-A +A
نجيب يماني
مسافة شاسعة جدا، وفرق كبير بين من يؤدي مهامه الوظيفية في أي قطاع من القطاعات العامة بشكل روتيني، لا يتوخى فيه إلا قطع الأيام والشهور والسنوات، مستمتعا بمخصصات الوظيفة ما وسعه الاستمتاع، ومنتظرا فرصة مغادرة الكرسي حين تكون الغنيمة كبيرة ممثلة في حقوق ما بعد الخدمة، مجسدا صورة شائهة لمفهوم العمل الوظيفي، ومعطيا صورة سلبية للموظف الذي لا هم له سوى الراتب، والمخصصات، والبدلات، أما المهام الموكلة إليه، والدور الذي يجب أن يؤديه ويتطور به ومعه، فذلك عنه غفلٌ..

وفي مقابل هذه الصورة السلبية، ثمة شخصيات جعلت الوظيفة التي تقوم بها وتؤديها جزءا أصيلا من روحها، اندمغت فيها بكلياتها، مستشعرة روح المسؤولية في أقصى تجليات التضحية والإيثار، مجسدة روح الإسلام على الاتقان، فيما هو مأثور عن نبي الأمة عليه الصلاة والسلام وقد حضّنا على أن من يعمل عملا عليه أن يتقنه، وعلى هذا يأتي عطاء بعض الشخصيات قرينا بشخصياتها المتفردة، فإذا نظرت إليه أدركت للحظة أن ثمة تماهيا كبيرا بين هذه الشخصية، والوظيفة التي تشغلها، فما أعظم النفس حين تسمو بالعطاء، وما أروعها حين تجسّد القدوة سلوكا وانضباطا.. وما أجدرنا بالحفاوة بها والإعلاء من صيتها إلى عنان السماء..


وما أجدر بهذا من معالي الدكتور (قاسم بن عثمان القصبي – المشرف العام التنفيذي على مؤسسة الملك فيصل التخصصي ومركز الأبحاث)، الذي ترجل عن صهوة العمل العام، بعد أن أبلى بلاءه المنظور وأدرك بجهده المقدر كل الممكن من النجاح، واشرأبت نفسه الطموحة إلى المستحيل، فكانت الإدارة في عهده، نموذجا باذخا، ورؤية مستشرفة، وحركة دؤوبة لا تعرف الونى أو الضعف.. يمسك بأعنة النجاح، مرخيا حبل المودة والإيلاف لإشاعة روح الزمالة الموشوجة بالتوادد والمحبة، وفي مقابل ذلك يتحلى بعزم يجعل من الانضباط قيمة أساسية.. وبين روح الألفة، وعزيمة الانضباط قدم الأنموذج الأمثل لماهية القائد العارف برجاله، والمدرك لمواهبهم، والمستثير لهممهم نحو التطوير المستمر، ضاربا أروع الأمثلة لما يجب أن يكون عليه الإداري الناجح. ودع منسوبي المؤسسة برسالة: (وإن كنت لا أحبذ كلمة وداع فهي تختص بالغرباء وأنتم أصبحتم على مدى سنوات عملي معكم إخوة لي، هذه سنة الحياة تمر بكل الناس تبدأ بأحلى ابتسامات، وتنتهي بالفراق، وفراقي هذا لم يأتِ فراقاً لكم إنما جاء برغبة شخصية مني ولظروف خاصة بطلب الموافقة على التقاعد بعدما تشرفت بالعمل الحكومي لأربعة عقود). في خطوة غريبة على مجتمعنا لا يجيدها الكثيرون، يتقاعدون برضى وعن طيب خاطر وهم في قمة العطاء والتألق.

ندرك أن التغيير سنة الحياة، ولن تدوم الكراسي وتخلد لأصحابها مدى الدهر، فما أروع الإنسان الذي يدرك هذه الحقيقة، ويعمل على ترك بصمة خالدة، ويسعى لجعل فترة توليه العمل القيادي كفؤا للثقة التي أوليت له، إن الدكتور القصبي كان كذلك طوال الفترة التي تسنم فيها إدارة المؤسسة، حيث أرسى روح التطور التي كان يتحلى بها، والمنجزات التي قدمها طوال فترة إدارته، فضلا عما أرساه من أدبيات وظيفية، ستكون ديدن من يخلفه على هذا الكرسي باذن الله، بما يرفع من سقف التحدي، بحثا عن التطوير المتسع لهذا الصرح الوطني العملاق الذي حصل على العديد من الجوائز العالمية بمركز أبحاثه المتطور وعلمائه العاملين عليه زاد من طاقته الاستيعابية، مفتتحاً مركز الملك عبدالله للأورام وأمراض الكبد بواقع (450) سريراً، مؤسساً لزراعة الأعضاء بتقنيات عالمية متطورة ومنافسة كمركز عالمي معتمد، وإنشاء مبنى للطوارئ يتكون من ستة أدوار في الرياض، موقعاً عقد تطوير مستشفى الملك فيصل التخصصي ومركز الأبحاث الجديد في جدة لترتفع شواهد أبراجه عالية في سماء الوطن، يتفقده بشغف، يستمع إلى مهندسي المواقع مذللاً كل العقبات والمصاعب. في كل اجتماع ومناسبة يؤكد أنه بفضل الله وتوفيقه ثم بفضل الدعم السخي من حكومتنا الرشيدة وترجمة ذلك بسواعدكم بكافة فئاتكم حيث بذلتم قصارى جهدكم وجل وقتكم وفق منظومة فرق عمل متكاملة محققة الكثير من الإنجازات التي تفخر بها المؤسسة، وإن هذا العطاء مستمر ومتجدد ويأتي على شكل مشاريع تطويرية معتمدة من ولي أمر الوطن الذي أولى الصحة جل اهتمامه وعظيم عطائه..

إن من الفخر أن يتولى قيادة المؤسسة خلفا للدكتور القصبي ابن مخلص من أبنائها نشأ وترعرع بين جدرانها الدكتور ماجد الفياض.. عرفها وعرفته في حب وإخلاص متبادل فتسنم قيادتها على خطى سلفه خدمة للمريض وضخ المزيد لرفع مستوى العلوم البحثية والصحية والطبية التخصصية محققاً رؤية 2030 سائلين الله له التوفيق.

لا نقول للدكتور القصبي رافقتك السلامة في مسعاك مستقبلا، فنحن على ثقة بأنه قمين ببلوغ النجاح في أي مجال يطرقه، ولكننا في مقابل ذلك نزجي له الشكر على فترته في هذه المؤسسة الرائدة، فقد نحت في جدرانها اسمه بإزميل العطاء، ودونه في قلوب الناس محبة وإيثارا فارضاً على الجميع زمالة صادقة وأخوة مستمرة..