شكلت أحداث شهر نوفمبر عام ١٩٧٩ منعطفاً إيجابياً بالنسبة إلى «منظمة الثورة الإسلامية في الجزيرة العربية»، حيث مهد زخم الأحداث، وحملة الاعتقالات التي تلت الأحداث، الأرض أمام التنظيم، فأصبح اختفاء العشرات من صغار السن من طلبة المرحلتين الدراسيتين المتوسطة والثانوية، أمراً مألوفاً في القرى المحيطة بمدينة القطيف، وفي أحياء مدينة القطيف التي تقع خارج منطقة القلعة التي كانت مركز المدينة؛ كما طال الأمر، المجتمع الشيعي في الأحساء أيضاً. لعبت منطقة السيدة زينب، وهي إحدى الضواحي العشوائية المحيطة بمدينة دمشق، دور محطة الانتقال الوسيطة بين السعودية وإيران. كان للتيار الشيرازي أكثر من مكتب في تلك الضاحية الدمشقية، كما كانت له مدرسة فيها أيضاً.
عملت فصائل التيار الشيرازي حثيثاً على تثبيط همم الشباب المهاجر إلى إيران لثنيهم عن الانخراط في مدارس الدراسات الدينية في مدينة قم، وفي المقابل، شجعتهم على الانخراط في معسكرات التدريب على الطاعة العمياء، والالتزام الصارم بأوامر القيادة، والتدريب البدني الشاق، والتدريب على أساليب البقاء، والصمود في حالات الاعتقال والتعرض للتعذيب، وأساليب الارتجال في حالات انقطاع سلسلة الأوامر، وقتال المدن، والشوارع، وصنع المتفجرات من المواد المتوافرة في الأسواق المحلية.
قامت سلطات الثورة في إيران بعملية مصادرات هائلة لممتلكات المحسوبين على نظام الشاه، وسلمت عشرات من هذه المواقع إلى حركة الرساليين الطلائع التي قامت بتوزيعها على مختلف فصائلها لتستخدمها في أغراض التدريب الأمني، والعسكري. أنشأت سلطات الثورة في إيران، مكتباً متخصصاً في دعم «الحركات الثورية» وكان هذا المكتب ضمن منطقة نفوذ حسين منتظري، وأداره صهره مهدي هاشمي، وابنه محمد منتظري.
شيئاً فشيئاً، بدأت إيران التحول السياسي نحو مسلك الدولة، وبدأت التخفف من المسلك الثوري. استدعى هذا التغيير إجراءات جذرية على صعيد الدوائر العليا التي يلي بعضها مكتب الخميني من حيث النفوذ. بدأت ملامح هذا المنحى تتضح منذ منتصف الثمانينات؛ إذ صعد إلى الدوائر العليا بعض الشخصيات البراجماتية مثل هاشمي رافسنجاني، وفي الوقت ذاته، اعتقل، وحوكم، وأعدم مهدي هاشمي راعي مكتب رعاية الحركات الثورية، وصهر حسين منتظري (تروتسكي الثورة الإيرانية)؛ ثم بدأت رحلة تحجيم نفوذ حسين منتظري الذي كان الخليفة المعين للخميني.
أدت السياسة الإيرانية الجديدة إلى خسارة التيار الشيرازي مواقعه ونفوذه في إيران، فقام التيار بإجراءات احترازية بهدف إنقاذ ما يمكن إنقاذه من هياكله التنظيمية، فنقل وجبات مهمة من عناصر منظماته إلى الهند، وسورية. اضطرب الوضع المالي للتنظيمات التابعة للتيار الشيرازي نتيجة اضطراب العلاقة مع إيران، وأصبح التيار يعتمد على المعونات المالية التي تصل من قرويي الشيعة في السعودية والبحرين، ومن ميسوري الشيعة الموالين للتيار في سلطنة عمان وفي الكويت. كانت السعودية هي المصدر الأهم في التمويل، وكانت الموارد المالية التي تصل إلى التيار، توضع تحت تصرف محمد تقي المدرسي الذي مَكَّن فصيل البحرين من تلك الأموال، الأمر الذي جعل العناصر القيادية السعودية تراجع تموضعها في التيار. هذا إلى جانب المتغيرات السياسية العالمية، التي كان أهمها مبادرة الإصلاح السوفياتية التي بدأها ميخائيل غورباتشوف. في ضوء المستجدات والمتغيرات، بادرت قيادة منظمة الثورة الإسلامية في الجزيرة العربية، إلى الانفصال تنظيمياً عن الحركة الأم، وكف يد محمد تقي وهادي المدرسي عن الأموال التي ترد إلى الحركة من داخل السعودية. استمر هذا المخاض نحو أربعة أعوام، وانتهى في أواخر الثمانينات بأن قامت قيادة منظمة الثورة بتغيير اسم المنظمة إلى «الحركة الإصلاحية»، وغيرت اسم نشرتها الرئيسية من «مجلة الثورة الإسلامية» إلى «مجلة الجزيرة العربية». كما ظهر على صفحات المجلة الجديدة اهتمام واضح بالتراث البحري والزراعي لمنطقة الخليج السعودية، واختفت النبرة الثورية من موادها. أرسلت قيادة الحركة الإصلاحية إشارات واضحة التقطتها القيادة السعودية بسرعة، وردت عليها بتطمينات ودية. في تلك الأثناء، أعادت قيادة الحركة اكتشاف قيمة العمل المدني العلني في داخل السعودية، واكتشفت أن أنماط الوجاهة والزعامة الاجتماعية التقليدية غير محمية بأُطُرٍ حزبية، وبالتالي، فإزاحتها، والحلول محلها أمر قابل للتحقق بسهولة. انتهت عمليات تبادل الإشارات عن بعد مع القيادة السعودية إلى مسلسل طويل من الاجتماعات التفاوضية مع ممثلي الحكومة السعودية، وتوج هذا المسلسل الطويل، بلقاء حميمي جمع أمين عام الحركة وثلاثة من أعضاء لجنتها المركزية مع الملك فهد بن عبدالعزيز.
هذا اللقاء الحميم، وما أسفر عنه من نتائج إيجابية غير مسبوقة في علاقات الأنظمة العربية مع معارضاتها، أعطى وجاهة ربما تجاوزت ما حلمت به قيادة الحركة، عادت قيادة الحركة وكوادرها من الخارج، وبضمانة شخصية من الملك، لم يتعرض أحد من منسوبيها لأي مساءلة أمنية، بل إن الكوادر القيادية في الحركة عادوا تجللهم هالات الوجاهة، ومنحتهم الحكومة السعودية منحاً سخية لتعديل أوضاعهم ومساعدتهم على العيش الرغيد.
انحلت الحركة الإصلاحية كتنظيم - ظاهريا - ولكنها احتفظت بإمكاناتها الحزبية، ووظفتها في الإعلام الجديد، والعلاقات العامة، والمناشط المدنية ذات الطابع المعرفي، والثقافي، وإدارة المناسبات، وتنظيم المهرجانات، وحشد التأييد إذا لزم الأمر ذلك.
صحيح أن القطيف - كغيرها - هي مدينة طرفية بالنسبة إلى العاصمة الرياض، ويشوب علاقتها بالرياض ما يشوب علاقات المدن الطرفية بالمراكز، لكن في داخل القطيف هناك مركز وأطراف، ويحكم العلاقة بين مركزها وأطرافها ما يحكم علاقات المراكز بالأطراف في كل مكان مع فوارق تتعلق بالخصوصيات الدقيقة. بعد هذه المقدمة، من الضروري التوضيح بأن التيار الشيرازي لم يحظَ بقاعدة أتباع ذات بال في مركز منطقة القطيف الذي يعرف باسم القلعة، وأن قواعد التيار القوية وجدت مكانها في قرى المنطقة، وفي بعض الأحياء الخارجة عن محيط القلعة داخل القطيف المدينة. فيما عدا بعض القرى الساحلية التي مارس أهلها في السابق مهن البحر من غوص لاستخراج اللؤلؤ، وصيد الأسماك، ونقل البضائع بحراً، فإن غالبية قرى القطيف الشيعية قرى زراعية لا يمتلك غالبية سكانها الأراضي التي يعملون فيها، بل كانت غالبية البساتين والأراضي الزراعية في الواحة، يملكها سكان القلعة، وبعض وجهاء القرى. من الأخطاء الجسيمة التصور أن علاقة ملاك الأراضي الزراعية بالعاملين فيها تشبه علاقة السيد الإقطاعي بالأقنان. حيث إن المزارع أو الفلاح الذي يعمل في ملكية ليست له، كان يطلق عليه وصف «الشريك» أو «الأكّار»، والأكّار تعني المُسْتَأْجِر. لكن هذا لا ينفي أنه كانت هناك عقدة التفاوت الطبقي التي ليست دائماً تعني التفاوت الصارخ في القدرة المالية بين المالك والفلاح، ولكنها قد تعني أن شريحة الملاك غير مُسْتَهْلَكَة في زراعة واستخراج خيرات الأرض، وكثير من الملاك لم يكن لهم عمل سوى انتظار حصصهم من ملكياتهم الزراعية، فشريحة الملاك تتمتع بأوقات فراغ هائلة، وقد استثمر كثيرا من الملاك وقت الفراغ في الدراسات الدينية، والمطالعات المعرفية، وكتابة الشعر، وتنظيم الندوات والحلقات الثقافية المغلقة على ذوي الشأن والحيثية الاجتماعية، والتريض، والفروسية، واستخدام السلاح، إلى آخر مظاهر الوجاهة. في المقابل، كان المزارع أو الفلاح مشغولا بمراعاة الأرض ورعايتها هو وأفراد أسرته، فلا وقت لديه للتعلم والتثقف، والتأنق، وتعلم الفروسية، واقتناء السلاح، والمسامرة المعرفية. أوجد هذا الواقع تفاوتاً اجتماعياً يكاد يكون طبقياً إذا لم يفحص بحذر علمي. ترك هذا التفاوت شعور الدونية في نفسيات الفلاحين وأبنائهم، وفجر هذا الشعور طاقات أبناء القرى الزراعية أحياناً كثيرة، وعندما انحسرت أهمية الزراعة كنشاط اقتصادي رئيسي في المنطقة نتيجة اكتشاف النفط، عانى عددٌ من الملاك من الفقر في حالات أكثر من أن تحصى. بينما شق أبناء القرى طريقهم في صناعة النفط وفي الأعمال المساندة لهذه الصناعة، ثم انتهى مشوار تعبهم بانتشار التعليم، إلَّا أن الزعامات والوجاهات التقليدية بقيت من نصيب أبناء أسر الملاك التي لم يصبها الفقر، والتي استطاعت نقل الموروث الاجتماعي من جيل إلى آخر، ووفرت أسباب الحياة الكريمة لأبنائها الذين التحقوا بسلك الدراسات الدينية التي تُكْسِب المتفوق فيها مكانة اجتماعية رفيعة. من الحوادث ذات الدلالة على هذه الفرضية، أن الذي كاتب الملك عبدالعزيز عارضاً عليه الإسراع بضم القطيف إلى سلطانه، رجل دين حظي بتأييد باقي الزعامات التي اعتبرته كبيرها ومدبرها في زمن الفراغ بين الدولتين السعوديتين الثانية والثالثة، حيث كان الوجود العثماني في المنطقة يتميز بالضعف وسوء الإدارة رغم وجود قائمقام عثماني من أبناء القطيف، وينتمي إلى شريحة الملاك.
وحادثة أخرى ذات دلالة على هذه الفرضية أيضاً، أنه في عام ١٩٠٨ تعرضت واحة القطيف إلى غزو مسلح من قبل تحالف قبلي تَكّوَنَ من فخوذ بعض القبائل الضاربة في بادية القطيف، وكانت الحامية العثمانية في القطيف في أسوأ حالاتها عدداً وعدة، فلم تقم بأي جهد لحماية الواحة من الغزو، ولم يكن لدى القائمقام غير عشرة حراس بالكاد يستطيعون تأدية واجب حراسة مسكنه. وهكذا وقعت الواحة تحت سطوة القبائل الغازية لمدة سبعة أشهر، ولم تتمكن من فك حصارها ودفع الغزاة إلى خارج حدودها إلا بمبادرة مسلحة قادها رجل الدين ذاته الذي كاتب الملك عبدالعزيز بعد هذه الحوادث بنحو خمسة أعوام.
أقولها بشيء من الحذر حتى الآن، وحتى تثبت لدي علمياً، أو تنتفي، بأن كون التيار الشيرازي كان أساسه تمرداً على الزعامات الشيعية التقليدية، فقد منحه ذلك جاذبية في نفوس أبناء القرى الزراعية الشيعية في منطقة القطيف الذين وجدوا في التيار فرصة سانحة للتغيير الاجتماعي وقلب الصورة. حيث إن زعاماتهم المحلية ارتبطت عبر قرون بتلك الأنساق التقليدية في مدينة النجف، وهي بالضبط ما تمرد عليه التيار الشيرازي. انتماء المجاميع القروية إلى تيار الشيرازي لم يذهب سدى، بل أثمر انزياح المكانة والوجاهة والزعامة المحلية في المجتمع الشيعي في منطقة القطيف إلى أبناء الأطراف الزراعية، وزحفوا بقيمتهم ومكانتهم الجديدة باتجاه مركز القرار الاجتماعي، واحتلوا جزءاً كبيراً منه، وأصبحوا يُسَيّرون شأن هذا الجزء الكبير الذي نجحوا في احتلاله.
خلال قرون مضت، حيث ارتبطت الزعامة الدينية، وتداخلت مع الزعامة الاجتماعية بمعناها الأشمل، وسلمت قيادها إلى رجال دين من أبناء شريحة الملاك، تراجع دور آلية اجترار المظلومية الشيعية، ومعجم المفردات الطائفي اللازم لإبقاء جذوة المظلومية متقدة، حتى صغر حجم مجالس العزاء الحسينية، واختفت مظاهر الممارسات الطقسية من الشوارع، واقتصرت على المباني المخصصة لها التي تسمى حسينيات. بدل أن يشكل هذا الاضمحلال الطقوسي منعطفاً في طريق إعادة تقييم علاقة شيعة منطقة القطيف بجوارهم الطبيعي والتاريخي، ويمنحهم فرصة التخفف من الأثقال المذهبية، شكل مطعناً عليهم من قبل القوى الجديدة المتمثّلة في العائدين من تجربة الحزبية المذهبية الشيعية التي اتخذت من حقوق الطائفة عنواناً رئيسياً لمعارضتها نظام الحكم، فعادت الطقوسية إلى الشوارع والساحات العامة بتكاليف مادية هائلة، مدعومة بإمكانات تنظيمية-اجتماعية لافتة للنظر، حيث خبراء تقنية المعلومات، والإخراج التلفزيوني والمسرحي، والعناية الطبية، وأصول التغذية، والتصوير الجوي بطائرات بدون طيار، وتنظيم وإدارة المسيرات التي يبلغ حجم بعضها عشرات الآلاف. اللافت للنظر أكثر هو أن القوام الرئيسي لهذه الفعاليات والمناشط يتكون من الشرائح الشابة بين سن ١٥ إلى ٣٥ سنة، ولا يبدو على غالبيتهم سَمْت التدين خارج هذه التجمعات، إذ لو قابلت أحدهم في أي موقع آخر، فلن تفرق بينه وبين أي شاب آخر على الكوكب من نفس الشريحة العمرية، من حيث الملبس، والاهتمامات، وقصة الشعر، ونوع الطعام المفضل، والاستماع إلى الموسيقى الرائجة عربية كانت أم غربية، وبذل الجهد في الظهور بمظهر جذاب إلى الجنس الآخر، إلى آخر علامات التشابه مع باقي الشباب العصري.
هذه الظاهرة تحتاج إلى دراسة جادة بإمكانات ملائمة لكي تفهم على نحو سليم يؤدي إلى تفكيكها بطريقة علمية مع بذل كل الجهد اللازم للحد من حجم الخسائر التي قد تترتب عن عملية التفكيك.
*كاتب سعودي
عملت فصائل التيار الشيرازي حثيثاً على تثبيط همم الشباب المهاجر إلى إيران لثنيهم عن الانخراط في مدارس الدراسات الدينية في مدينة قم، وفي المقابل، شجعتهم على الانخراط في معسكرات التدريب على الطاعة العمياء، والالتزام الصارم بأوامر القيادة، والتدريب البدني الشاق، والتدريب على أساليب البقاء، والصمود في حالات الاعتقال والتعرض للتعذيب، وأساليب الارتجال في حالات انقطاع سلسلة الأوامر، وقتال المدن، والشوارع، وصنع المتفجرات من المواد المتوافرة في الأسواق المحلية.
قامت سلطات الثورة في إيران بعملية مصادرات هائلة لممتلكات المحسوبين على نظام الشاه، وسلمت عشرات من هذه المواقع إلى حركة الرساليين الطلائع التي قامت بتوزيعها على مختلف فصائلها لتستخدمها في أغراض التدريب الأمني، والعسكري. أنشأت سلطات الثورة في إيران، مكتباً متخصصاً في دعم «الحركات الثورية» وكان هذا المكتب ضمن منطقة نفوذ حسين منتظري، وأداره صهره مهدي هاشمي، وابنه محمد منتظري.
شيئاً فشيئاً، بدأت إيران التحول السياسي نحو مسلك الدولة، وبدأت التخفف من المسلك الثوري. استدعى هذا التغيير إجراءات جذرية على صعيد الدوائر العليا التي يلي بعضها مكتب الخميني من حيث النفوذ. بدأت ملامح هذا المنحى تتضح منذ منتصف الثمانينات؛ إذ صعد إلى الدوائر العليا بعض الشخصيات البراجماتية مثل هاشمي رافسنجاني، وفي الوقت ذاته، اعتقل، وحوكم، وأعدم مهدي هاشمي راعي مكتب رعاية الحركات الثورية، وصهر حسين منتظري (تروتسكي الثورة الإيرانية)؛ ثم بدأت رحلة تحجيم نفوذ حسين منتظري الذي كان الخليفة المعين للخميني.
أدت السياسة الإيرانية الجديدة إلى خسارة التيار الشيرازي مواقعه ونفوذه في إيران، فقام التيار بإجراءات احترازية بهدف إنقاذ ما يمكن إنقاذه من هياكله التنظيمية، فنقل وجبات مهمة من عناصر منظماته إلى الهند، وسورية. اضطرب الوضع المالي للتنظيمات التابعة للتيار الشيرازي نتيجة اضطراب العلاقة مع إيران، وأصبح التيار يعتمد على المعونات المالية التي تصل من قرويي الشيعة في السعودية والبحرين، ومن ميسوري الشيعة الموالين للتيار في سلطنة عمان وفي الكويت. كانت السعودية هي المصدر الأهم في التمويل، وكانت الموارد المالية التي تصل إلى التيار، توضع تحت تصرف محمد تقي المدرسي الذي مَكَّن فصيل البحرين من تلك الأموال، الأمر الذي جعل العناصر القيادية السعودية تراجع تموضعها في التيار. هذا إلى جانب المتغيرات السياسية العالمية، التي كان أهمها مبادرة الإصلاح السوفياتية التي بدأها ميخائيل غورباتشوف. في ضوء المستجدات والمتغيرات، بادرت قيادة منظمة الثورة الإسلامية في الجزيرة العربية، إلى الانفصال تنظيمياً عن الحركة الأم، وكف يد محمد تقي وهادي المدرسي عن الأموال التي ترد إلى الحركة من داخل السعودية. استمر هذا المخاض نحو أربعة أعوام، وانتهى في أواخر الثمانينات بأن قامت قيادة منظمة الثورة بتغيير اسم المنظمة إلى «الحركة الإصلاحية»، وغيرت اسم نشرتها الرئيسية من «مجلة الثورة الإسلامية» إلى «مجلة الجزيرة العربية». كما ظهر على صفحات المجلة الجديدة اهتمام واضح بالتراث البحري والزراعي لمنطقة الخليج السعودية، واختفت النبرة الثورية من موادها. أرسلت قيادة الحركة الإصلاحية إشارات واضحة التقطتها القيادة السعودية بسرعة، وردت عليها بتطمينات ودية. في تلك الأثناء، أعادت قيادة الحركة اكتشاف قيمة العمل المدني العلني في داخل السعودية، واكتشفت أن أنماط الوجاهة والزعامة الاجتماعية التقليدية غير محمية بأُطُرٍ حزبية، وبالتالي، فإزاحتها، والحلول محلها أمر قابل للتحقق بسهولة. انتهت عمليات تبادل الإشارات عن بعد مع القيادة السعودية إلى مسلسل طويل من الاجتماعات التفاوضية مع ممثلي الحكومة السعودية، وتوج هذا المسلسل الطويل، بلقاء حميمي جمع أمين عام الحركة وثلاثة من أعضاء لجنتها المركزية مع الملك فهد بن عبدالعزيز.
هذا اللقاء الحميم، وما أسفر عنه من نتائج إيجابية غير مسبوقة في علاقات الأنظمة العربية مع معارضاتها، أعطى وجاهة ربما تجاوزت ما حلمت به قيادة الحركة، عادت قيادة الحركة وكوادرها من الخارج، وبضمانة شخصية من الملك، لم يتعرض أحد من منسوبيها لأي مساءلة أمنية، بل إن الكوادر القيادية في الحركة عادوا تجللهم هالات الوجاهة، ومنحتهم الحكومة السعودية منحاً سخية لتعديل أوضاعهم ومساعدتهم على العيش الرغيد.
انحلت الحركة الإصلاحية كتنظيم - ظاهريا - ولكنها احتفظت بإمكاناتها الحزبية، ووظفتها في الإعلام الجديد، والعلاقات العامة، والمناشط المدنية ذات الطابع المعرفي، والثقافي، وإدارة المناسبات، وتنظيم المهرجانات، وحشد التأييد إذا لزم الأمر ذلك.
صحيح أن القطيف - كغيرها - هي مدينة طرفية بالنسبة إلى العاصمة الرياض، ويشوب علاقتها بالرياض ما يشوب علاقات المدن الطرفية بالمراكز، لكن في داخل القطيف هناك مركز وأطراف، ويحكم العلاقة بين مركزها وأطرافها ما يحكم علاقات المراكز بالأطراف في كل مكان مع فوارق تتعلق بالخصوصيات الدقيقة. بعد هذه المقدمة، من الضروري التوضيح بأن التيار الشيرازي لم يحظَ بقاعدة أتباع ذات بال في مركز منطقة القطيف الذي يعرف باسم القلعة، وأن قواعد التيار القوية وجدت مكانها في قرى المنطقة، وفي بعض الأحياء الخارجة عن محيط القلعة داخل القطيف المدينة. فيما عدا بعض القرى الساحلية التي مارس أهلها في السابق مهن البحر من غوص لاستخراج اللؤلؤ، وصيد الأسماك، ونقل البضائع بحراً، فإن غالبية قرى القطيف الشيعية قرى زراعية لا يمتلك غالبية سكانها الأراضي التي يعملون فيها، بل كانت غالبية البساتين والأراضي الزراعية في الواحة، يملكها سكان القلعة، وبعض وجهاء القرى. من الأخطاء الجسيمة التصور أن علاقة ملاك الأراضي الزراعية بالعاملين فيها تشبه علاقة السيد الإقطاعي بالأقنان. حيث إن المزارع أو الفلاح الذي يعمل في ملكية ليست له، كان يطلق عليه وصف «الشريك» أو «الأكّار»، والأكّار تعني المُسْتَأْجِر. لكن هذا لا ينفي أنه كانت هناك عقدة التفاوت الطبقي التي ليست دائماً تعني التفاوت الصارخ في القدرة المالية بين المالك والفلاح، ولكنها قد تعني أن شريحة الملاك غير مُسْتَهْلَكَة في زراعة واستخراج خيرات الأرض، وكثير من الملاك لم يكن لهم عمل سوى انتظار حصصهم من ملكياتهم الزراعية، فشريحة الملاك تتمتع بأوقات فراغ هائلة، وقد استثمر كثيرا من الملاك وقت الفراغ في الدراسات الدينية، والمطالعات المعرفية، وكتابة الشعر، وتنظيم الندوات والحلقات الثقافية المغلقة على ذوي الشأن والحيثية الاجتماعية، والتريض، والفروسية، واستخدام السلاح، إلى آخر مظاهر الوجاهة. في المقابل، كان المزارع أو الفلاح مشغولا بمراعاة الأرض ورعايتها هو وأفراد أسرته، فلا وقت لديه للتعلم والتثقف، والتأنق، وتعلم الفروسية، واقتناء السلاح، والمسامرة المعرفية. أوجد هذا الواقع تفاوتاً اجتماعياً يكاد يكون طبقياً إذا لم يفحص بحذر علمي. ترك هذا التفاوت شعور الدونية في نفسيات الفلاحين وأبنائهم، وفجر هذا الشعور طاقات أبناء القرى الزراعية أحياناً كثيرة، وعندما انحسرت أهمية الزراعة كنشاط اقتصادي رئيسي في المنطقة نتيجة اكتشاف النفط، عانى عددٌ من الملاك من الفقر في حالات أكثر من أن تحصى. بينما شق أبناء القرى طريقهم في صناعة النفط وفي الأعمال المساندة لهذه الصناعة، ثم انتهى مشوار تعبهم بانتشار التعليم، إلَّا أن الزعامات والوجاهات التقليدية بقيت من نصيب أبناء أسر الملاك التي لم يصبها الفقر، والتي استطاعت نقل الموروث الاجتماعي من جيل إلى آخر، ووفرت أسباب الحياة الكريمة لأبنائها الذين التحقوا بسلك الدراسات الدينية التي تُكْسِب المتفوق فيها مكانة اجتماعية رفيعة. من الحوادث ذات الدلالة على هذه الفرضية، أن الذي كاتب الملك عبدالعزيز عارضاً عليه الإسراع بضم القطيف إلى سلطانه، رجل دين حظي بتأييد باقي الزعامات التي اعتبرته كبيرها ومدبرها في زمن الفراغ بين الدولتين السعوديتين الثانية والثالثة، حيث كان الوجود العثماني في المنطقة يتميز بالضعف وسوء الإدارة رغم وجود قائمقام عثماني من أبناء القطيف، وينتمي إلى شريحة الملاك.
وحادثة أخرى ذات دلالة على هذه الفرضية أيضاً، أنه في عام ١٩٠٨ تعرضت واحة القطيف إلى غزو مسلح من قبل تحالف قبلي تَكّوَنَ من فخوذ بعض القبائل الضاربة في بادية القطيف، وكانت الحامية العثمانية في القطيف في أسوأ حالاتها عدداً وعدة، فلم تقم بأي جهد لحماية الواحة من الغزو، ولم يكن لدى القائمقام غير عشرة حراس بالكاد يستطيعون تأدية واجب حراسة مسكنه. وهكذا وقعت الواحة تحت سطوة القبائل الغازية لمدة سبعة أشهر، ولم تتمكن من فك حصارها ودفع الغزاة إلى خارج حدودها إلا بمبادرة مسلحة قادها رجل الدين ذاته الذي كاتب الملك عبدالعزيز بعد هذه الحوادث بنحو خمسة أعوام.
أقولها بشيء من الحذر حتى الآن، وحتى تثبت لدي علمياً، أو تنتفي، بأن كون التيار الشيرازي كان أساسه تمرداً على الزعامات الشيعية التقليدية، فقد منحه ذلك جاذبية في نفوس أبناء القرى الزراعية الشيعية في منطقة القطيف الذين وجدوا في التيار فرصة سانحة للتغيير الاجتماعي وقلب الصورة. حيث إن زعاماتهم المحلية ارتبطت عبر قرون بتلك الأنساق التقليدية في مدينة النجف، وهي بالضبط ما تمرد عليه التيار الشيرازي. انتماء المجاميع القروية إلى تيار الشيرازي لم يذهب سدى، بل أثمر انزياح المكانة والوجاهة والزعامة المحلية في المجتمع الشيعي في منطقة القطيف إلى أبناء الأطراف الزراعية، وزحفوا بقيمتهم ومكانتهم الجديدة باتجاه مركز القرار الاجتماعي، واحتلوا جزءاً كبيراً منه، وأصبحوا يُسَيّرون شأن هذا الجزء الكبير الذي نجحوا في احتلاله.
خلال قرون مضت، حيث ارتبطت الزعامة الدينية، وتداخلت مع الزعامة الاجتماعية بمعناها الأشمل، وسلمت قيادها إلى رجال دين من أبناء شريحة الملاك، تراجع دور آلية اجترار المظلومية الشيعية، ومعجم المفردات الطائفي اللازم لإبقاء جذوة المظلومية متقدة، حتى صغر حجم مجالس العزاء الحسينية، واختفت مظاهر الممارسات الطقسية من الشوارع، واقتصرت على المباني المخصصة لها التي تسمى حسينيات. بدل أن يشكل هذا الاضمحلال الطقوسي منعطفاً في طريق إعادة تقييم علاقة شيعة منطقة القطيف بجوارهم الطبيعي والتاريخي، ويمنحهم فرصة التخفف من الأثقال المذهبية، شكل مطعناً عليهم من قبل القوى الجديدة المتمثّلة في العائدين من تجربة الحزبية المذهبية الشيعية التي اتخذت من حقوق الطائفة عنواناً رئيسياً لمعارضتها نظام الحكم، فعادت الطقوسية إلى الشوارع والساحات العامة بتكاليف مادية هائلة، مدعومة بإمكانات تنظيمية-اجتماعية لافتة للنظر، حيث خبراء تقنية المعلومات، والإخراج التلفزيوني والمسرحي، والعناية الطبية، وأصول التغذية، والتصوير الجوي بطائرات بدون طيار، وتنظيم وإدارة المسيرات التي يبلغ حجم بعضها عشرات الآلاف. اللافت للنظر أكثر هو أن القوام الرئيسي لهذه الفعاليات والمناشط يتكون من الشرائح الشابة بين سن ١٥ إلى ٣٥ سنة، ولا يبدو على غالبيتهم سَمْت التدين خارج هذه التجمعات، إذ لو قابلت أحدهم في أي موقع آخر، فلن تفرق بينه وبين أي شاب آخر على الكوكب من نفس الشريحة العمرية، من حيث الملبس، والاهتمامات، وقصة الشعر، ونوع الطعام المفضل، والاستماع إلى الموسيقى الرائجة عربية كانت أم غربية، وبذل الجهد في الظهور بمظهر جذاب إلى الجنس الآخر، إلى آخر علامات التشابه مع باقي الشباب العصري.
هذه الظاهرة تحتاج إلى دراسة جادة بإمكانات ملائمة لكي تفهم على نحو سليم يؤدي إلى تفكيكها بطريقة علمية مع بذل كل الجهد اللازم للحد من حجم الخسائر التي قد تترتب عن عملية التفكيك.
*كاتب سعودي