عند الحديث عن الدور الذي يلعبه حزب الله ومدى تأثيره على مجريات السياسة والأمن في منطقة الشرق الأوسط، لا بد من الحديث عن الدور الإيراني بالتفصيل الممكن حسب ما يتوفر من معطيات ومعلومات؛ فحزب الله، وعلى الرغم من تعاظم الدور الذي يلعبه في المنطقة، هو ذراع سياسية وعسكرية لنظام حكم رجال الدين في ايران. يشكل حزب الله نخبة حركة «السائرون على نهج الإمام» أو «خط الإمام»؛ فكوادر حزب الله هم الأكثر تدريباً والأحسن إعداداً بين منتسبي التيار العريض الذي يعرف باسم «السائرون على نهج الإمام»، كما أن كوادر الحزب منتظمة في خلايا سرية، بينما ليس بالضرورة التزام التنظيم والسرية بالنسبة لباقي المحسوبين على حركة «السائرون على نهج الإمام»، فمنسوبو الحركة العريضة يمثلون في مجملهم، العمق الاجتماعي المطلوب لتسهيل عمل كوادر الحزب. لكن ذلك لا يقلل من أهمية وخطورة الدور الذي تلعبه حركة «السائرون على نهج الإمام». لهذا السبب، سأعرض ما أمكنني دور كلا الفرعين، ومدى التداخل بين الدورين في المجال العام في أوساط الأقليات الشيعية العربية في دول الخليج العربية، وخصوصاً في أوساط الشيعة السعوديين.
أتذكر حادثة شهدتها بنفسي أواخر عام ١٩٧٩، وفيها دلالات لا تزال سارية المفعول حتى وقتنا الراهن. ففي ذلك العام، حذّر أحد خطباء المنبر الحسيني، في منطقة القطيف، مستمعيه من الاستجابة لدعوة الخميني إلى تصدير ثورته الإسلامية، ونبه هذا الخطيب مستمعيه من أن الخميني ورفاقه يقودون دولة لها مصالحها التي قد تتعارض مع مصالح الدول التي يحمل هويتها الشيعة العرب، وأن الخطاب الإيراني الموجه لمنتسبي المذهب الشيعي، مجرد رافعة سياسية تستخدمها ايران للضغط على جاراتها بتهديد أمنها واستقرارها عبر تحريض المواطنين الشيعة على التمرد على الأنظمة الحاكمة في أوطانهم، بعذر المطالبة بالمساواة ورفع الظلم والحيف. هذا الخطيب المشار إليه هنا، كان أحد وجهاء مدينته، وكان يمتاز بالشهامة والنخوة، وصرم من عمره شطراً غير يسير في السعي لقضاء حاجات الناس، وحل مشاكلهم، وكان من المثقفين العروبيين التقليديين البارزين. تعرض هذا الخطيب إلى نبذ اجتماعي بعد قوله رأيه في الخمينية ودعوتها إلى تصدير الثورة، وكانت الشائعة هي السلاح الذي استخدم في الاغتيال المعنوي الذي ارتُكِب في حقه؛ فقد انتشرت ضده شائعة مفادها أنه قال في أحد مجالسه إن حذاء بن غوريون أطهر من لحية الخميني. الشائعة التي أطلقت وخسفت حيثية ومكانة هذا الرجل في مجتمعه، لم تكن عمل فردياً، وإنما كانت عملاً منظماً استحضر بوعي شرير رمزية بن غوريون إلى مشهد الصراع لكي يدفع حتى تلك الآلاف التي تقف صامتة حيال الأحداث، إلى نبذ الرجل وعزله اجتماعياً؛ فالذي أطلق الشائعة كان يعي أن لحية الخميني لا تحرك وحدها مشاعر الأغلبية الصامتة وتدفعها للإسهام في الجريمة، فقرنها في مفاضلة مع حذاء بن غوريون، ما استفز مشاعر حتى غير المتعاطفين مع ثورة الخميني، وجندهم كقوة غاشمة تحركها عاطفية اللحظة وحميميتها.
استحضار هذه الحادثة تحديداً، لا يعني أنها حادثة يتيمة مطلقاً، ولكني استحضرتها لإلمامي المعقول بتفاصيلها، ولمعرفتي الشخصية بالرجل الذي استهدفته. أروي هذه الحادثة محاولاً إلقاء الضوء على أحد أسلحة الحرب الباردة التي أدرك الإيرانيون مدى خطورتها وفعاليتها في مرحلة مبكرة جداً.
هذا النوع من الأنشطة الهادفة إلى تسيير المزاج الاجتماعي الشيعي العربي، مارسته ايران الخمينية بعيداً عن وسائل الإعلام، ولهذا أثمرت الجهود الإيرانية دون أن تجابه بتحديات تذكر؛ فالتحديات التي برزت لهذا النوع من الأنشطة التوجيهية الإيرانية، تمثلت في أحسن أحوالها في محاولات عدد محدود من رجال الدين التقليديين وبعض الوجهاء المحسوبين أيضاً، على القوى الاجتماعية التقليدية، توجيه النصح للجيل الجديد بعدم تسييس المناسبات الدينية، لما في ذلك من نزع لقدسية المناسبات، وكذلك إزعاج السلطات المكلفة بمهمة حفظ النظام. لكن عجزت أغلب تلك المحاولات عن تعطيل الجهود الإيرانية، إذ من الصعب أن تفلح الجهود الفردية في مواجهة جهود منظمة تشرف عليها دولة بأجهزتها وإمكانياتها.
في الصراع السياسي والحرب الباردة التي نتجت عن هذا الصراع السياسي في منطقتنا، لم تتوان ايران الثورة عن استخدام الأقليات الشيعية العربية كأحد أسلحتها في إدارة الحرب من جانبها، حيث اعتمدت ايران على نُخَب مجندة لكي تعمل رأس حربة لها في توجيه الرأي والمزاج السياسي العام للدفاع عن مواقفها ومواقف الفصائل المحسوبة عليها علناً في الأوساط الشيعية العربية. انتظمت هذه النخب تحت المظلة العريضة التي أشرت إليها في بداية حديثي والتي عُرِفَتْ باسم «خط الإمام» أو «السائرون على نهج الإمام». يوجد تحت هذا العنوان العريض، عناوين فرعية لفصائل أكثر نخبوية من حيث التجنيد والتدريب، تعمل الفصائل الأكثر تدريباً والأدق تنظيماً تحت مسمى «حزب الله» بتفرعات جغرافية مثل «حزب الله الحجاز» و«حزب الله الكويت» و«حزب الله العراق». في ما يخص مظلة «خط الإمام»، قد يكون اسم الكويتي «عباس بن نِخِّي» هو الأبرز في المراحل المبكرة من عمر حركة «خط الإمام»، فقد كان «بن نِخِّي» عقيداً في أحد أفرع القوات المسلحة الكويتية، ترك الخدمة العسكرية ليتفرغ لخدمة التيار الخميني، لكنه عاد عن التزامه بالخمينية واتبع الخط التقليدي بعد موت الخميني واعتلاء علي خامنئي كرسي مرشد الثورة.
في قضية تدعم رأيي بعدم الاستهانة بخطورة وأهمية الدور الذي لعبته ولا تزال تلعبه، حركة «السائرون على نهج الإمام»، ملخصها أنه أثناء فترة الحرب العراقية-الإيرانية، ألقت السلطات الأمنية في المنطقة الشرقية، القبض على مجموعة من الشيعة السعوديين من منطقة الأحساء، جميعهم من منسوبي شركة أرامكو، بتهمة تسريب مخططات وإحداثيات محطات الاتصالات الخاصة بالشركة، وكان رأس المجموعة يشغل منصب مدير في دائرة الاتصالات لشركة أرامكو، وهو أعلى درجات سلم الإدارة الوسطى لأرامكو، وأولى درجات سلم الإدارة العليا. أسفرت التحقيقات مع المقبوض عليهم، عن اعترافهم بالجريمة، واعترافهم بأن الغرض من ارتكابها هو مساعدة إيران في حربها ضد العراق وضد دول الخليج العربية المتحالفة مع العراق في الحرب على إيران. بلغ عدد المقبوض عليهم حوالى 16 فرداً لم تثبت تهمة الانتساب لحزب الله سوى على فردٍ واحد فقط، ولم يكن رأس المجموعة، لكنه لعب دور محرض رأس المجموعة. فرأس المجموعة وبقية الأعضاء، خاطروا بحياتهم وبأمن وطنهم من باب الاحتساب لصالح إيران. بعد انتهاء التحقيقات في القضية، استدعت إمارة المنطقة الشرقية عددا من أعيان ووجهاء الشيعة، وعرضت عليهم اعترافات أعضاء المجموعة التي كانت مسجلة بالصوت والصورة. أطلق سراح جميع أعضاء المجموعة بعفو ملكي خاص قبل عرضهم على المحكمة لتصديق أقوالهم شرعاً، ولم تطل مدة سجنهم أكثر من سنتين!
شَكّلَ منتسبو كل إقليم جغرافي، القوام الرئيسي لمنظمات «حزب الله» الفرعية، وكُلِّفَت هذه المنظمات الفرعية القيام بأعمال لصالح إيران. راوحت درجة خطورة الأعمال التي نفذتها أفرع التيار الخميني سواءً حركة «السائرون على نهج الإمام» أو «حزب الله» من الضغط على رجال الدين المحليين لمنعهم من اختيار مرجعياتهم الفقهية، ومحاولات إجبارهم على اختيار مرجعيات فقهية مؤمنة بمبدأ ولاية الفقيه بغرض إحكام السيطرة على المجتمعات الشيعية العربية، وتوجيه مزاجها وسلوكها بما يتفق والمصلحة الإيرانية، إلى التصفية المعنوية التي طالت مشايخ ووجهاء وأعيان شيعة في مجتمعاتهم، وذنبهم أنهم ليسوا من المؤمنين بمبدأ ولاية الفقيه، وصولاً إلى القيام بأعمال عنيفة مثل الاغتيالات والتفجيرات، كما حدث في منشآت شركة صدف في مدينة الجبيل الصناعية شرق المملكة، وكما حدث في موسم حج عام ١٩٨٩ في مكة المكرمة، وكما حدث في تفجير معمل الجعيمة، والمحاولة الفاشلة لتفجير برج التصعيد في معمل فرز الغاز عن الزيت في رأس تنورة وتفجير أبراج الخبر عام ١٩٩٦. نفذ هذه الجرائم مواطنون خليجيون جندتهم إيران لأكثر من اعتبار. من تلك الاعتبارات، بل ربما من أهمها، خلق أزمة ثقة دائمة بين الأقليات الشيعية في دول الخليج العربية وبين حكومات دول الخليج، ومعها غالبية السكان من السنة العرب، إذ إن أزمة الثقة قد حدثت بالفعل، وأسهمت إلى جانب عوامل أخرى، في عزل الأقليات الشيعية عن محيطها العربي السني، وبالتالي أصبحت حاجة الأقليات الشيعية العربية إلى إيران، حاجة حيوية لأن عزلة هذه الأقليات عن محيطاتها القومية والوطنية، أفقدتها الإحساس بالأمان.
أزْعُم أنه لو دُرِسَت خارطة توزع الولاءات السياسية في المجتمعات الشيعية في دول الخليج العربية، بدقة، لن تظهر نتيجة إحصائية لصالح إيران، وربما لن تظهر أي نتيجة إحصائية تدل على قدرة أي فصيل من فصائل الإسلام السياسي الشيعي، الحصول على أغلبية موالية؛ لكن طبيعة الأمور في الظاهر، لا تسير وفق الواقع الذي قد تشخصه الدراسة والإحصاء؛ فالدراسة والإحصاء قد يُنْطِقان صمت الأغلبية، بينما المشهد الظاهر يقع تحت سطوة أقليات منظمة تمتلك أدوات توجيه وأدوات تعبير تبدو من خلالها، للعين المجردة، كأنها ممثل شرعي للغالبية، وهذا يجلب معه تبعات، أخطرها على الإطلاق، تعميق أزمة الثقة، وتعزيز الشكوك في الولاء الوطني، وإدامة قلق ازدواج الهوية.
استثمرت إيران في عامل التمييز الذي أَضَّر الأقليات الشيعية العربية، وشاركها في استثمارها طيف من اليسار واليسار القومي، خابت آماله بفشل مشروعه السياسي، ما حوله إلى معارض للأنظمة القائمة دون مشروع نهضوي واضح السمات.
أودُّ أن أختم بتوصيتين.. التوصية الأولى لدراسة الجانب الاجتماعي لجموع المتعاطفين مع السياسات الإيرانية من أبناء الأقليات الشيعية العربية في دول الخليج عموماً، وبالأخص في المملكة العربية السعودية. فالجانب الأمني لهذه المسألة، تتولاه أجهزة مختصة بمسؤوليات واضحة، ولكن الجانب الاجتماعي غير مكتشف، ولا يمكن الإدلاء برأي فيه دون إخضاعه للبحث والدراسة؛ فمن شأن البحث المتخصص أن يكشف لنا عن أفضل الممكنات لإغلاق الثغرات التي يتسلل عبرها التأثير الإيراني إلى الأقليات الشيعية في دول الخليج العربية. والتوصية الثانية للعمل على عزل الديناميكيات الاجتماعية-السياسية المحلية عن المؤثرات الإقليمية، مع إقراري بعدم معرفتي عن كيف يمكن تنفيذ خطة العزل.
أتذكر حادثة شهدتها بنفسي أواخر عام ١٩٧٩، وفيها دلالات لا تزال سارية المفعول حتى وقتنا الراهن. ففي ذلك العام، حذّر أحد خطباء المنبر الحسيني، في منطقة القطيف، مستمعيه من الاستجابة لدعوة الخميني إلى تصدير ثورته الإسلامية، ونبه هذا الخطيب مستمعيه من أن الخميني ورفاقه يقودون دولة لها مصالحها التي قد تتعارض مع مصالح الدول التي يحمل هويتها الشيعة العرب، وأن الخطاب الإيراني الموجه لمنتسبي المذهب الشيعي، مجرد رافعة سياسية تستخدمها ايران للضغط على جاراتها بتهديد أمنها واستقرارها عبر تحريض المواطنين الشيعة على التمرد على الأنظمة الحاكمة في أوطانهم، بعذر المطالبة بالمساواة ورفع الظلم والحيف. هذا الخطيب المشار إليه هنا، كان أحد وجهاء مدينته، وكان يمتاز بالشهامة والنخوة، وصرم من عمره شطراً غير يسير في السعي لقضاء حاجات الناس، وحل مشاكلهم، وكان من المثقفين العروبيين التقليديين البارزين. تعرض هذا الخطيب إلى نبذ اجتماعي بعد قوله رأيه في الخمينية ودعوتها إلى تصدير الثورة، وكانت الشائعة هي السلاح الذي استخدم في الاغتيال المعنوي الذي ارتُكِب في حقه؛ فقد انتشرت ضده شائعة مفادها أنه قال في أحد مجالسه إن حذاء بن غوريون أطهر من لحية الخميني. الشائعة التي أطلقت وخسفت حيثية ومكانة هذا الرجل في مجتمعه، لم تكن عمل فردياً، وإنما كانت عملاً منظماً استحضر بوعي شرير رمزية بن غوريون إلى مشهد الصراع لكي يدفع حتى تلك الآلاف التي تقف صامتة حيال الأحداث، إلى نبذ الرجل وعزله اجتماعياً؛ فالذي أطلق الشائعة كان يعي أن لحية الخميني لا تحرك وحدها مشاعر الأغلبية الصامتة وتدفعها للإسهام في الجريمة، فقرنها في مفاضلة مع حذاء بن غوريون، ما استفز مشاعر حتى غير المتعاطفين مع ثورة الخميني، وجندهم كقوة غاشمة تحركها عاطفية اللحظة وحميميتها.
استحضار هذه الحادثة تحديداً، لا يعني أنها حادثة يتيمة مطلقاً، ولكني استحضرتها لإلمامي المعقول بتفاصيلها، ولمعرفتي الشخصية بالرجل الذي استهدفته. أروي هذه الحادثة محاولاً إلقاء الضوء على أحد أسلحة الحرب الباردة التي أدرك الإيرانيون مدى خطورتها وفعاليتها في مرحلة مبكرة جداً.
هذا النوع من الأنشطة الهادفة إلى تسيير المزاج الاجتماعي الشيعي العربي، مارسته ايران الخمينية بعيداً عن وسائل الإعلام، ولهذا أثمرت الجهود الإيرانية دون أن تجابه بتحديات تذكر؛ فالتحديات التي برزت لهذا النوع من الأنشطة التوجيهية الإيرانية، تمثلت في أحسن أحوالها في محاولات عدد محدود من رجال الدين التقليديين وبعض الوجهاء المحسوبين أيضاً، على القوى الاجتماعية التقليدية، توجيه النصح للجيل الجديد بعدم تسييس المناسبات الدينية، لما في ذلك من نزع لقدسية المناسبات، وكذلك إزعاج السلطات المكلفة بمهمة حفظ النظام. لكن عجزت أغلب تلك المحاولات عن تعطيل الجهود الإيرانية، إذ من الصعب أن تفلح الجهود الفردية في مواجهة جهود منظمة تشرف عليها دولة بأجهزتها وإمكانياتها.
في الصراع السياسي والحرب الباردة التي نتجت عن هذا الصراع السياسي في منطقتنا، لم تتوان ايران الثورة عن استخدام الأقليات الشيعية العربية كأحد أسلحتها في إدارة الحرب من جانبها، حيث اعتمدت ايران على نُخَب مجندة لكي تعمل رأس حربة لها في توجيه الرأي والمزاج السياسي العام للدفاع عن مواقفها ومواقف الفصائل المحسوبة عليها علناً في الأوساط الشيعية العربية. انتظمت هذه النخب تحت المظلة العريضة التي أشرت إليها في بداية حديثي والتي عُرِفَتْ باسم «خط الإمام» أو «السائرون على نهج الإمام». يوجد تحت هذا العنوان العريض، عناوين فرعية لفصائل أكثر نخبوية من حيث التجنيد والتدريب، تعمل الفصائل الأكثر تدريباً والأدق تنظيماً تحت مسمى «حزب الله» بتفرعات جغرافية مثل «حزب الله الحجاز» و«حزب الله الكويت» و«حزب الله العراق». في ما يخص مظلة «خط الإمام»، قد يكون اسم الكويتي «عباس بن نِخِّي» هو الأبرز في المراحل المبكرة من عمر حركة «خط الإمام»، فقد كان «بن نِخِّي» عقيداً في أحد أفرع القوات المسلحة الكويتية، ترك الخدمة العسكرية ليتفرغ لخدمة التيار الخميني، لكنه عاد عن التزامه بالخمينية واتبع الخط التقليدي بعد موت الخميني واعتلاء علي خامنئي كرسي مرشد الثورة.
في قضية تدعم رأيي بعدم الاستهانة بخطورة وأهمية الدور الذي لعبته ولا تزال تلعبه، حركة «السائرون على نهج الإمام»، ملخصها أنه أثناء فترة الحرب العراقية-الإيرانية، ألقت السلطات الأمنية في المنطقة الشرقية، القبض على مجموعة من الشيعة السعوديين من منطقة الأحساء، جميعهم من منسوبي شركة أرامكو، بتهمة تسريب مخططات وإحداثيات محطات الاتصالات الخاصة بالشركة، وكان رأس المجموعة يشغل منصب مدير في دائرة الاتصالات لشركة أرامكو، وهو أعلى درجات سلم الإدارة الوسطى لأرامكو، وأولى درجات سلم الإدارة العليا. أسفرت التحقيقات مع المقبوض عليهم، عن اعترافهم بالجريمة، واعترافهم بأن الغرض من ارتكابها هو مساعدة إيران في حربها ضد العراق وضد دول الخليج العربية المتحالفة مع العراق في الحرب على إيران. بلغ عدد المقبوض عليهم حوالى 16 فرداً لم تثبت تهمة الانتساب لحزب الله سوى على فردٍ واحد فقط، ولم يكن رأس المجموعة، لكنه لعب دور محرض رأس المجموعة. فرأس المجموعة وبقية الأعضاء، خاطروا بحياتهم وبأمن وطنهم من باب الاحتساب لصالح إيران. بعد انتهاء التحقيقات في القضية، استدعت إمارة المنطقة الشرقية عددا من أعيان ووجهاء الشيعة، وعرضت عليهم اعترافات أعضاء المجموعة التي كانت مسجلة بالصوت والصورة. أطلق سراح جميع أعضاء المجموعة بعفو ملكي خاص قبل عرضهم على المحكمة لتصديق أقوالهم شرعاً، ولم تطل مدة سجنهم أكثر من سنتين!
شَكّلَ منتسبو كل إقليم جغرافي، القوام الرئيسي لمنظمات «حزب الله» الفرعية، وكُلِّفَت هذه المنظمات الفرعية القيام بأعمال لصالح إيران. راوحت درجة خطورة الأعمال التي نفذتها أفرع التيار الخميني سواءً حركة «السائرون على نهج الإمام» أو «حزب الله» من الضغط على رجال الدين المحليين لمنعهم من اختيار مرجعياتهم الفقهية، ومحاولات إجبارهم على اختيار مرجعيات فقهية مؤمنة بمبدأ ولاية الفقيه بغرض إحكام السيطرة على المجتمعات الشيعية العربية، وتوجيه مزاجها وسلوكها بما يتفق والمصلحة الإيرانية، إلى التصفية المعنوية التي طالت مشايخ ووجهاء وأعيان شيعة في مجتمعاتهم، وذنبهم أنهم ليسوا من المؤمنين بمبدأ ولاية الفقيه، وصولاً إلى القيام بأعمال عنيفة مثل الاغتيالات والتفجيرات، كما حدث في منشآت شركة صدف في مدينة الجبيل الصناعية شرق المملكة، وكما حدث في موسم حج عام ١٩٨٩ في مكة المكرمة، وكما حدث في تفجير معمل الجعيمة، والمحاولة الفاشلة لتفجير برج التصعيد في معمل فرز الغاز عن الزيت في رأس تنورة وتفجير أبراج الخبر عام ١٩٩٦. نفذ هذه الجرائم مواطنون خليجيون جندتهم إيران لأكثر من اعتبار. من تلك الاعتبارات، بل ربما من أهمها، خلق أزمة ثقة دائمة بين الأقليات الشيعية في دول الخليج العربية وبين حكومات دول الخليج، ومعها غالبية السكان من السنة العرب، إذ إن أزمة الثقة قد حدثت بالفعل، وأسهمت إلى جانب عوامل أخرى، في عزل الأقليات الشيعية عن محيطها العربي السني، وبالتالي أصبحت حاجة الأقليات الشيعية العربية إلى إيران، حاجة حيوية لأن عزلة هذه الأقليات عن محيطاتها القومية والوطنية، أفقدتها الإحساس بالأمان.
أزْعُم أنه لو دُرِسَت خارطة توزع الولاءات السياسية في المجتمعات الشيعية في دول الخليج العربية، بدقة، لن تظهر نتيجة إحصائية لصالح إيران، وربما لن تظهر أي نتيجة إحصائية تدل على قدرة أي فصيل من فصائل الإسلام السياسي الشيعي، الحصول على أغلبية موالية؛ لكن طبيعة الأمور في الظاهر، لا تسير وفق الواقع الذي قد تشخصه الدراسة والإحصاء؛ فالدراسة والإحصاء قد يُنْطِقان صمت الأغلبية، بينما المشهد الظاهر يقع تحت سطوة أقليات منظمة تمتلك أدوات توجيه وأدوات تعبير تبدو من خلالها، للعين المجردة، كأنها ممثل شرعي للغالبية، وهذا يجلب معه تبعات، أخطرها على الإطلاق، تعميق أزمة الثقة، وتعزيز الشكوك في الولاء الوطني، وإدامة قلق ازدواج الهوية.
استثمرت إيران في عامل التمييز الذي أَضَّر الأقليات الشيعية العربية، وشاركها في استثمارها طيف من اليسار واليسار القومي، خابت آماله بفشل مشروعه السياسي، ما حوله إلى معارض للأنظمة القائمة دون مشروع نهضوي واضح السمات.
أودُّ أن أختم بتوصيتين.. التوصية الأولى لدراسة الجانب الاجتماعي لجموع المتعاطفين مع السياسات الإيرانية من أبناء الأقليات الشيعية العربية في دول الخليج عموماً، وبالأخص في المملكة العربية السعودية. فالجانب الأمني لهذه المسألة، تتولاه أجهزة مختصة بمسؤوليات واضحة، ولكن الجانب الاجتماعي غير مكتشف، ولا يمكن الإدلاء برأي فيه دون إخضاعه للبحث والدراسة؛ فمن شأن البحث المتخصص أن يكشف لنا عن أفضل الممكنات لإغلاق الثغرات التي يتسلل عبرها التأثير الإيراني إلى الأقليات الشيعية في دول الخليج العربية. والتوصية الثانية للعمل على عزل الديناميكيات الاجتماعية-السياسية المحلية عن المؤثرات الإقليمية، مع إقراري بعدم معرفتي عن كيف يمكن تنفيذ خطة العزل.