-A +A
محمد الساعد
عن كل المدن والقرى السعودية الجميلة أحدثكم، عن كل السعوديين البسطاء الذين قدموا من مدن صغيرة أو من قراهم وهجرهم النائية حيث الحياة الوادعة، لم يعرفوا أحزابا ولا تكفيرا ولا تطرفا، أخذوا تدينهم تواترا عن آبائهم عن أجدادهم وصولا لصحابة نبيهم ومن ثم رسولهم محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم لم يغيروا ولم يبدلوا.

قبل عام 1979، كانت الطائف حديقة المملكة الغناء بها أكثر من 18 دار سينما يغشاها الناس كل مساء، عن حدائق نجمة وغدير البنات ومزارع شهار والمثناة والردف والهدا والشفا، عن برحة القزاز وباب الريع وصواوين الغناء والطرب في العقيق ومعشي وشهار، عن حفلات الملوك التي عاشتها الطائف من بدء الإجازة الصيفية حتى مغادرة الملوك والأمراء إلى الرياض بداية الشتاء، سنوات من الفرح والحياة العادية والتدين المعتدل والفطر السوية.


من الطائف خرج طارق عبدالحكيم وطلال مداح وعبدالله محمد وابتسام لطفي أول مطربة سعودية، كان الناس يغشون المساجد ويتسابقون على الصفوف وفي الوقت نفسه يعيشون كما بقية البشر.

كل ذلك اختفى فجأة بعد اختطاف جهيمان للحرم المكي الشريف العام 1400 - 1980، كان دخولا مشؤوما حمل معه احتلالا لعقول وقلوب وحياة السعوديين استمر لثلاثة عقود لاحقة بل أكثر.

الكثير لا يعرف أن الهجين المسخ الذي أطلقه جهيمان من قمقم التطرف كان خليطا بين القطبية الإخونجية بفرعيها في المدينة المنورة والكويت إضافة للصحوة المتطرفة التي استغلت طيبة مجتمع ناشئ لا يعرف الأحزاب ولا خبثها ولا أهدافها وقدرتها على البرمجة والاستقطاب وتحريك المشاعر.

لقد أطلقت وحشا عابرا للعقول استبد وظلم واستباح الكذب والقيم والأخلاق، شوه أحكام الدين الصحيح حتى وصل للدماء المعصومة.

اختفت الحياة المعتدلة والدين الوسطي ليحل مكانها الغلو والتطرف والتشكيك، بدأ ذلك بهجر المخالف وعدم السلام عليه، ثم التشكيك في دينه وعقيدته، حتى إن أكثر الأسئلة التي راجت بين الصحويين وقتها وسوقوها بشكل لافت هي «كيف عقيدته» عند حديثهم عن أي شخص خارج دائرتهم.

واصلوا التشكيك بالناس حتى وصل الأمر للتفسيق والتكفير ثم القتل وهو ما حصل مع إحراق محلات الفيديو ومتاجر بيع التلفزيون بداية التسعينات الميلادية، لينتقل الأمر لتفجير مقرات عسكرية على يد القاعدة - العام 1995، ثم العلميات الإرهابية من 2003 حتى 2006.

في الطائف كما غيرها اختفت مظاهر السعادة تدريجيا خشية من هذا الوحش الذي واصل مطاردة الناس والتفتيش في تفاصيل حياتهم وتفكيك العلاقات بين الناس وعائلاتهم ومجتمعاتهم الأوسع.

ما زلت أتذكر كيف أن الغلاة كانوا يرشون النساء بالأصباغ الحمراء في أسواق الطائف ليعدن إلى بيوتهن وهن موصومات بجريمة الخروج للأسواق، لا أتخيل كيف ردات فعل الأهالي وهم يرون بناتهم قد عدن بعلامات تدينهن وتمس شرفهن، لم يكتفوا بذلك بل ضربوا الرجال بالعصي وطاردوهم في الطرقات والحدائق والأسواق.

ما جرى في الطائف انسحب على كل المدن السعودية، هناك من قاوم ولو في زوايا بعيدة وتحمل تبعات ذلك، كان المقاومون أنبوب الأوكسجين الذي أبقانا أحياء حتى جاء يوم إنقاذنا من شبه موت وشبه حياة على يدي الأمير محمد بن سلمان عندما أطلق قطار التحديث ورفض الغلو.

لن ننسى غازي القصيبي الشاعر والكاتب والمفكر كم قاوم وكم ألف، هل تنسون كتابه «حتى لا تكون فتنة»، ومحمد الثبيتي شاعر الجزيرة الأبرز، وصالح العزاز الكاتب والمصور والفنان الرقيق، كيف لنا أن نسامح أنفسنا وقد تركناهم يشككون في تدين طلال مداح ومحمد عبده وعبدالمجيد وعبادي، حتى كتاب الأغنية إبراهيم خفاجي وبدر بن عبدالمحسن، وسراج عمر وعمر كدرس وصالح الشهري، لم يسلموا وتحملوا الكثير.

لاحقوا اللاعبين والمذيعين والرسامين والفنانين والمسرحيين والتجار والأعيان، وكل من لم ينضم لهم أو ينخرط في مشروعم أصبح عدوهم اللدود.

هل يمكن لعاقل أن يصدق أن الصحوة ومتطرفيها حاربت الرقيق محمد الثبيتي لأنه شاعر فقط، لأن شعره لا يروق لهم، ولأنه لم يكتب قصائده في عبدالله عزام وسيد قطب وحسن البنا، هاجموا أمسياته الشعرية في نادي جدة الأدبي، واتهموه بالحداثة، نعم بالحداثة، لقد كانت تهمة صحوية ويل لمن تلتصق به.

لن ننسى الدور الكبير والمهم لهؤلاء الرواد المكافحين، كم كان لهم عمل بطولي أمام ذلك الكابوس، على الرغم من أنهم واجهوا التفسيق والتشكيك والاتهام بالشيوعية والعلمانية والتغريبية والليبرالية، ووصلوا لأولادهم وزوجاتهم وأمهاتهم، حرضوا عائلاتهم لإصدار بيانات التبرؤ منهم.

كم أتمنى الآن أن يكون أصدقائي الذين توفاهم الله صالح العزاز وعمر المضواحي وحسن الحارثي وغيرهم ممن ساهموا بالشيء الكثير لإزالة كتل الظلام بيننا، أن يعيشوا ولو للحظات ما نعيشه ويروا كيف أن الليل قد ولى وأن الصبح قد هلت تباشيره.