إدوارد سعيد من أكثر الغرباء أناقة في لغته الأكاديمية وأقواهم حجة ومواجهة. دائماً أخبر طلابي في الجامعات الأمريكية بأن يقتفوا أثر أسلوبه البليغ وطرحه المقنع، وأَلفُتُ انتباههم إلى أن كتابه الشهير، (الاستشراق) الذي نشره في عام ١٩٧٨، ظل عشر سنوات تقريباً بلا جدل ينقضه لأن قوة حجته وأطروحته الجديدة بعمقها البحثي في الدراسات الإنسانية والسياقات التاريخية والسياسية لم تمنح أحداً ثغرة لنقضها ودحضها وحققت له الانتشار والتأثير الفكري ليتجاوز حدود تخصصه في دراسات الأدب المقارن وما بعد الكولونيالية. وبعد عقد من الزمان، جاءت الجدليات الرافضة «لتهمة» الاستشراق، كما رآها بعض من انتقدهم. وفي كتب إدوارد سعيد تظهر الحجة الصارمة واللغة الإقناعيه التي تستحق أن تُدَرس في التخصصات الإنجليزية في جامعاتنا العربية وخاصة أنه لم يشتهر في العالم العربي مع أنه كان يغدق على القضايا العربية من شجنه لعقود طويلة ليحيلها إلى أطروحات جاذبة للنقاش والسجال.
وعلى الرغم من تهديده بالموت مرات ومقاومته حتى في جامعته كولومبيا ومرضه المزمن لسنين، إلا أن هذا المنفي الأنيق الإقناع كان يزداد إصراراً وتمسكاً بالقضايا الإنسانية والمواقف الأخلاقية التي يُؤْمِن بها ويدافع عنها بشجاعة المفكر الذي يعي أن عبئاً حضارياً يقض راحة ضميره مما جعله أكثر المفكرين العرب نشاطاً في المهجر فلا أحد يقارن بمهارة ذلك المحارب الوحيد. أيضاً كانت له مساهمات في الموسيقى الكلاسيكية كناقد موسيقي في الصحافة الأمريكية إلى جانب إجادته عزف البيانو ووالدته هي من تابعت تدريسه الموسيقى عندما كان طفلاً في القاهرة.
كان الصوت العربي الأمريكي الوحيد الأكثر جرأة، وهيبة، وفتكاً لغوياً في سجالاته وخاصة مع برنارد لويس الذي كتب كثيراً عن الإسلام، ومن أخطرها محاضرة ألقاها في ١٩٩٠ بعنوان «جذور الغضب الإسلامي» وهو يدّرس في جامعة برينستون، صامويل هنتنغتون الذي كتب (صدام الحضارات: إعادة صنع النظام العالمي) في ١٩٩٦ وكان يدرّس في جامعة هارفارد وقد وصفه سعيد «بالكاتب والمفكر الأخرق» ويضيف بأنه «صاحب أيديولوجيا، شخص يريد أن يُدخِل «الحضارات» و«الهويات» في ما ليس لها: كيانات ساكنة منغلقة تم تطهيرها من التيارات والتيارات المضادة التي لا تعد ولا تحصى والتي تحرك التاريخ البشري». لاحظوا تواجد هؤلاء الثلاثة في أكبر المؤسسات الأكاديمية، وهذا تقليد عريق تحترمه الجامعات حيث تهيأ الفضاء الحر لاختبار الأفكار وترعى المناظرات مستفيدة مما تثيره من أصداء وضجيج يحرك رصانتها الأكاديمية المتعالية كلما أغراها الهدوء، هذه المناظرات محرضة لأطروحات أخرى وأيضاً هي مادة تسويقية لسمعة الجامعة العلمية.
دافع إدوارد سعيد عن فلسطين، قضيته الأولى، لكنه بنفس العمق والحرص ينقض النمط الاستشراقي الذي سيطر على تمثيلات العرب، الإسلام، وكل من أقصته آلة الهيمنة الثقافية الاستعمارية. ولم ينس الخطاب الأمريكي وخاصة الإعلامي بل انهمك يحلله ويستعرض التحولات الجديدة في كتابه (الثقافة والإمبريالية)؛ إذ كشف أن الإعلام الأمريكي حل محل الرواية الإنجليزية التي قرأها إدوارد سعيد كبوتقة لوشائج متواطئة مع الخطاب الاستعماري حين كانت الإمبراطورية البريطانية مسيطرة على ربع مساحة الأرض. وكان مقنعاً كذلك في تحليله وتأكيده على أن الخطاب الإعلامي الأمريكي يروج لفرضيات استشراقية ذات هيمنة ثقافية. كنت خريجة بكالوريوس حين قابلت إدوارد سعيد مع بعض طلبة وطالبات صف «الفلسفة والأدب الفرنسي» وكنت في بداية دراسة ميشيل فوكو، رولان بارت وجاك دريدا. ذهبنا إلى المحاضرة من مدينة أخرى في ولاية نيويورك ولم نبالِ بالعاصفة الثلجية التي حذّرت منها نشرات الطقس، وبالفعل توقفت السيارة ونحن في منتصف الطريق، وبدأنا ندفع بها حتى تجاوزت الكثبان الثلجية، حتى وصلنا مشارف جامعة كورنيل في مدينة إيثيكا وحين جئنا إلى القاعة بعد بدء المحاضرة بدقائق قليلة، كان الحشد يفيض خارجها بعدة أمتار. بل إن بعض الطلاب والأساتذة وغيرهم من الحاضرين يجلسون على الأرض وعلى السلالم داخل القاعة الشاسعة، تسللنا بهدوء وبدأنا ننصت، وكان المتحدث يقف مثل شخصية شكسبيرية مهيبة والكل يستمع ويتابع باهتمام. كانت محاولة فهم محاضرة إدوارد سعيد صعبة بالنسبة لي لحداثة عهدي بالدراسات ما بعد كولونيالية وكنت أبتهج حين أفهم جزءاً ثم أصر على الإنصات المخلص حين تكون العبارات ذات مفاهيم نظرية جديدة؛ بعد تلك المحاضرة قطعت عهداً أن أقرأ كتب إدوارد سعيد بتأنٍ وعناية لكي
استوعب هذه اللغة الشائكة. والمفارقة أنه بعد المحاضرة بسنوات، ناقشتُ كتاب إدوارد سعيد (استطرادات موسيقية) كجزء من نقدي للدراسات ما بعد الكولونيالية. وتمر الأيام لتصبح كتب إدوارد سعيد من المواد التي قمت بشرحها وتدريسها لطلابي في أمريكا، كما كتبت عن بعض أطروحاته في أبحاثي وخاصة أن الاستشراق بُعِثَ من جديد بعد الحادي عشر من سبتمبر وأصبح الشرق الأوسط في خطاب الإعلام الأمريكي مجوفاً من الجمالية الثقافية التي اصطحبته في القرن التاسع عشر في أوروبا ولم يبق إلا سلبية الصور ليغرق الشرق العربي في بدائية عنفه وخرابه كما يُراد له أن يماثل جدلية الأيديولوجيا السياسية.
لم يعلم إدوارد سعيد أن تلك الشابة المفعمة برؤى المستقبل ستدعوها جامعته، بل قسمه، ويكون مكتبها مزداناً بكتبه.
أتذكر الإدارية في القسم وهي تريني مكتبي الجديد معتذرة:
- نتمنى ألا يكون لديك مانع، فهذه الأرفف جزء من كتب إدوارد سعيد التي لم توضع في القاعة التي خصصت له في مكتبة جامعة كولومبيا.
- هذه أجمل صحبة أن أكون محاطة بحضور الأستاذ الراحل، ولي مع نصوصه شجون.
* أكاديمية سعودية درّست في جامعتي كولومبيا وهارفارد.
arabia77@
وعلى الرغم من تهديده بالموت مرات ومقاومته حتى في جامعته كولومبيا ومرضه المزمن لسنين، إلا أن هذا المنفي الأنيق الإقناع كان يزداد إصراراً وتمسكاً بالقضايا الإنسانية والمواقف الأخلاقية التي يُؤْمِن بها ويدافع عنها بشجاعة المفكر الذي يعي أن عبئاً حضارياً يقض راحة ضميره مما جعله أكثر المفكرين العرب نشاطاً في المهجر فلا أحد يقارن بمهارة ذلك المحارب الوحيد. أيضاً كانت له مساهمات في الموسيقى الكلاسيكية كناقد موسيقي في الصحافة الأمريكية إلى جانب إجادته عزف البيانو ووالدته هي من تابعت تدريسه الموسيقى عندما كان طفلاً في القاهرة.
كان الصوت العربي الأمريكي الوحيد الأكثر جرأة، وهيبة، وفتكاً لغوياً في سجالاته وخاصة مع برنارد لويس الذي كتب كثيراً عن الإسلام، ومن أخطرها محاضرة ألقاها في ١٩٩٠ بعنوان «جذور الغضب الإسلامي» وهو يدّرس في جامعة برينستون، صامويل هنتنغتون الذي كتب (صدام الحضارات: إعادة صنع النظام العالمي) في ١٩٩٦ وكان يدرّس في جامعة هارفارد وقد وصفه سعيد «بالكاتب والمفكر الأخرق» ويضيف بأنه «صاحب أيديولوجيا، شخص يريد أن يُدخِل «الحضارات» و«الهويات» في ما ليس لها: كيانات ساكنة منغلقة تم تطهيرها من التيارات والتيارات المضادة التي لا تعد ولا تحصى والتي تحرك التاريخ البشري». لاحظوا تواجد هؤلاء الثلاثة في أكبر المؤسسات الأكاديمية، وهذا تقليد عريق تحترمه الجامعات حيث تهيأ الفضاء الحر لاختبار الأفكار وترعى المناظرات مستفيدة مما تثيره من أصداء وضجيج يحرك رصانتها الأكاديمية المتعالية كلما أغراها الهدوء، هذه المناظرات محرضة لأطروحات أخرى وأيضاً هي مادة تسويقية لسمعة الجامعة العلمية.
دافع إدوارد سعيد عن فلسطين، قضيته الأولى، لكنه بنفس العمق والحرص ينقض النمط الاستشراقي الذي سيطر على تمثيلات العرب، الإسلام، وكل من أقصته آلة الهيمنة الثقافية الاستعمارية. ولم ينس الخطاب الأمريكي وخاصة الإعلامي بل انهمك يحلله ويستعرض التحولات الجديدة في كتابه (الثقافة والإمبريالية)؛ إذ كشف أن الإعلام الأمريكي حل محل الرواية الإنجليزية التي قرأها إدوارد سعيد كبوتقة لوشائج متواطئة مع الخطاب الاستعماري حين كانت الإمبراطورية البريطانية مسيطرة على ربع مساحة الأرض. وكان مقنعاً كذلك في تحليله وتأكيده على أن الخطاب الإعلامي الأمريكي يروج لفرضيات استشراقية ذات هيمنة ثقافية. كنت خريجة بكالوريوس حين قابلت إدوارد سعيد مع بعض طلبة وطالبات صف «الفلسفة والأدب الفرنسي» وكنت في بداية دراسة ميشيل فوكو، رولان بارت وجاك دريدا. ذهبنا إلى المحاضرة من مدينة أخرى في ولاية نيويورك ولم نبالِ بالعاصفة الثلجية التي حذّرت منها نشرات الطقس، وبالفعل توقفت السيارة ونحن في منتصف الطريق، وبدأنا ندفع بها حتى تجاوزت الكثبان الثلجية، حتى وصلنا مشارف جامعة كورنيل في مدينة إيثيكا وحين جئنا إلى القاعة بعد بدء المحاضرة بدقائق قليلة، كان الحشد يفيض خارجها بعدة أمتار. بل إن بعض الطلاب والأساتذة وغيرهم من الحاضرين يجلسون على الأرض وعلى السلالم داخل القاعة الشاسعة، تسللنا بهدوء وبدأنا ننصت، وكان المتحدث يقف مثل شخصية شكسبيرية مهيبة والكل يستمع ويتابع باهتمام. كانت محاولة فهم محاضرة إدوارد سعيد صعبة بالنسبة لي لحداثة عهدي بالدراسات ما بعد كولونيالية وكنت أبتهج حين أفهم جزءاً ثم أصر على الإنصات المخلص حين تكون العبارات ذات مفاهيم نظرية جديدة؛ بعد تلك المحاضرة قطعت عهداً أن أقرأ كتب إدوارد سعيد بتأنٍ وعناية لكي
استوعب هذه اللغة الشائكة. والمفارقة أنه بعد المحاضرة بسنوات، ناقشتُ كتاب إدوارد سعيد (استطرادات موسيقية) كجزء من نقدي للدراسات ما بعد الكولونيالية. وتمر الأيام لتصبح كتب إدوارد سعيد من المواد التي قمت بشرحها وتدريسها لطلابي في أمريكا، كما كتبت عن بعض أطروحاته في أبحاثي وخاصة أن الاستشراق بُعِثَ من جديد بعد الحادي عشر من سبتمبر وأصبح الشرق الأوسط في خطاب الإعلام الأمريكي مجوفاً من الجمالية الثقافية التي اصطحبته في القرن التاسع عشر في أوروبا ولم يبق إلا سلبية الصور ليغرق الشرق العربي في بدائية عنفه وخرابه كما يُراد له أن يماثل جدلية الأيديولوجيا السياسية.
لم يعلم إدوارد سعيد أن تلك الشابة المفعمة برؤى المستقبل ستدعوها جامعته، بل قسمه، ويكون مكتبها مزداناً بكتبه.
أتذكر الإدارية في القسم وهي تريني مكتبي الجديد معتذرة:
- نتمنى ألا يكون لديك مانع، فهذه الأرفف جزء من كتب إدوارد سعيد التي لم توضع في القاعة التي خصصت له في مكتبة جامعة كولومبيا.
- هذه أجمل صحبة أن أكون محاطة بحضور الأستاذ الراحل، ولي مع نصوصه شجون.
* أكاديمية سعودية درّست في جامعتي كولومبيا وهارفارد.
arabia77@