ورحل سراج عمر، مهتار الأغنية المحلية الحديثة، الذي تلخص ألحانه تاريخ تحوّلاتنا؛ عنفوان السبعينات، وفخامة الثمانينات.
ويتطابق كفاحه الموسيقي والفني العريض، مع الخط الزمني لقصة تطور الفن الموسيقي العمومي.. من النشأة وأحلام النهوض، إلى الزهو واكتمال الشخصية، ثم إلى الانكسار وكوابيس الجحود.
منذ مطلع الستينات، أشرق طيف واسع من الفرق الموسيقية بين جدة والرياض والطائف، فتأسست فرقة الإذاعة في ١٩٦١م، على يد الرائد طارق عبدالحكيم، وبإيعاز مباشر من الوزير عبدالله بالخير.. وصعدت الفرق الأهلية وأشهرها «فرقة النجوم» لأمين يحيى، كما تعاقبت جهود رامية إلى تكوين فرقة أوركسترا وطنية، منها ما صنعه العازف الأول في فرقة إذاعة جدة، مهران بلخيان، في ١٩٦٩، في توسيع رقعة آلات العزف المعتمدة وتثوير التوزيع الهارموني بين أقسامها.
من أجواء الريادة تلك، ترافق سراج عمر مع مجموعة من الموسيقيين الشبان، في أول السبعينات، إلى إعادة تأسيس «فرقة النجوم» الموسيقية التي كان عقدها قد انفرط.
من داخل سور البلدة القديم، في «كراج» متوارٍ في العيدروس من حارة اليمن، وفّره لهم عمدتها الشيخ عبدالصمد، كان ينعقد نادي سراج عمر، وسامي إحسان وعبده مزيد ومحمد شفيق، يواظبون على تمارينهم ويتصاولون في مزج أنغامهم.
لكن شكاوى الجيران، عجّلت في قذفهم إلى الشارع، فتبناهم الوزير جميل حجيلان، وسعى إلى دمجهم في فرقة التلفزيون، فصرف لهم بطاقات دخول، فاحتكوا من فورهم بعمالقة الطرب الشرقي حينها، محمد علي السندي وأضرابه.
وفي ١٩٧٣م، سيلتحق سراج عمر ورفيقه سامي إحسان، بمجموعة حالمة جديدة من الشبان، في رحلة بلورة الحلم الكبير.. لقد أسسوا لتوّهم جمعية للفنون الموسيقية.
كانت الجمعية عبارة عن شقة صغيرة في عمارة الملكة: غرفتين وصالة، دفعوا إيجارها ورتبوا لوازمها من جيوبهم.
انطلقت جمعيتهم ببرنامج دراسي يرنو لإخراج موسيقيين محليين، وكانت ملتقى الشاعر والملحن والمطرب.. والغاوي.
في زمن غياب الأوبرا، والكونسرفتوار (معهد الموسيقى العالي).. لعبت الشقّة أدواراً جوهرية في صياغة وإنتاج وتطور الأغنية السعودية الحديثة ونقلها إلى مراتب ذهبية، وآفاق عربية متفوقة. ذلك الإرث الذي نحتفي به اليوم في السردية الوطنية الرسمية، ونتخذه كمسلمّة أو معطى بديهي.
إلى جانب سراج عمر، وسامي إحسان، لم يكن أولئك الشبان سوى: بدر بن عبدالمحسن، محمد العبدالله الفيصل، إبراهيم خفاجي، محمد طلعت سراج، محمد رجب، غازي علي - رحم الله من رحل، ورطّب خاطر من بقي.
استمر عطاء الشقة سنوات، ثم مع اتجاه الرئاسة العامة لرعاية الشباب في زمن الفذّ الأمير فيصل بن فهد إلى تأسيس البنية التحتية لمؤسسات الثقافة، اعتمدت هيكل الجمعية/الشقّة، ودمجت نواتها في مشروعها العام، فانبثقت صيغة «جمعية الثقافة والفنون» كما نعرفها اليوم.
ومنذ اختياره عضواً في أول مجلس إدارة رسمي للجمعية، امتدت جهود سراج عمر، إلى أكثر من عشرين عاماً لاحقة، مشرفاً عاماً على لجنة الموسيقى في جمعية جدة، ورئيساً لفرقتها الموسيقية الطربية.
ثم قفزاً إلى المحطة اليائسة التي توارى فيها الفنان، وأعلن فيها عن حرق مكتبته الفنية احتجاجاً.
لما استقالت الرؤية الثقافية العامة، غزت لوثات الريبة والتوجس المزاج العام - فانكفأ المشروع، وانقطع الحلم، واختنق موال النغم.
وانعطفنا بدورنا في نفق مظلم سحيق، تلاحقنا لعنات الرداءة والجحود والوجدان الكسيف.
إن كفاح سراج عمر ورفاقه العريض، هو في أصله حلم إطلاق «المؤسسة» الرسمية الحاضنة للإبداع، وحلم انتزاع الاعتراف واستعادة أصلانية الفن في ثقافتنا ووعينا الحضاري.
يأتي خبر إرساء حجر أساس «الأوبرا» على ساحل جدة، كثمرة، وإن متأخرة، لذلك الكفاح العريض، وتتويج للإرث الذهبي.. وفرصة سانحة لترميم كرامة الفن السعودي المهدورة، وإحداث نشأة مستأنفة لخط تطوره البياني.
على أن يتزامن مع خطاب بنيان الأحجار.. خطاب تأسيس المكوّنات غير المادية للمشروع، أي ذخيرته الأوبرالية والفنية.
يكون ذلك بوضع الخطط والبرامج التي تعنى بإنتاج ورفد وتنسيق «ريبتوار» الأوبرا، لتعلو فيها مؤلفات عربية تتخذ من التراب السعودي وأعماق بيئته وأنماطه الاجتماعية، هوية وحتمية ورصيداً. وتوليف أعضاء فرقها من صوليست ومؤدين ومخرجين وتقنيين.. عبر الاستقطاب، والصقل، والابتعاث، وإنبات المعاهد الداخلية الملتحقة بمؤسسة الأوبرا.
إن مشروع «الأوبرا» وغيره من المشاريع الثقافية الكبرى التي أعلن عنها.. بحاجة أن ينخرط في جهود تأسيسها موسيقيون وفنانون أكثر، وبيروقراط ومستشارو شنطة أقل.
وقبل الإعلان عن المخططات الهندسية، ورسومات البنيان، كان علينا إعلان الفريق القيادي الذي سيقود «المؤسسة»، بتوخي المزج الدقيق بين الخبرات المحلية والعالمية في اختياره.
يشهد على حلم «الأوبرا» أجيال وطبقات من روّاد الحركة الفنية في بلادنا، إنها «هبة» منتوجهم السخي وتضحياتهم الثمينة، وهو إن خرج فاتراً بعد كل هذا، سيكون من العصي وقتها الإفلات من لعنات الدهر.
mahsabbagh@
ويتطابق كفاحه الموسيقي والفني العريض، مع الخط الزمني لقصة تطور الفن الموسيقي العمومي.. من النشأة وأحلام النهوض، إلى الزهو واكتمال الشخصية، ثم إلى الانكسار وكوابيس الجحود.
منذ مطلع الستينات، أشرق طيف واسع من الفرق الموسيقية بين جدة والرياض والطائف، فتأسست فرقة الإذاعة في ١٩٦١م، على يد الرائد طارق عبدالحكيم، وبإيعاز مباشر من الوزير عبدالله بالخير.. وصعدت الفرق الأهلية وأشهرها «فرقة النجوم» لأمين يحيى، كما تعاقبت جهود رامية إلى تكوين فرقة أوركسترا وطنية، منها ما صنعه العازف الأول في فرقة إذاعة جدة، مهران بلخيان، في ١٩٦٩، في توسيع رقعة آلات العزف المعتمدة وتثوير التوزيع الهارموني بين أقسامها.
من أجواء الريادة تلك، ترافق سراج عمر مع مجموعة من الموسيقيين الشبان، في أول السبعينات، إلى إعادة تأسيس «فرقة النجوم» الموسيقية التي كان عقدها قد انفرط.
من داخل سور البلدة القديم، في «كراج» متوارٍ في العيدروس من حارة اليمن، وفّره لهم عمدتها الشيخ عبدالصمد، كان ينعقد نادي سراج عمر، وسامي إحسان وعبده مزيد ومحمد شفيق، يواظبون على تمارينهم ويتصاولون في مزج أنغامهم.
لكن شكاوى الجيران، عجّلت في قذفهم إلى الشارع، فتبناهم الوزير جميل حجيلان، وسعى إلى دمجهم في فرقة التلفزيون، فصرف لهم بطاقات دخول، فاحتكوا من فورهم بعمالقة الطرب الشرقي حينها، محمد علي السندي وأضرابه.
وفي ١٩٧٣م، سيلتحق سراج عمر ورفيقه سامي إحسان، بمجموعة حالمة جديدة من الشبان، في رحلة بلورة الحلم الكبير.. لقد أسسوا لتوّهم جمعية للفنون الموسيقية.
كانت الجمعية عبارة عن شقة صغيرة في عمارة الملكة: غرفتين وصالة، دفعوا إيجارها ورتبوا لوازمها من جيوبهم.
انطلقت جمعيتهم ببرنامج دراسي يرنو لإخراج موسيقيين محليين، وكانت ملتقى الشاعر والملحن والمطرب.. والغاوي.
في زمن غياب الأوبرا، والكونسرفتوار (معهد الموسيقى العالي).. لعبت الشقّة أدواراً جوهرية في صياغة وإنتاج وتطور الأغنية السعودية الحديثة ونقلها إلى مراتب ذهبية، وآفاق عربية متفوقة. ذلك الإرث الذي نحتفي به اليوم في السردية الوطنية الرسمية، ونتخذه كمسلمّة أو معطى بديهي.
إلى جانب سراج عمر، وسامي إحسان، لم يكن أولئك الشبان سوى: بدر بن عبدالمحسن، محمد العبدالله الفيصل، إبراهيم خفاجي، محمد طلعت سراج، محمد رجب، غازي علي - رحم الله من رحل، ورطّب خاطر من بقي.
استمر عطاء الشقة سنوات، ثم مع اتجاه الرئاسة العامة لرعاية الشباب في زمن الفذّ الأمير فيصل بن فهد إلى تأسيس البنية التحتية لمؤسسات الثقافة، اعتمدت هيكل الجمعية/الشقّة، ودمجت نواتها في مشروعها العام، فانبثقت صيغة «جمعية الثقافة والفنون» كما نعرفها اليوم.
ومنذ اختياره عضواً في أول مجلس إدارة رسمي للجمعية، امتدت جهود سراج عمر، إلى أكثر من عشرين عاماً لاحقة، مشرفاً عاماً على لجنة الموسيقى في جمعية جدة، ورئيساً لفرقتها الموسيقية الطربية.
ثم قفزاً إلى المحطة اليائسة التي توارى فيها الفنان، وأعلن فيها عن حرق مكتبته الفنية احتجاجاً.
لما استقالت الرؤية الثقافية العامة، غزت لوثات الريبة والتوجس المزاج العام - فانكفأ المشروع، وانقطع الحلم، واختنق موال النغم.
وانعطفنا بدورنا في نفق مظلم سحيق، تلاحقنا لعنات الرداءة والجحود والوجدان الكسيف.
إن كفاح سراج عمر ورفاقه العريض، هو في أصله حلم إطلاق «المؤسسة» الرسمية الحاضنة للإبداع، وحلم انتزاع الاعتراف واستعادة أصلانية الفن في ثقافتنا ووعينا الحضاري.
يأتي خبر إرساء حجر أساس «الأوبرا» على ساحل جدة، كثمرة، وإن متأخرة، لذلك الكفاح العريض، وتتويج للإرث الذهبي.. وفرصة سانحة لترميم كرامة الفن السعودي المهدورة، وإحداث نشأة مستأنفة لخط تطوره البياني.
على أن يتزامن مع خطاب بنيان الأحجار.. خطاب تأسيس المكوّنات غير المادية للمشروع، أي ذخيرته الأوبرالية والفنية.
يكون ذلك بوضع الخطط والبرامج التي تعنى بإنتاج ورفد وتنسيق «ريبتوار» الأوبرا، لتعلو فيها مؤلفات عربية تتخذ من التراب السعودي وأعماق بيئته وأنماطه الاجتماعية، هوية وحتمية ورصيداً. وتوليف أعضاء فرقها من صوليست ومؤدين ومخرجين وتقنيين.. عبر الاستقطاب، والصقل، والابتعاث، وإنبات المعاهد الداخلية الملتحقة بمؤسسة الأوبرا.
إن مشروع «الأوبرا» وغيره من المشاريع الثقافية الكبرى التي أعلن عنها.. بحاجة أن ينخرط في جهود تأسيسها موسيقيون وفنانون أكثر، وبيروقراط ومستشارو شنطة أقل.
وقبل الإعلان عن المخططات الهندسية، ورسومات البنيان، كان علينا إعلان الفريق القيادي الذي سيقود «المؤسسة»، بتوخي المزج الدقيق بين الخبرات المحلية والعالمية في اختياره.
يشهد على حلم «الأوبرا» أجيال وطبقات من روّاد الحركة الفنية في بلادنا، إنها «هبة» منتوجهم السخي وتضحياتهم الثمينة، وهو إن خرج فاتراً بعد كل هذا، سيكون من العصي وقتها الإفلات من لعنات الدهر.
mahsabbagh@