغير مزاج مسيحي نحو إيران ونظريتها «تحالف الأقليات»، أي تكالب المكونات العربية غير السنية على السنة، فكل شهداء السنة ومهجريهم لا قيمة لهم ولا وزن، وكل الإرهابيين سنة ولا غير.
عانى الموارنة والمسيحيون قبل غيرهم من الفكر الذي عبر عنه بيان الرابطة العرجاء، فمن ينسى أن حزب «حراس الأرز» ظن الجيش الإسرائيلي جيش خلاص للمسيحيين، والجبهة اللبنانية ظنت - في لحظة معينة خلال الحرب الأهلية - أن حافظ الأسد هو حامي المسيحيين وحقوقهم، ولا نستثني مسلمين من هذه الحماقات، وأعني أولئك الذين اعتقدوا في ياسر عرفات ثم البعثي حافظ الأسد رافعة للسنة وللشيعة وللدروز، وبيان الرابطة في صلب هذا السياق، فهي ترى في ميليشيا حزب الله الإرهابية حامية للمسيحيين وصديقة للجيش، مع أنها الميليشيا التي قتلت باسل فليحان وجبران تويني وبيار الجميل وجورج حاوي وسمير قصير وانطوان غانم والنقيب الطيار سامر حنا والعميد فرانسوا الحاج، وكل هؤلاء مسيحيون.
لن أتحدث عن شهداء المسلمين في ثورة الأرز، رفيق الحريري ووليد عيدو ومحمد شطح ووسام عيد ووسام الحسن وهاشم السلمان، فمن لا يرى في سبعة ملايين لاجئ سوري حول العالم إلا لاجئي طائفته، ومن لا يرى من ٥٠٠ ألف قتيل سوري إلا قتلى طائفته، كيف نحدثه بمنطق الإنسانية وبلغة البشر؟، فأغلب هؤلاء اللاجئين والشهداء سنة، وحزب الله الذي تحييه الرابطة المارونية شريك رئيس في هذه الجرائم بجوار داعش وبشار وبوتين والقاعدة وإيران، ولا أرى في تحية الرابطة إلا مباركة لجرائم الحزب من لبنان وسوريا والعراق إلى اليمن ودول الخليج.
بيان الرابطة المارونية بدا وكأنه صادر عن كتلة الوفاء للمقاومة، ولا عجب في ذلك، وقنوات «مسيحية» مثل LBC وMTV تتعامل مع معركة جرود عرسال كتعامل قناة المنار التابعة لحزب الله، وهناك الأسوأ، فتغطية صراع الإرهاب مع الإرهاب في جرود عرسال بدت موحدة في أغلب محطات لبنان، وكأن غرفة العمليات الدعائية التي ترأسها جميل السيد زمن الوصاية السورية قد عادت إلى الحياة والعمل، لكن لمصلحة إيران هذه المرة.
لتنشيط الذاكرة، في ذروة المارونية السياسية كان الرئيس الماروني فؤاد شهاب (١٩٥٨- ١٩٦٤) زعيما للمسلمين أكثر من كونه زعيما مسيحيا، وفي مؤتمر لوزان ١٩٨٣ - ١٩٨٤ وقف سليمان فرنجية «الجد» وقال: «لن أتنازل عن شبر من عروبتي كما لن أتنازل عن شبر من مسيحيتي»، فرد عليه بيار الجميل «الجد»: «لماذا كلما تحدث أحد عن عروبة لبنان نظرتم إلي؟ لبنان عربي».
وحين أعود إلى مذكرات صونيا فرنجية أجدها وثقت إحدى وصايا الملك عبدالعزيز لأبنائه «لبنان هو نافذتنا المفتوحة باتجاه الغرب بفضل مسيحييه، دعونا لا نغلق هذه النافذة حتى لا نختنق. يجب أن يكون رئيس لبنان مسيحيا». وتروي فرنجية أنه في كل مناسبة عربية أو دولية كان الملك فيصل يحرص على الاحتفاء بالرئيس اللبناني الماروني، «للتأكيد على تحضر العرب واحترامهم للتنوع» وفق كلمات الملك.
في ذروة الحرب الأهلية هاجم الكاتب السعودي الدكتور عبدالله مناع رئيس حزب الكتائب بيار الجميل، فاستدعاه وزير الدفاع الأمير سلطان بن عبدالعزيز الذي أعرب عن غضبه واستيائه من المقالات «كيف تهاجم رجلا يدافع عن بلده؟»، وللرئيس المصري محمد أنور السادات تصريح شهير رد فيه على هجمات الصحافة المصرية التي نالت من القيادات المسيحية اللبنانية، «كميل شمعون وبيار الجميل وسليمان فرنجية عرب أقحاح»، فأرسل العميد ريمون إده (رئيس حزب الكتلة الوطنية) رسالة إلى السادات: «هل يجب أن أقتل المسلمين حتى تعترف بعروبتي؟!»، ومن يعرف التاريخ الناصع والمشرف لإده، لن يتعجب من انشقاق رئيس الرابطة المارونية الراهن انطوان قليموس عن حزب العميد وخليفته كارلوس إده، وسوء حظ الرابطة قد يعكس سوء حظ بعض شعبها: من بيار حلو وميشال إده إلى قليموس.
أتأمل المزاج المسيحي هذه الأيام، ومسيرة المارونية السياسية متذكرا مقولة الرئيس التاريخي بشير الجميل الذي يعرف جمهوره أكثر منا ولا مزايدة عليه «نحن ملائكة هذا الشرق وشياطينه»، وبشير هو الرئيس الذي باركت المملكة انتخابه - بعد اجتماعه بوزير الخارجية الأمير سعود الفيصل - ورفضت الانتخاب سوريا وإيران، وقتله حافظ الأسد.
بشير مناضل من سلسلة عريضة، أرادت خروج المسيحية من مفهوم «أهل الذمة» التي اختصروها في دفع الجزية مقابل الحماية، وفي هذه السلسلة هناك من فضل الخروج إلى دولة مسيحية، وهناك من ارتضى الدولة المدنية الوطنية الجامعة، لكن يحسب لهم أنهم أرادوا الدولة بغض النظر عن شكلها وهويتها، ويأسف اليوم الأب جورح مسوح على ميل طوعي وجماعي عند المسيحيين، في انقلاب على الحداثة والتاريخ، لأن يكونوا أهل ذمة حزب الله، فهم في حماية ميليشيا مقابل جزية تغطية السلاح غير الشرعي والمشروع الإيراني وولاية الفقيه.
بشير ومسوح، مع الفوارق الزمنية والوظيفية والفكرية بينهما، لم ينتبها إلى أن المسلمين، والسنة خصوصا، أول من قفزوا فوق مفهوم الذمية، ففي عصر النهضة العربية كان المسيحي الأرمني أديب إسحاق تلميذا للشيخ جمال الدين الأفغاني، وكان شعار حزب الوفد وثورة ١٩١٩ هو عناق الهلال والصليب، كما تعانق لاحقا رياض الصلح وبشارة الخوري من أجل استقلال لبنان، واستمرت هذه الصيرورة، وحقق فهمي هويدي كتابه «مواطنون لا ذميون»، وتمسك رفيق الحريري بعنوان المناصفة.
كتب الأمير طلال بن عبدالعزيز في صحيفة النهار بتاريخ ٢٩ يناير ٢٠٠١ عن المسيحيين بأنهم «شكّلوا حلقة وصل واتصال، وعمقا ثقافيا أصيلا في العروبة ومتقدما في الحداثة، وبقاؤهم ترسيخ للتنوع الثقافي وللدولة العصرية وللتعددية وللديموقراطية، وهجرتهم ضربة عميقة توجه إلى صميم مستقبلنا».
نذكر إخواننا الموارنة بأن «الأقليات»، ونستخدم هذا المصطلح مجازا، لم يتعرضوا للاضطهاد فترة الحكم الإسلامي العربي ثم الليبرالي، إنما كان اضطهادهم في عهدين؛ عهد إسلامي عجمي كالترك والمماليك، وكإيران اليوم. ثم عهد أقلوي، كما فعل الفاطميون بمصر، وكما فعل العلويون في لبنان زمن حافظ الأسد وبشار. والعهدان يستغلان الأقليات قبل التنكيل بهم.
لا يمكن إغفال دور التيار الوطني الحر في تشويه الموارنة وتدمير لبنان وتفجير العلاقات الإسلامية - المسيحية، فمنذ وقع هذا التيار، وهو صاحب أغلبية النواب المسيحيين، وثيقة التفاهم سنة ٢٠٠٦ مع حزب الله، وهو يغطي جرائم الحزب في الداخل والخارج، ووصل به الأمر إلى الاحتفال باغتيال بعض رموز ١٤ آذار أو تمنيه، وعمموا تهمة الإرهاب على جمهور أهل السنة، وشنعوا على السنة بأنهم يغتصبون الحقوق المسيحية، ويمنعون وصول الرئيس القوي «ميشال عون» لرئاسة الجمهورية، وفي سبيل ذلك عطلوا الدولة - بلا خجل - لسنوات، واتهموا تيار المستقبل بالدعشنة وبرعاية التطرف، مع أن المستقبل ضرب تنظيم فتح الإسلام في النهر البارد وحليفهم نصرالله رفض الضربة قائلا «النهر البارد خط أحمر»، أما حليفهم الأكبر بشار الأسد فقد أخرج مؤسس تنظيم «فتح الإسلام» من السجن بالعفو سنة ٢٠٠٥ كما أخرج قائد جبهة النصرة أبا مالك التالي بعفو آخر سنة ٢٠١١.
وكنا نظن أن التسوية الرئاسية أعادت الحقوق المسيحية، ومكنت الرئيس القوي، وأنهت العنصرية العونية ضد السنة، لكن الداء استفحل، فانكب رئيس التيار جبران باسيل مؤكدا على إرهابية اللاجئين السوريين جميعا، وممهدا للمعركة الإرهابية في جرود عرسال بين إرهاب النصرة وإرهاب حزب الله، وهدف المعركة الاستعراضية تبييض صفحة حزب الله الإجرامية وحصر الإرهاب في السنة، وشد عصب «الأقليات» حول الحزب الإلهي، وتغطية انسحابه الذليل من الجنوب السوري، وانكشف المستور بتصريحات قائد النصرة أبي مالك التلي، الذي عقد صفقة مع الحزب ملزمة للدولة اللبنانية، فلم تجتمع من أجل الصفقة حكومة ولم يوقع عليها رئيس قوي، بل المرشد الأعلى للجمهورية اللبنانية حسن نصرالله، ولعل هذا يكشف للبنانيين أن القضية ليست صراعا بين المملكة وإيران داخل لبنان، إنما صراع وجودي يخوضه اللبنانيون ضد إيران.
التيار الوطني الحر وبيان الرابطة يمثلان تورما لنظرية تحالف الأقليات، وهذه الحالة الفكرية، باسم حقوق المسيحيين، وباسم كيد تاريخي ضد الإسلام، وباسم المطامع الشخصية الضيقة، أهدت لبنان إلى إيران، ومكنت نصرالله من تحقيق حلمه القديم الموثق والمسجل: «لا نريد لبنان جمهورية إسلامية فقط، بل جزء لا يتجزأ من دولة ولاية الفقيه»، ولم تخجل صحيفة الأخبار الناطقة باسم الحزب بتهديد الخصوم صراحة بالقتل مثبتة إرهاب الحزب وجرائمه السابقة واللاحقة.
حين انتهى الحزب الإلهي من تفاهماته مع النصرة، وافق على تولي الجيش مواجهة داعش، وأسجل هنا تخوفي من مؤامرتين؛ الأولى توتير متعمد داخل عرسال ومخيماتها لتهجير العراسلة واللاجئين و«تنقية» الحدود الشرقية طائفيا، والثانية إحراج الجيش أمام داعش فتجتمع «الأقليات» والدولة على استدعاء الحزب لمواجهة داعش لأول مرة في التاريخ، فتتكرس الذمية الطوعية الجماعية من بوابة عرسال والحدود الشرقية، وهذه الذمية أرضيتها خصبة بتراجع الدور الوطني للمسيحيين وللدروز.
وفق مصدر دبلوماسي، ذهب السفير الكويتي إلى وزير الخارجية جبران باسيل مقدما مذكرة احتجاج بخصوص خلية حزب الله الإرهابية في الكويت، واتفقا - بعد تفهم السفير - على تسريب المذكرة لرفع الحرج عن الوزير أمام الحزب الإلهي، ولو كنت مكان السفير لنصحت الوزير بصلاة ميخائيل نعيمة «نجني اللهم من صديق يدعي أنه يحبني فوق محبته لنفسه». قارنوا بين هذا الموقف وبين موقف الوزير في الجامعة العربية من اعتداء إيران على البعثة السعودية الدبلوماسية.
أهلا بحقوق المسيحيين الذين تملص بعضهم من شعار «لبنان أولا». وليت الموارنة يقارنون بين عهد رفيق الحريري الذي اتهموه باغتصاب حقوقهم وبين عهد المرشد حسن نصرالله، علهم يرددون قول الشاعر:
يا ليت جور بني مروان دام لنا
وليت عدل بني العباس في النار