الحكومات والنخب الحاكمة، بل والنظام السياسي بأكمله، في أي دولة، يتعرض لضغوط من بيئته الداخلية وكذا البيئة الخارجية (الإقليمية والدولية)، تتمثل في مطالب والتزامات من الصعب تجاهلها. في المقابل: يواجه النظام السياسي، في أي دولة، بمعضلة محدودية الموارد المتاحة والمحتملة، لمواجهة تحديات تلك الضغوط والالتزامات.
أمام محدودية الموارد، سواء كانت مادية أو اعتبارية (قيمية)، في مواجهة الضغوط الذي يتعرض لها النظام السياسي، من البيئتين الداخلية والخارجية، تنشأ مشكلة تحديد الأولويات وترتيبها. قد يعتقد البعض أن الضغوط التي تأتي من البيئة الداخلية، أشد وطأة، على النظام السياسي والدولة ككل، من تلك التي تتولد عن البيئة الخارجية. بالتالي: يكون الخيار هنا لاقتراب العزلة، ومن ثَمَّ تخصيص أكبر قدر من موارد الدولة، إن لم يكن كلها؟، للاستجابة لضغوط ومطالب البيئة الداخلية، مصدر شرعية النظام السياسي، نفسه.
في المقابل: هناك النهج التداخلي في السياسة الخارجية للدولة، الذي يُقَدِّرُ عالياً تحديات وكذا إمكانات البيئة الخارجية، ومن ثَمَّ الحاجة لتخصيص موارد أكثر لتحديات وإغراءات البيئة الخارجية.. والاستجابة لمطالبها وتحدياتها والتزاماتها. من هنا: قد يرى المواطن العادي، أن أخذ الدولة ببرنامج للمعونات الخارجية، على سبيل المثال، ومن ثَمَّ تخصيص موارد لذلك، لا يستقيم مع ما قد يعانيه المجتمع من مشكلات اقتصادية وعجز في كفاءة أجهزة الدولة لتوفير خدمات ضرورية، من الأولى إيلاء اهتمام بها من انفاق موارد من أجل نفوذ خارجي مكلف.. أو درء خطر بعيد، وفي كل الأحوال يُعد استثمارا من الصعب ضمان استعادته، دعك من احتمال توقع عائده.
هنا تختلف رؤية النخب الحاكمة، من دولة لدولة.. ومن حقبة زمنية لأخرى. منطق الدولة، في كثيرٍ من الأحيانِ يميلُ إلى مواجهة تحديات البيئة الخارجية والانجذاب تجاه نفوذ إقليمي أو وضع دولي متميز، على تخصيص موارد أكبر لمواجهة تحديات والتزامات البيئة الداخلية، حيث تتركز مصادر الشرعية السياسية. بالتبعية: تكون معضلة تخصيص أوجه إنفاق موارد الدولة أكثر تعقيداً، خاصةً، عندما يتعلق الأمر بارتباط مالية الدولة ومواردها بثروة المواطنين ودخولهم، أكثر من حال استحواذ الدولة على أدوات الإنتاج في المجتمع.. واحتكارها لثروة المجتمع. هنا يكون ضغط البيئة الداخلية على أوجه إنفاق الدولة على تحديات والتزامات البيئة الخارجية، أبعد أثراً وأشد وطأة. هذا بدوره يزيد من عدم مرونة النخب الحاكمة في تخصيص موارد أكثر لدفع تكلفة تحقيق أهداف سياسة الدولة الخارجية، مما قد يتطور إلى تهديد مباشر لأمن الدولة، نفسها.. دعك من مغبة ترك الساحة الإقليمية والدولية لمنافسين دوليين وإقليميين، يتمتعون بمرونة أكبر في الاستجابة لتحديات البيئة الخارجية.. وتحَيٌنِ فرص النفوذ الإقليمي والحضور الدولي.
في ما يتعلق بتحديات البيئة الخارجية الأمنية والإستراتيجية، لا يمكن حساب تكلفة مواجهة تلك التحديات بالمعايير الاقتصادية، ولا حتى السياسية، التي تجادل بأولوية الإنفاق على التزامات النظام السياسي الداخلية لإشباع حاجات المجتمع المادية والاعتبارية القيمية. على سبيل المثال: ميزانية الدفاع في أي دولة قد تحصد النصيب الأكبر من موارد الميزانية، مقارنة ببنود الإنفاق المدني الأخرى.. الأمر الذي قد يكون على حساب توفير موارد كافية لخدمات أساسية وإشباع حاجات ضرورية، مثل: التعليم.. والصحة.. والخدمات البلدية.. ومخصصات الضمان الاجتماعي.. والانفاق لتحسين أو توسيع أو رفع كفاءة البنى التحتية.. وتخصيص موارد لدعم السلع الضرورية والخدمات الأساسية.. وتحفيز مشاريع صناعية أو خدمية للإقلال من مستويات البطالة، وغير تلك الالتزامات والتحديات التي تواجهها أي حكومة، داخلياً، في أي دولة.
إذا كان الجدل لتبرير الإنفاق العسكري من أجل الدفاع عن كيان الدولة، يمكن تفهم منطقه مقارنةً بالإنفاق على إشباع حاجات ضرورية، خدمية وسلعية، وثيقة الصلة بإشباع حاجات أساسية.. وبتحسين مستوى معيشة المواطنين، إلا أن الإنفاق على برنامج للمعونات الخارجية، يصب في أنظمة تعاني من مشكلات مزمنة في عدم كفاءتها في إدارة موارد مجتمعاتها.. أو يعتريها الفساد، فإن الجدل هنا يخرج عن منطقه الإستراتيجي، ليتحول إلى معضلة سياسية وأخلاقية، بإهدار موارد وطنية في الخارج، خاصةً إذا كان الداخل في حاجة ماسة إليها.
أي دولة لا يمكن لها أن تنعزل عن محيط بيئتها الخارجية، وإلا أثر ذلك على قدرتها في الدفاع عن أمنها والحصول على نصيبها من موارد النظامين الإقليمي والدولي. في نفس الوقت: التداخلية المتهورة، بزعم المبالغة في الخطر الخارجي، أو لإشباع طموحات توسعية غير محسوبة.. أو سوء التقدير في عوائد الانخراط غير المحسوب في محيط البيئة الخارجية المتلاطم، من شأنه أن يدفع في اتجاه تخصيص موارد لخدمة سياسة خارجية غير مستقرة ومكلفة، على حساب كفاءة وفاعلية الحكومات على مواجهة تحديات التنمية والاستقرار الداخلي، مما يؤثر سلبا على مؤسساتها السياسية.. وقد يساوم على استقرار النظام السياسي، وأمن الدولة.
من أبرز مؤشرات الحكم الرشيد: المواءمة بين متطلبات البيئتين الداخلية والخارجية، بما يكفل استغلال أمثل للموارد الوطنية، من أجل رفاهية المجتمع واستقرار النظام السياسي.. وتوفير الإمكانات اللازمة للدفاع الرادع عن كيان الدولة، والذود عن المصالح الخارجية.
talalbannan@icloud.com
أمام محدودية الموارد، سواء كانت مادية أو اعتبارية (قيمية)، في مواجهة الضغوط الذي يتعرض لها النظام السياسي، من البيئتين الداخلية والخارجية، تنشأ مشكلة تحديد الأولويات وترتيبها. قد يعتقد البعض أن الضغوط التي تأتي من البيئة الداخلية، أشد وطأة، على النظام السياسي والدولة ككل، من تلك التي تتولد عن البيئة الخارجية. بالتالي: يكون الخيار هنا لاقتراب العزلة، ومن ثَمَّ تخصيص أكبر قدر من موارد الدولة، إن لم يكن كلها؟، للاستجابة لضغوط ومطالب البيئة الداخلية، مصدر شرعية النظام السياسي، نفسه.
في المقابل: هناك النهج التداخلي في السياسة الخارجية للدولة، الذي يُقَدِّرُ عالياً تحديات وكذا إمكانات البيئة الخارجية، ومن ثَمَّ الحاجة لتخصيص موارد أكثر لتحديات وإغراءات البيئة الخارجية.. والاستجابة لمطالبها وتحدياتها والتزاماتها. من هنا: قد يرى المواطن العادي، أن أخذ الدولة ببرنامج للمعونات الخارجية، على سبيل المثال، ومن ثَمَّ تخصيص موارد لذلك، لا يستقيم مع ما قد يعانيه المجتمع من مشكلات اقتصادية وعجز في كفاءة أجهزة الدولة لتوفير خدمات ضرورية، من الأولى إيلاء اهتمام بها من انفاق موارد من أجل نفوذ خارجي مكلف.. أو درء خطر بعيد، وفي كل الأحوال يُعد استثمارا من الصعب ضمان استعادته، دعك من احتمال توقع عائده.
هنا تختلف رؤية النخب الحاكمة، من دولة لدولة.. ومن حقبة زمنية لأخرى. منطق الدولة، في كثيرٍ من الأحيانِ يميلُ إلى مواجهة تحديات البيئة الخارجية والانجذاب تجاه نفوذ إقليمي أو وضع دولي متميز، على تخصيص موارد أكبر لمواجهة تحديات والتزامات البيئة الداخلية، حيث تتركز مصادر الشرعية السياسية. بالتبعية: تكون معضلة تخصيص أوجه إنفاق موارد الدولة أكثر تعقيداً، خاصةً، عندما يتعلق الأمر بارتباط مالية الدولة ومواردها بثروة المواطنين ودخولهم، أكثر من حال استحواذ الدولة على أدوات الإنتاج في المجتمع.. واحتكارها لثروة المجتمع. هنا يكون ضغط البيئة الداخلية على أوجه إنفاق الدولة على تحديات والتزامات البيئة الخارجية، أبعد أثراً وأشد وطأة. هذا بدوره يزيد من عدم مرونة النخب الحاكمة في تخصيص موارد أكثر لدفع تكلفة تحقيق أهداف سياسة الدولة الخارجية، مما قد يتطور إلى تهديد مباشر لأمن الدولة، نفسها.. دعك من مغبة ترك الساحة الإقليمية والدولية لمنافسين دوليين وإقليميين، يتمتعون بمرونة أكبر في الاستجابة لتحديات البيئة الخارجية.. وتحَيٌنِ فرص النفوذ الإقليمي والحضور الدولي.
في ما يتعلق بتحديات البيئة الخارجية الأمنية والإستراتيجية، لا يمكن حساب تكلفة مواجهة تلك التحديات بالمعايير الاقتصادية، ولا حتى السياسية، التي تجادل بأولوية الإنفاق على التزامات النظام السياسي الداخلية لإشباع حاجات المجتمع المادية والاعتبارية القيمية. على سبيل المثال: ميزانية الدفاع في أي دولة قد تحصد النصيب الأكبر من موارد الميزانية، مقارنة ببنود الإنفاق المدني الأخرى.. الأمر الذي قد يكون على حساب توفير موارد كافية لخدمات أساسية وإشباع حاجات ضرورية، مثل: التعليم.. والصحة.. والخدمات البلدية.. ومخصصات الضمان الاجتماعي.. والانفاق لتحسين أو توسيع أو رفع كفاءة البنى التحتية.. وتخصيص موارد لدعم السلع الضرورية والخدمات الأساسية.. وتحفيز مشاريع صناعية أو خدمية للإقلال من مستويات البطالة، وغير تلك الالتزامات والتحديات التي تواجهها أي حكومة، داخلياً، في أي دولة.
إذا كان الجدل لتبرير الإنفاق العسكري من أجل الدفاع عن كيان الدولة، يمكن تفهم منطقه مقارنةً بالإنفاق على إشباع حاجات ضرورية، خدمية وسلعية، وثيقة الصلة بإشباع حاجات أساسية.. وبتحسين مستوى معيشة المواطنين، إلا أن الإنفاق على برنامج للمعونات الخارجية، يصب في أنظمة تعاني من مشكلات مزمنة في عدم كفاءتها في إدارة موارد مجتمعاتها.. أو يعتريها الفساد، فإن الجدل هنا يخرج عن منطقه الإستراتيجي، ليتحول إلى معضلة سياسية وأخلاقية، بإهدار موارد وطنية في الخارج، خاصةً إذا كان الداخل في حاجة ماسة إليها.
أي دولة لا يمكن لها أن تنعزل عن محيط بيئتها الخارجية، وإلا أثر ذلك على قدرتها في الدفاع عن أمنها والحصول على نصيبها من موارد النظامين الإقليمي والدولي. في نفس الوقت: التداخلية المتهورة، بزعم المبالغة في الخطر الخارجي، أو لإشباع طموحات توسعية غير محسوبة.. أو سوء التقدير في عوائد الانخراط غير المحسوب في محيط البيئة الخارجية المتلاطم، من شأنه أن يدفع في اتجاه تخصيص موارد لخدمة سياسة خارجية غير مستقرة ومكلفة، على حساب كفاءة وفاعلية الحكومات على مواجهة تحديات التنمية والاستقرار الداخلي، مما يؤثر سلبا على مؤسساتها السياسية.. وقد يساوم على استقرار النظام السياسي، وأمن الدولة.
من أبرز مؤشرات الحكم الرشيد: المواءمة بين متطلبات البيئتين الداخلية والخارجية، بما يكفل استغلال أمثل للموارد الوطنية، من أجل رفاهية المجتمع واستقرار النظام السياسي.. وتوفير الإمكانات اللازمة للدفاع الرادع عن كيان الدولة، والذود عن المصالح الخارجية.
talalbannan@icloud.com