-A +A
صدقة يحيى فاضل
كانت مأساة 1967 الفأس التي قصمت ظهر الأمة العربية... ورمت بها في مزيد من الفرقة، والضعف والانكسار والتخلف والهوان. ويخطئ من يدعي أن حرب 1973 قد شفت العرب من تلك النازلة الكبرى... فما زال عربنا يعانون مر الأمرين من كارثة 1967... ولا أظن أن عاقلا يمكن أن يدعي أي «بطولة» في سنة 1967، كما ادعى بعض محترفي التهريج والمغالطات. أما «البطولة» العربية التي تحققت في عام 1973 فكانت مثقال ذرة. إذ كانت محدودة وضيقة، بل وقاصرة... خاصة بعد أن تمخضت عنها اتفاقية «كامب ديفيد»... التي مكنت لإسرائيل – بقوة وبزخم أكبر مما مضى – النمو والتوسع، واكتساب «شرعية» دولية واسعة، ومواصلة مشروعها الصهيوني البغيض... الذى يستهدف كل العرب، وفى مقدمتهم مصر.

وليت أحداث العقود العربية السبعة الماضية تعلم أغلبنا الدرس الذي لم يستوعب بعد، وخلاصته: ضرورة قيام المصلحين العرب – أينما وجدوا – بالعمل على إدخال بلادهم إلى العصر... عبر الأخذ بوسائل التقدم التي أخذت بها الأمم النابهة، وفى مقدمة ذلك: الإصلاح الديني والفكري الحقيقي، والمؤسساتية السياسية، التي – إن تم تبنيها في الواقع الفعلي – تمهد الطريق للنهوض والتقدم السليمين في كل مجالات الحياة، وتكسب الآخذين بها القوة الدولية التي تتناسب والإمكانات الفعلية لهم.


ومن ثم يمكن السعي – السليم والمدروس – لاحقا، نحو الاتحاد العربي، وتكوين تكتل عربي قوي ومتماسك، يضمن تبنيه بالفعل القوة والرفعة. ويمكن – بل يجب – أن يرتبط التكتل العربي المرجو بتحالف إستراتيجي مع من يرغب من البلاد الإسلامية... لتكون للجميع كلمة – موحدة أو شبه موحدة – مسموعة على الساحتين الإقليمية والعالمية... تمكن هذه الأمة من حماية ولو الحد الأدنى من حقوقها المشروعة.

***

تلك أمانٍ... ما زالت أحلاما... بل إن هذه التطلعات أصبحت (في الوقت الحاضر) في عداد المستحيلات... بسبب تدهور معظم الوضع العربي وتحوله، يوميا، من سيئ لأسوأ، وازدياد سطوة المذهبية والطائفية، وشوكة أعداء هذه الأمة، وفى مقدمتهم الكيان الصهيوني الغاصب. لقد تراجعت الطموحات العربية اليوم وتواضعت كثيرا... بعد أن عز حتى الأمن والبقاء...!

إذ نرى في الأفق الآن تمكن التحالف الصهيوني – الاستعماري، المدعوم (صراحة وضمنا) بالإرهاب والتطرف والاستبداد والطائفية والمذهبية، وهو يوشك على تحقيق أولى خطوات مشروعه الكبير ضد العروبة والإسلام... هذا المشروع الذي يتجسد في: استتباب إسرائيل كقوة إقليمية عظمى ضاربة... تهيمن على كل المنطقة... بعد أن تقسم معظم بلادها، وتحيلها إلى دويلات منهكة مستضعفة، لا حول لها ولا قوة... يأتمر أغلبها بأوامر وتوجيهات تل أبيب.

***

حتى تل أبيب قد لا تستمر عاصمة للكيان الصهيوني، فقد أوشكت مدينة القدس الشريف أن تكون هي العاصمة، وأن تنطلق منها كل المؤامرات والتوجيهات الصهيونية، لتحكم الهيمنة على أغلب ما يحيط بها من مدائن كانت عربية. لقد حرك قرار ترمب الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، ونقل سفارته إلى هناك، المشاعر العربية والإسلامية التى كانت ساكنة... رغم أن «تهويد» القدس تواصل على قدم وساق منذ يونيو 1967! كما أن الدعم (الرسمي) الأمريكي للكيان الصهيوني كان (وما زال) دعما متزايدا منذ ذلك الحين.

وليت هذه المشاعر تظل ساكنة، طالما لن يتمخض عنها سوى: الاستنكار والشجب. ويبقى الحال على ما هو عليه، وتستمر «الهرولة» إياها...! ومع كل ذلك كان لا بد لـ«أزمة القدس» أن يكون لها رد فعل عربي/‏ إسلامي مختلف... أي أكثر فاعلية وتأثيرا من ردود الفعل العربية والإسلامية التقليدية على الاعتداءات الصهيونية، التي لا حصر لها. لا بد الآن من إجراءات عربية إسلامية ملموسة، ضد كل من يؤيد قرار ترمب اعتبار القدس عاصمة للكيان الصهيوني. وما أكثر تلك الإجراءات الممكنة... والتي يمكن أن تبدأ بـ: المقاطعة، الحصار، تجميد العلاقات أو قطعها، الانسحاب من المنظمات الدولية المتصهينة... إلخ. الأهم أن تكون العقوبات جادة، وجماعية وموجعة لمن تطالهم.

وفى رأيي، أن قضية فلسطين، والقدس بخاصة، قد بدأت تأخذ مسارا إقليميا وعالميا جديدا، بعد القرار الغبي الذى اتخذه الرئيس الأمريكي الحالي، الذى قدم بقراره خدمة كبيرة للقضية الفلسطينية، من حيث يقصد العكس. فقد هب معظم العالم لرفض قرار ترمب. واتضح ذلك جليا في تصويت «الجمعية العمومية» للأمم المتحدة... التي تمثل غالبية العالم، بعيدا عن فيتو القوى الغاشمة. وكانت النتيجة كالتالي: 128 ضد اعتبار القدس عاصمة لإسرائيل (من جانب واحد)، 9 مع اعتبار القدس عاصمة لإسرائيل (أمريكا، إسرائيل، هندوراس، جواتيمالا، توغو، ميكرونيزيا، ناورو، بالاو، مارشال)، 35 دولة امتنعت عن التصويت (مع ميلها ضد القرار).

ولكن هذا المسار الإيجابي الجديد يعني أن الكرة قد وضعت الآن في ملعب العرب... كي يحافظوا على استمرار هذا المسار، حتى يتحقق التراجع الأمريكي، وتتحقق إرادة الغالبية الدولية الساحقة في إقامة الدولة الفلسطينية، بعاصمتها القدس الشرقية. إن التفريط والتهاون في هذا الاتجاه يمثل خطرا فادحا على هذه الأمة. إذ يمكن للكيان الصهيوني هيمنة تامة على المنطقة. وغالبا ما ستكتب هذه الكارثة صك الانهيار النهائي للأمة.