البطالة التي تفترس أحلام شبابنا وتحرم بلادنا من مساهمتهم ومشاركتهم في بناء مستقبلهم ومستقبل وطنهم ليست بسبب عدم قدرة الاقتصاد السعودي على خلق وظائف جيدة ولكن بسبب الإغراق المحموم للسوق السعودية بالعمالة الأجنبية مُنخفضة الأجر إذا جاز لي التعبير. هذا دفع القطاع الخاص لتفضيل اليد العمالة الأجنبية لسهولة التحكم فيها (نظام الكفالة) وقلة تكلفتها في ظل غياب إستراتيجية وطنية واضحة لتمكين أبنائنا من مفاصل الاقتصاد الوطني بقوة القانون وحمايتهم ودفعهم لمراكز القرار. لهذا نجد أن قطاعين مهمين في الاقتصاد السعودي مُسيطر عليهما من قبل العمالة الأجنبية ولا يستفيد الاقتصاد الوطني منهما بشيء يذكر، وهذان القطاعان هما: قطاع تجارة التجزئة بجميع أنواعها التي تقبع تحت قبضة «التستر التجاري» الذي ينخر في جسد الاقتصاد السعودي وسوق العمل، وخاصة في القطاع الخاص الذي ظل اختراقه عصياً على اليد العاملة الوطنية لأسباب عدة لعل من أهمها نظام الكفالة وانخفاض تكلفة اليد العاملة الأجنبية وتكتلاتها التي أضحت تسيطر على مفاصل القرار في القطاع الخاص.
حتى نضع هذا الأمر في سياقه الطبيعي فربما من الأفضل مقارنة اقتصادنا الوطني باقتصاد إحدى الدول المتقدمة التي يكون اقتصادها أكبر حجماً وأكثر عمقاً ونضوجاً من الاقتصاد السعودي من باب مقارنة الأضداد لكي تتضح الصورة للقارئ الكريم ولصانعي القرار. يمثل الاقتصاد السعودي أقل من 1% من إجمالي الاقتصاد العالمي ويبلغ عدد سكان المملكة حسب آخر إحصاء نحو 32 مليون نسمة وعدد العمالة الأجنبية النظامية في حدود 12.5 مليون أي نحو 40% من إجمالي عدد السكان. أما العمالة الأجنبية غير النظامية فلا أحد يعرف حجمها على وجه التحديد ولكن يُقال إنها تراوح بين مليونين وأربعة ملايين نسمة (تقديرات تنقصها الدقة). وفقاً لأرقام الهيئة العامة للإحصاء، يبلغ معدل البطالة بين السعوديين بشكل عام 12.8% بينما معدل البطالة بين الشباب من الجنسين الذين تراوح أعمارهم بين 25 و30 سنة والذين هم عماد قوة الاقتصاد الوطني وصمام الأمان لمستقبله بعد الله سبحانه وتعالى يتجاوز 30%. بالإضافة إلى ذلك المجتمع السعودي مجتمع شاب بكل المقاييس فمتوسط عمر السعوديين لا يكاد يصل إلى 26 عاماً ونحو 70% من السعوديين لا تتجاوز أعمارهم 35 عاماً ونسبة من تجاوزوا سن العمل في المجتمع السعودي أقل من 3.5%. مع هذا نصر على فتح الباب على مصراعيه لإغراق سوق العمل بالعمالة الأجنبية وباستمرار نبحث عن طرق جديدة لزيادة غزو هذه العمالة لسوقنا المحلية.
بعد استعراض بعض المعلومات المختصرة عن الاقتصاد السعودي فلربما يكون الاقتصاد الأمريكي الأكثر ملاءمة للمقارنة لعدة أسباب لعل أهمها حجم الاقتصاد الأمريكي وانفتاحيته مقارنةً بالاقتصاديات المتقدمة الأخرى. الاقتصاد الأمريكي يمثل نحو 25% من الاقتصاد العالمي وعدد سكان أمريكا نحو 330 مليون نسمة ومتوسط العمر نحو 39 عاماً، بينما تبلغ نسبة السكان الذين تجاوزوا سن العمل في حدود 16% من العدد الإجمالي للسكان ومعدل البطالة 4.4%. لكي نقارن أثر إغراق سوق العمل باليد العاملة الأجنبية قليلة التكلفة على كل من سوق العمل الأمريكية وسوق العمل السعودية، دعنا نفرض أن أمريكا على عظمتها سمحت باستقدام 132 مليون عامل من دول العالم الثالث. هذا الرقم يمثل 40% من إجمالي عدد سكان أمريكا البالغ 330 مليون نسمة. فكيف سيكون أثر هذا الرقم الضخم على سوق العمل الأمريكية؟ هل سيبقى مستوى الأجور في السوق الأمريكية على ما هو عليه؟ هل سيجد الأمريكي عملا يستطيع معه العيش والمحافظة على مستوى معيشته؟ هل ستبقى طبقة متوسطة في أمريكا؟ بل هل ستبقى أمريكا قائدة للعالم الأول؟ بكل تأكيد سينزل مستوى الأجور إلى الحضيض ومعظم الوظائف إن لم تكن جميعها ستذهب لليد العاملة الأجنبية منخفضة التكلفة، وكنتيجة لهذا الإغراق ستختفي الطبقة الوسطى التي هي عمود سنام الاقتصاد الأمريكي ومحركه الأساسي، وهذا بدوره ستكون له آثار كبيرة على الاقتصاد الأمريكي وعلى مكانة أمريكا في الاقتصاد العالمي.
الدول المتقدمة أدركت أهمية الطبقة الوسطى كركيزة أساسية لاقتصادياتها المحلية ولذلك تبنت هذه الدول العديد من السياسات الاقتصادية لتنمية الطبقة الوسطى وحمايتها من التآكل ومن أهم هذه السياسات حماية سوق العمل من المنافسة غير العادلة وخاصة من اليد العاملة الأجنبية الرخيصة. فعلى سبيل المثال وليس الحصر، تأشيرات العمل الأمريكية التي تسمى H-1B visa محددة بـ 65 ألف تأشيرة وتصدر مرة واحدة فقط في السنة ومن قبل الكونغرس الأمريكي (لحمايتها من التلاعب) + 20 ألف تأشيرة في السنة مخصصة لخريجي البرامج العليا من جامعات أمريكا. فأمريكا على عظمة اقتصادها أدركت خطر إغراق سوق العمل على الاقتصاد الأمريكي لهذا لجأت إلى سن القوانين الفاعلة لحمايتة من الإغراق. بهذا جعلت فرصة العمل حقا مُكتسبا ابتداءً للمواطن الأمريكي وتوظيف وتدريب الأمريكيين واجبا على صاحب كل عمل.
من هذه المقارنة يتضح للقارئ الكريم أن السبب الحقيقي لبطالة أبنائنا ليس «البطالة الاختيارية أو مخرجات تعليمنا السيئة» مثلما يروج له تجار التأشيرات، بل «الإغراق» المحموم لسوق العمل بالعمالة الأجنبية منخفضة التكاليف. هذه هي الحقيقة المجرده التي يجب علينا جميعاً كمواطنين ومهتمين بالشأن العام وصناع قرار إدراكها وفهمها جيداً.
لا أعتقد أن وزاراتنا المعنية تدرك هذه الحقيقة. فطالما لم ندرك هذه الحقيقة فلن يتغير شيء. فسياسة أرباع وأنصاف الحلول والمحاولات الفردية الخجولة غير المرتبطة باستراتيجية وطنية شاملة لن تجدي وكذلك لا أعتقد أن وزارة العمل لديها إستراتيجية واضحة لحل هذه المشكلة.
الحل من وجهة نظري يكمن في تبني إستراتيجية وطنية شاملة للاستثمار في أبنائنا وتمكينهم من مفاصل الاقتصاد الوطني بقوة القانون وحمايتهم من المنافسة غير العادلة ويمكن تسمية هذه الإستراتيجية «إستراتيجية التمكين» وهذه الإستراتيجية يجب أن يشارك فيها الجميع وخاصة الوزارات والهيئات والإدارات الحكومية المختلفة وأن يتبنى القطاع العام بأسره تنفيذ هذه الإستراتيجية والخطوط العريضة لهذه الإستراتيجية يمكن تلخيصها في المبادئ الأربعة الآتية:
المبدأ الأول:
أولاً: كل وظيفة في الاقتصاد الوطني هي حق مُكتسب ابتداءً
للمواطن السعودي، ويجب أن لا تعطى تأشيرة استقدام على هذه الوظائف إلا إذا ثبت أنه لا يوجد سعوديون مؤهلون للقيام بهذه الوظائف.
ثانياً: يجب أن لا يتم تجديد أي عقود عمل لإخواننا الوافدين إلا إذا ثبت أنه لا يوجد بين الباحثين عن العمل سعوديون مؤهلون للقيام بهذه الوظائف وهذا المبدأ يمكن تطبيقه والتحقق منه ببساطة.
ثالثاً: يجب تحديد إقامة إخواننا الوافدين بسنتين قابلة للتمديد لمرة واحدة فقط. وهذا سيحرر سوق العمل ويحد من قضية التستر التجاري والجرائم المالية.
رابعاً: يمكن عمل بعض الاستثناءات المحدودة للفقرتين الثانية والثالثة وخاصة للوظائف والكفاءات النادرة مثل الأطباء وأساتذة الجامعات المميزين، على أن تدرس هذا الاستثناءات بشكل سنوي من قبل مجلس الشورى ومن ثم يتم رفعها للمقام السامي.
المبدأ الثاني:
أولاً: التركيز على توطين الوظائف بالتزامن مع توطين القطاعات
وترحيل عمالة القطاعات أو الوظائف التي يشملها التوطين. لماذا الوظائف؟ الوظائف سهل حصرها وسهل حصر الباحثين عن العمل والخريجين، وكذلك سهل حصر الوظائف التي لا يرغب السعوديون فيها مثل الوظائف الخدمية الدنيا. هذا يسهل عملية التخطيط والإحلال. معظم الوظائف العليا والمتوسطة مثل الوظائف المالية والإدارية والبيع وخلافه فيجب سعودتها بالكامل؛ لأنه يوجد سعوديون مؤهلون للقيام بها. كذلك توجد وظائف لا تحتاج إلى تخصص جامعي وإنما ثانوية عامة على أقل تقدير بالإضافة إلى تدريب لا يتجاوز 4-6 أشهر مثل معظم وظائف التأمين والبيع والوظائف المتوسطة الأخرى. فهذا النوع من الوظائف يجب سعودته بالكامل وتهيئة الكوادر الوطنية له من خلال التدريب الذي يجب أن يتبناه صندوق الموارد البشرية وخاصة في المراحل الأولى للتوطين ولكن عند استقرار برنامج التوطين وجفاف صنبور الاستقدام سنجد الشركات السعودية تتسابق على استقطاب الكفاءات الوطنية وتأهيلها لأنه ليس أمامها بديل آخر.
ثانياً: في ما يخص الوظائف والكوادر الفنية مثل فني الأجهزة والكهرباء والمكيفات وجميع الحرف الفنية بما فيها فني المصانع المحلية فيمكن توطينها من خلال «شراكة بين كليات التقنية والقطاع الخاص» في فترة زمنية لا تتجاوز 3-5 سنوات. كيف؟ شركة الكهرباء لديها تجربة ممتازة في تأهيل الكوادر الوطنية في معهد التدريب الذي أسسته الشركة لهذا الغرض. وفق أحد كبار موظفي الشركة الذي تحدثت معه شخصياً، نحو 60% من الكوادر العاملة في شركة الكهرباء من خريجي هذا المعهد. هذه التجربة الوطنية الناجحة يمكن تطبيقها على المهن والوظائف الفنية التي يحتاجها القطاع الخاص من خلال برنامج الشراكة المشار إليه. كمثال ممكن تتفق وزارة العمل مع إحدى شركات صناعة المكيفات المحلية حول حاجتهم من الفنيين والمهارات التي يحتاجونها في هؤلاء الفنيين ومن ثم يتم تصمم برنامج خاص بالشركة بالتعاون مع كليات التقنية التي تتولى تنفيذه تحت إشراف وتوجيه الشركة؛ بشرط أن تقوم الشركة بسعودة جميع فنييها خلال فترة لا تتجاوز 3-5 سنوات. هذه الشراكة يمكن تطبيقها مع جميع الشركات السعودية وعلى جميع المهن التي يمكن إحلال السعوديين فيها.
المبدأ الثالث:
إنشاء صناعات وشركات وطنية عملاقة على غرار سابك
والكهرباء والاتصالات والبنوك وقصرها على السعوديين تدريباً وتوظيفاً ولا بأس بالاستعانة بالخبرات الأجنبية النادرة التي لا تتوافر في اليد العاملة الوطنية على أن تكون هناك خطة لتأهيل الكوادر الوطنية في هذه التخصصات في فترة زمنية محددة ومعلنة.
صندوق الاستثمارات العامة ربما يكون هو الخيار الأمثل لهذه المشاريع، وقد تكون هناك شراكة مع القطاع الخاص ولكن الشريك الرئيسي يجب أن يكون القطاع العام وذلك لسببين رئيسيين:
أولاً: هذه المشاريع والصناعات العملاقة تحتاج إلى رساميل جبارة ربما لا يستطيع القطاع الخاص لوحده توفيرها.
ثانياً: العائد على هذه الاستثمارات قد يأخذ فترة طويلة تمتد إلى قرابة العشر سنوات والقطاع الخاص ربما لا يستطيع تحمل طول هذه الفترة. وبعد إنشاء هذه الشركات ووقوفها على قدميها يمكن طرحها للاكتتاب العام. هذه المشاريع والصناعات العملاقة سيكون لها بالغ الأثر على الاقتصاد الوطني حيث ستحدث نقلة نوعية في الاقتصاد الوطني وكذلك كل ريال يصرف على هذه المشاريع سيجلب للاقتصاد السعودي أكثر من عشرة أضعافه بالإضافة إلى توفير التدريب والتوظيف لملايين السعوديين.
المبدأ الرابع:
أولاً: إستراتيجية التمكين يجب أن تكون ركيزة من الركائز
الأساسية لسياسات الدولة العامة بحيث يلتزم القطاع العام بجميع مكوناته بتنفيذها ويكون مسؤولاً عن تحقيق أهدافها أمام الملك -يحفظه الله-.
ثانياً: لكي نتلافى أخطاء الماضي يجب ربط إستراتيجية التمكين بشعار «تستثمر في السعودي استثمر فيك». اليوم وبعد عقود من الدعم السخي نسبة التوطين في القطاع الخاص لا تتجاوز 17% حسب الإحصاءات الرسمية ونحو 45% من السعوديين العاملين في القطاع الخاص لا تتجاوز مرتباتهم ثلاثة آلاف ريال مما يوحي بأن هذه الوظائف خليط بين السعودة الوهمية وتوظيف إعانات صندوق الموارد. من هذا يمكن الاستنتاج بأن السعودة الحقيقية في القطاع الخاص قد لا تتجاوز 12% وإذا تم استبعاد الشركات الكبيرة التي أنشأتها الدولة أو تمتلك فيها حصصا مُسيطرة مثل شركة سابك والكهرباء والاتصالات والبنوك فقد لا تتجاوز نسبة السعودة في القطاع الخاص 6%. هذا يقودنا للسؤال التالي: أين ذهبت مليارات المال العام التي وجهت لدعم القطاع الخاص خلال العقود الماضية؟ من المستفيد الحقيقي من هذه المليارات التي كنا ندفعها عن حسن نية ونتوقع بأننا نستثمر في الاقتصاد السعودي؟ الحقيقة التي يجب أن نعترف بها جميعاً حتى لا نعيد تكرارها في المستقبل هي أن المستفيدين من دعم مليارات المال العام خلال هذه العقود هم مجموعتان فقط: التجار والعمالة الأجنبية؛ بمعنى آخر الاقتصاد الوطني لم يستفد شيئا يذكر. هذه المليارات كانت تنفق على أمل تنمية الاقتصاد السعودي ولكن ذهبت المليارات ولم يتحقق الأمل وهذه طبيعة السياسات غير المرتبطة بأهداف إستراتيجية محددة يمكن قياسها وتصحيحها إذا لزم الأمر.
ثالثاً: إستراتيجية التمكين يحب أن تُربط بنظام المنافسات والعقود والمشتريات الحكومية؛ فمثلاً لا يقبل دخول أي شركة في المنافسات على المشاريع والمشتريات الحكومية ما لم تتجاوز نسبة التوطين فيها 60% من الوظائف المستهدفة بالتوطين. ليس هذا فحسب بل يجب أن تعطى الأفضلية في عقود المشاريع والمشتريات الحكومية على أساس نسبة السعودة. فالشركة التي نسبة السعودة فيها تتجاوز 90% تكون أفضل حظاً في الفوز بالعقود من الشركة التي لا تتجاوز نسبة السعودة فيها 80% على سبيل المثال.
حتى نضع هذا الأمر في سياقه الطبيعي فربما من الأفضل مقارنة اقتصادنا الوطني باقتصاد إحدى الدول المتقدمة التي يكون اقتصادها أكبر حجماً وأكثر عمقاً ونضوجاً من الاقتصاد السعودي من باب مقارنة الأضداد لكي تتضح الصورة للقارئ الكريم ولصانعي القرار. يمثل الاقتصاد السعودي أقل من 1% من إجمالي الاقتصاد العالمي ويبلغ عدد سكان المملكة حسب آخر إحصاء نحو 32 مليون نسمة وعدد العمالة الأجنبية النظامية في حدود 12.5 مليون أي نحو 40% من إجمالي عدد السكان. أما العمالة الأجنبية غير النظامية فلا أحد يعرف حجمها على وجه التحديد ولكن يُقال إنها تراوح بين مليونين وأربعة ملايين نسمة (تقديرات تنقصها الدقة). وفقاً لأرقام الهيئة العامة للإحصاء، يبلغ معدل البطالة بين السعوديين بشكل عام 12.8% بينما معدل البطالة بين الشباب من الجنسين الذين تراوح أعمارهم بين 25 و30 سنة والذين هم عماد قوة الاقتصاد الوطني وصمام الأمان لمستقبله بعد الله سبحانه وتعالى يتجاوز 30%. بالإضافة إلى ذلك المجتمع السعودي مجتمع شاب بكل المقاييس فمتوسط عمر السعوديين لا يكاد يصل إلى 26 عاماً ونحو 70% من السعوديين لا تتجاوز أعمارهم 35 عاماً ونسبة من تجاوزوا سن العمل في المجتمع السعودي أقل من 3.5%. مع هذا نصر على فتح الباب على مصراعيه لإغراق سوق العمل بالعمالة الأجنبية وباستمرار نبحث عن طرق جديدة لزيادة غزو هذه العمالة لسوقنا المحلية.
بعد استعراض بعض المعلومات المختصرة عن الاقتصاد السعودي فلربما يكون الاقتصاد الأمريكي الأكثر ملاءمة للمقارنة لعدة أسباب لعل أهمها حجم الاقتصاد الأمريكي وانفتاحيته مقارنةً بالاقتصاديات المتقدمة الأخرى. الاقتصاد الأمريكي يمثل نحو 25% من الاقتصاد العالمي وعدد سكان أمريكا نحو 330 مليون نسمة ومتوسط العمر نحو 39 عاماً، بينما تبلغ نسبة السكان الذين تجاوزوا سن العمل في حدود 16% من العدد الإجمالي للسكان ومعدل البطالة 4.4%. لكي نقارن أثر إغراق سوق العمل باليد العاملة الأجنبية قليلة التكلفة على كل من سوق العمل الأمريكية وسوق العمل السعودية، دعنا نفرض أن أمريكا على عظمتها سمحت باستقدام 132 مليون عامل من دول العالم الثالث. هذا الرقم يمثل 40% من إجمالي عدد سكان أمريكا البالغ 330 مليون نسمة. فكيف سيكون أثر هذا الرقم الضخم على سوق العمل الأمريكية؟ هل سيبقى مستوى الأجور في السوق الأمريكية على ما هو عليه؟ هل سيجد الأمريكي عملا يستطيع معه العيش والمحافظة على مستوى معيشته؟ هل ستبقى طبقة متوسطة في أمريكا؟ بل هل ستبقى أمريكا قائدة للعالم الأول؟ بكل تأكيد سينزل مستوى الأجور إلى الحضيض ومعظم الوظائف إن لم تكن جميعها ستذهب لليد العاملة الأجنبية منخفضة التكلفة، وكنتيجة لهذا الإغراق ستختفي الطبقة الوسطى التي هي عمود سنام الاقتصاد الأمريكي ومحركه الأساسي، وهذا بدوره ستكون له آثار كبيرة على الاقتصاد الأمريكي وعلى مكانة أمريكا في الاقتصاد العالمي.
الدول المتقدمة أدركت أهمية الطبقة الوسطى كركيزة أساسية لاقتصادياتها المحلية ولذلك تبنت هذه الدول العديد من السياسات الاقتصادية لتنمية الطبقة الوسطى وحمايتها من التآكل ومن أهم هذه السياسات حماية سوق العمل من المنافسة غير العادلة وخاصة من اليد العاملة الأجنبية الرخيصة. فعلى سبيل المثال وليس الحصر، تأشيرات العمل الأمريكية التي تسمى H-1B visa محددة بـ 65 ألف تأشيرة وتصدر مرة واحدة فقط في السنة ومن قبل الكونغرس الأمريكي (لحمايتها من التلاعب) + 20 ألف تأشيرة في السنة مخصصة لخريجي البرامج العليا من جامعات أمريكا. فأمريكا على عظمة اقتصادها أدركت خطر إغراق سوق العمل على الاقتصاد الأمريكي لهذا لجأت إلى سن القوانين الفاعلة لحمايتة من الإغراق. بهذا جعلت فرصة العمل حقا مُكتسبا ابتداءً للمواطن الأمريكي وتوظيف وتدريب الأمريكيين واجبا على صاحب كل عمل.
من هذه المقارنة يتضح للقارئ الكريم أن السبب الحقيقي لبطالة أبنائنا ليس «البطالة الاختيارية أو مخرجات تعليمنا السيئة» مثلما يروج له تجار التأشيرات، بل «الإغراق» المحموم لسوق العمل بالعمالة الأجنبية منخفضة التكاليف. هذه هي الحقيقة المجرده التي يجب علينا جميعاً كمواطنين ومهتمين بالشأن العام وصناع قرار إدراكها وفهمها جيداً.
لا أعتقد أن وزاراتنا المعنية تدرك هذه الحقيقة. فطالما لم ندرك هذه الحقيقة فلن يتغير شيء. فسياسة أرباع وأنصاف الحلول والمحاولات الفردية الخجولة غير المرتبطة باستراتيجية وطنية شاملة لن تجدي وكذلك لا أعتقد أن وزارة العمل لديها إستراتيجية واضحة لحل هذه المشكلة.
الحل من وجهة نظري يكمن في تبني إستراتيجية وطنية شاملة للاستثمار في أبنائنا وتمكينهم من مفاصل الاقتصاد الوطني بقوة القانون وحمايتهم من المنافسة غير العادلة ويمكن تسمية هذه الإستراتيجية «إستراتيجية التمكين» وهذه الإستراتيجية يجب أن يشارك فيها الجميع وخاصة الوزارات والهيئات والإدارات الحكومية المختلفة وأن يتبنى القطاع العام بأسره تنفيذ هذه الإستراتيجية والخطوط العريضة لهذه الإستراتيجية يمكن تلخيصها في المبادئ الأربعة الآتية:
المبدأ الأول:
أولاً: كل وظيفة في الاقتصاد الوطني هي حق مُكتسب ابتداءً
للمواطن السعودي، ويجب أن لا تعطى تأشيرة استقدام على هذه الوظائف إلا إذا ثبت أنه لا يوجد سعوديون مؤهلون للقيام بهذه الوظائف.
ثانياً: يجب أن لا يتم تجديد أي عقود عمل لإخواننا الوافدين إلا إذا ثبت أنه لا يوجد بين الباحثين عن العمل سعوديون مؤهلون للقيام بهذه الوظائف وهذا المبدأ يمكن تطبيقه والتحقق منه ببساطة.
ثالثاً: يجب تحديد إقامة إخواننا الوافدين بسنتين قابلة للتمديد لمرة واحدة فقط. وهذا سيحرر سوق العمل ويحد من قضية التستر التجاري والجرائم المالية.
رابعاً: يمكن عمل بعض الاستثناءات المحدودة للفقرتين الثانية والثالثة وخاصة للوظائف والكفاءات النادرة مثل الأطباء وأساتذة الجامعات المميزين، على أن تدرس هذا الاستثناءات بشكل سنوي من قبل مجلس الشورى ومن ثم يتم رفعها للمقام السامي.
المبدأ الثاني:
أولاً: التركيز على توطين الوظائف بالتزامن مع توطين القطاعات
وترحيل عمالة القطاعات أو الوظائف التي يشملها التوطين. لماذا الوظائف؟ الوظائف سهل حصرها وسهل حصر الباحثين عن العمل والخريجين، وكذلك سهل حصر الوظائف التي لا يرغب السعوديون فيها مثل الوظائف الخدمية الدنيا. هذا يسهل عملية التخطيط والإحلال. معظم الوظائف العليا والمتوسطة مثل الوظائف المالية والإدارية والبيع وخلافه فيجب سعودتها بالكامل؛ لأنه يوجد سعوديون مؤهلون للقيام بها. كذلك توجد وظائف لا تحتاج إلى تخصص جامعي وإنما ثانوية عامة على أقل تقدير بالإضافة إلى تدريب لا يتجاوز 4-6 أشهر مثل معظم وظائف التأمين والبيع والوظائف المتوسطة الأخرى. فهذا النوع من الوظائف يجب سعودته بالكامل وتهيئة الكوادر الوطنية له من خلال التدريب الذي يجب أن يتبناه صندوق الموارد البشرية وخاصة في المراحل الأولى للتوطين ولكن عند استقرار برنامج التوطين وجفاف صنبور الاستقدام سنجد الشركات السعودية تتسابق على استقطاب الكفاءات الوطنية وتأهيلها لأنه ليس أمامها بديل آخر.
ثانياً: في ما يخص الوظائف والكوادر الفنية مثل فني الأجهزة والكهرباء والمكيفات وجميع الحرف الفنية بما فيها فني المصانع المحلية فيمكن توطينها من خلال «شراكة بين كليات التقنية والقطاع الخاص» في فترة زمنية لا تتجاوز 3-5 سنوات. كيف؟ شركة الكهرباء لديها تجربة ممتازة في تأهيل الكوادر الوطنية في معهد التدريب الذي أسسته الشركة لهذا الغرض. وفق أحد كبار موظفي الشركة الذي تحدثت معه شخصياً، نحو 60% من الكوادر العاملة في شركة الكهرباء من خريجي هذا المعهد. هذه التجربة الوطنية الناجحة يمكن تطبيقها على المهن والوظائف الفنية التي يحتاجها القطاع الخاص من خلال برنامج الشراكة المشار إليه. كمثال ممكن تتفق وزارة العمل مع إحدى شركات صناعة المكيفات المحلية حول حاجتهم من الفنيين والمهارات التي يحتاجونها في هؤلاء الفنيين ومن ثم يتم تصمم برنامج خاص بالشركة بالتعاون مع كليات التقنية التي تتولى تنفيذه تحت إشراف وتوجيه الشركة؛ بشرط أن تقوم الشركة بسعودة جميع فنييها خلال فترة لا تتجاوز 3-5 سنوات. هذه الشراكة يمكن تطبيقها مع جميع الشركات السعودية وعلى جميع المهن التي يمكن إحلال السعوديين فيها.
المبدأ الثالث:
إنشاء صناعات وشركات وطنية عملاقة على غرار سابك
والكهرباء والاتصالات والبنوك وقصرها على السعوديين تدريباً وتوظيفاً ولا بأس بالاستعانة بالخبرات الأجنبية النادرة التي لا تتوافر في اليد العاملة الوطنية على أن تكون هناك خطة لتأهيل الكوادر الوطنية في هذه التخصصات في فترة زمنية محددة ومعلنة.
صندوق الاستثمارات العامة ربما يكون هو الخيار الأمثل لهذه المشاريع، وقد تكون هناك شراكة مع القطاع الخاص ولكن الشريك الرئيسي يجب أن يكون القطاع العام وذلك لسببين رئيسيين:
أولاً: هذه المشاريع والصناعات العملاقة تحتاج إلى رساميل جبارة ربما لا يستطيع القطاع الخاص لوحده توفيرها.
ثانياً: العائد على هذه الاستثمارات قد يأخذ فترة طويلة تمتد إلى قرابة العشر سنوات والقطاع الخاص ربما لا يستطيع تحمل طول هذه الفترة. وبعد إنشاء هذه الشركات ووقوفها على قدميها يمكن طرحها للاكتتاب العام. هذه المشاريع والصناعات العملاقة سيكون لها بالغ الأثر على الاقتصاد الوطني حيث ستحدث نقلة نوعية في الاقتصاد الوطني وكذلك كل ريال يصرف على هذه المشاريع سيجلب للاقتصاد السعودي أكثر من عشرة أضعافه بالإضافة إلى توفير التدريب والتوظيف لملايين السعوديين.
المبدأ الرابع:
أولاً: إستراتيجية التمكين يجب أن تكون ركيزة من الركائز
الأساسية لسياسات الدولة العامة بحيث يلتزم القطاع العام بجميع مكوناته بتنفيذها ويكون مسؤولاً عن تحقيق أهدافها أمام الملك -يحفظه الله-.
ثانياً: لكي نتلافى أخطاء الماضي يجب ربط إستراتيجية التمكين بشعار «تستثمر في السعودي استثمر فيك». اليوم وبعد عقود من الدعم السخي نسبة التوطين في القطاع الخاص لا تتجاوز 17% حسب الإحصاءات الرسمية ونحو 45% من السعوديين العاملين في القطاع الخاص لا تتجاوز مرتباتهم ثلاثة آلاف ريال مما يوحي بأن هذه الوظائف خليط بين السعودة الوهمية وتوظيف إعانات صندوق الموارد. من هذا يمكن الاستنتاج بأن السعودة الحقيقية في القطاع الخاص قد لا تتجاوز 12% وإذا تم استبعاد الشركات الكبيرة التي أنشأتها الدولة أو تمتلك فيها حصصا مُسيطرة مثل شركة سابك والكهرباء والاتصالات والبنوك فقد لا تتجاوز نسبة السعودة في القطاع الخاص 6%. هذا يقودنا للسؤال التالي: أين ذهبت مليارات المال العام التي وجهت لدعم القطاع الخاص خلال العقود الماضية؟ من المستفيد الحقيقي من هذه المليارات التي كنا ندفعها عن حسن نية ونتوقع بأننا نستثمر في الاقتصاد السعودي؟ الحقيقة التي يجب أن نعترف بها جميعاً حتى لا نعيد تكرارها في المستقبل هي أن المستفيدين من دعم مليارات المال العام خلال هذه العقود هم مجموعتان فقط: التجار والعمالة الأجنبية؛ بمعنى آخر الاقتصاد الوطني لم يستفد شيئا يذكر. هذه المليارات كانت تنفق على أمل تنمية الاقتصاد السعودي ولكن ذهبت المليارات ولم يتحقق الأمل وهذه طبيعة السياسات غير المرتبطة بأهداف إستراتيجية محددة يمكن قياسها وتصحيحها إذا لزم الأمر.
ثالثاً: إستراتيجية التمكين يحب أن تُربط بنظام المنافسات والعقود والمشتريات الحكومية؛ فمثلاً لا يقبل دخول أي شركة في المنافسات على المشاريع والمشتريات الحكومية ما لم تتجاوز نسبة التوطين فيها 60% من الوظائف المستهدفة بالتوطين. ليس هذا فحسب بل يجب أن تعطى الأفضلية في عقود المشاريع والمشتريات الحكومية على أساس نسبة السعودة. فالشركة التي نسبة السعودة فيها تتجاوز 90% تكون أفضل حظاً في الفوز بالعقود من الشركة التي لا تتجاوز نسبة السعودة فيها 80% على سبيل المثال.