-A +A
عبدالله الرشيد
إن المعيار الأبرز لنجاح أي حركة نهضة أو تحديث هو تغييرها لطبيعة الواقع القائم، وتعميق جذورها في كافة مناحي المجتمع، وقدرتها على تغيير نمط التفكير بين أوساط الناس، وتأسيس بيئة مختلفة ذات قيم جديدة تساهم في ضخ الحيوية وتحقيق الاستمرارية لحركة النهوض بحيث تبقى مؤثرة في الأجيال القادمة الذين بدورهم يدفعون بها نحو مزيد من التطور والعمق، حتى لا تصبح حركة التحديث رهينة لظروف مؤقتة، أو متعلقة بأشخاص معينين.

ربما تكون بيئة التعليم أهم منطلق لتحقيق صمام الأمان والحيوية لحركة التحديث، ففي داخل هذه العملية تتأسس عقول الأجيال، وتنضج الكثير من الأطروحات والأفكار، وتختبر النظريات، وتتحقق الاكتشافات، وتؤثر بدورها في كافة مناحي المجتمع، وتطبع ببصمتها في الاقتصاد والصناعة والصحة والسياسة والبيئة والاجتماع، فمن هذه العملية عبر جل المواطنين والأفراد، وتخرج منها القائد، والموظف، والعامل، والصانع، والأب والابن، والزوج، والزوجة.. ما يعني أن أي حركة تحديث لا يكون التعليم وبيئة التعلم هو منطلقها الأساس فهي حركة ناقصة، هشة ضعيفة تتلاشى وتذبل بسرعة.


تنبه الفيلسوف الإنجليزي فرانسيس بيكون (ت 1626) لهذه النقطة حين أراد تقديم تصوره عن المدينة الفاضلة التي يجب أن يكون عليها حال المجتمع المثالي المتحضر، كان نزوعه نحو العلم والبحث التجريبي طاغياً فصمم المدينة بأسرها على شكل معهد علمي كبير، يساهم جميع أبناء المدينة في حركة العلم والاكتشاف والبحث والتأليف.

قدم بيكون هذه الفكرة في كتابه «أطلنطا الجديدة» التي تدور أحداثها في جزيرة سرية غير مكتشفة تعيش على واقع التقدم العلمي من خلال الابتكار، ونظم اقتصادية مثالية ناتجة عن الاستغلال الجيد لثروات الأرض، فاكتسبت الثروة والشهرة بسبب هيمنتها على الطبيعة. وصف البعض كتاب بيكون أنه طريقة مبتكرة في العمل السياسي، فهو يرمي من خلاله إلى إقناع النخبة الحاكمة في ذلك الوقت باستخدام المنهج العلمي الاستقرائي، باعتباره منهجًا وضع لصالح البشرية.

تبدأ قصة بيكون بهذا الشكل: «لقد أبحرنا من بيرو في طريقنا إلى الصين واليابان عن طريق البحر الجنوبي، خيم علينا سكون طويل، بقيت فيه السفن عدة أسابيع جاثمة بهدوء على صفحات مياه المحيط التي لا حدود لها كبقع فوق مرآة، وكادت مؤنة المغامرين تنفد، وعندئذ هبت علينا ريح عاتية، دفعت السفن بلا رحمة شمالًا، وشمالًا فشمالًا متوغلين في بحر واسع لا نهاية له، وبدأنا نقلل من وجبات طعامنا، وفشا المرض في الملاحين، وأخيرًا عندما استسلم الملاحون للموت رأوا وكأنهم لا يصدقون عيونهم، جزيرة جميلة تلوح في الأفق...

وخلال أسابيع من بقائهم فيها أخذوا يكتشفون يومًا بعد يوم عن أسرار هذه الجزيرة، وأخبرهم أحد السكان أن ملكًا حكمها منذ 1900 سنة؛ لاتزال ذكراه في قلوبنا، ولايزال موضع حبنا وتقديسنا، وكان اسمه سليمان، ومن أعظم أعماله وأكثرها رفعة وشأنًا إنشاء المعهد الذي نسميه (بيت سليمان)، وهو من أنبل وأعظم المؤسسات على الأرض، ودرة هذه المملكة» هذه الفكرة كانت هي منطلق بيكون في عمله الطوباوي القائم أساسًا على مجمع البحوث العلمية، أو كما يسميه (بيت سليمان) الذي يملك النفوذ والسلطة داخل «أطلنطا الجديدة»، وهو مجمع يشبه إلى حد كبير المنشآت العلمية الضخمة في عصرنا التي تعتمدها الكثير من الدول المتقدمة؛ لإقامة التجارب وإنتاج البحوث وتحقيق الاكتشافات العلمية، وهي في نفس الوقت تتسم بالسرية والغموض، حتى لا تكتشف أسرار اختراعاتها وتستخدمها دولة أخرى.

يتكون بيت سليمان من مجموعة من العلماء والخبراء والباحثين؛ حيث يوجد 12 باحثًا مهمتهم الإبحار إلى البلاد الأجنبية، تحت أسماء الدول الأخرى؛ لأن طبيعة مهامهم سرية، وهم يعملون بجد من أجل جلب الكتب وملخصات البحوث، ونماذج التجارب العلمية في البلدان الأخرى، وهؤلاء يطلق عليهم اسم (تجار النور).

وفي بيت سليمان باحثون يتولون مهمة جمع التجارب من كل الكتب، وهؤلاء يسمون «المعدين»، كما يوجد 3 آخرين يجمعون الفنون الآلية كلها، وكذلك العلوم الحرة أيضًا، والممارسات التي لم تطبق في الفنون، وهؤلاء يطلق عليهم اسم «الرجال السريين»، كما يوجد 3 يحاولون إجراء تجارب جديدة يعتقدون هم أنفسهم أنها تجارب صالحة، وهؤلاء يطلق عليهم اسم «الرواد»، وهناك 3 مهمتهم تصنيف التجارب الـ 4 السابقة في عناوين وجداول؛ لإلقاء المزيد من الضوء عليها لاستخلاص الملاحظات والبديهيات منها، وهؤلاء يطلق عليهم اسم «المصنفين».

إضافة لذلك؛ يوجد 3 مهمتهم الاعتكاف على تجارب زملائهم لاستخلاص الفوائد منها لمنفعة الإنسان في حياته ومعرفته؛ سواء لخدمة العمل أو لاستنباط الأدلة والبراهين الواضحة، وابتكار وسائل التنبؤات الطبيعية، واكتشاف مزايا وأجزاء الأجسام بطريقة ميسرة وواضحة، وهؤلاء يطلق عليهم اسم «مقدمي المهور» أو «فاعلي الخير».

ثم تنعقد لقاءات ومشاورات مختلفة بين جميع الباحثين لتدارس الجهود العلمية السابقة، بعد ذلك ينكب 3 باحثين لإعادة النظر في النتائج والخلاصات لتوجيه الأنظار لتجارب جديدة تكون أكثر نفاذًا في صميم الطبيعة من التجارب الأولى، وهؤلاء يطلق عليهم اسم «المصابيح».

كما يوجد 3 يقومون مباشرة بإجراء التجارب الموجهة على هذا النحو، ويكتبون عنها التقارير، وهؤلاء يطلق عليهم اسم «الملحقين»، بعد ذلك يأتي 3 آخرون يرفعون الاكتشافات السابقة التي تم التوصل إليها عن طريق التجارب إلى مستوى الملاحظات الكبيرة، والبديهيات، والحكم المأثورة، وهؤلاء يطلق عليهم اسم «مفسّري الطبيعة»، ولعل هذه هي الغاية التي ينشدها بيكون، تفسير الطبيعة من أجل استغلالها والانتفاع بها.

وإن كان (بيت سليمان) صورة لمجتمع علمي خيالي، أصبح فيما بعد سمة لازمة للمجتمعات الغربية المتقدمة، فإن نموذجا واقعيا مشابها تجسد في الفترة الذهبية للحضارة الإسلامية، حين قاد «بيت الحكمة» في بغداد عام 750م حركة نهضوية وحضارية ساهمت في تطور وحماية الفكر الإنساني، وربط الحضارات بعضها ببعض، ودمج أفراد وطوائف المجتمع بأعراقه ودياناته المختلفة تحت قبة العلم والتعليم.

بدأ بيت الحكمة أولًا كمكتبة، ثم أصبح مركزًا للترجمة، ثم مركزًا للبحث العلمي والتأليف، ثم أصبح دارًا للعلم تقام فيه الدروس وتمنح فيه الإجازات العلمية، ثم ألحق به بعد ذلك مرصد فلكي هو مرصد الشماسية، وانقسم تنظيم بيت الحكمة الإداري إلى عدة أقسام: 1- المكتبة، وهي أساس الدار وفيها تحفظ كل كتاب يترجم أو يؤلف.

2- النقل والترجمة، وكان منوطًا به ترجمة الكتب من اللغات المختلفة إلى اللغة العربية، ومن أبرز مترجمي الدار يوحنا بن ماسويه وجبريل بن بختيشوع وحنين بن إسحاق وكثير من العلماء العرب والنساطرة والفرس.

3- البحث والتأليف، وفيه كان المؤلفون يؤلفون كتبًا خاصة للمكتبة.

4- المرصد الفلكي، الذي أنشأه الخليفة العباسي المأمون في الشماسية بالقرب من بغداد ليكون تابعًا لبيت الحكمة، وعليه اعتمد المأمون في بعثته التي أرسلها لقياس محيط الأرض.

5- المدرسة، وفيها كان العلماء يلقون دروسهم للطلبة، وتعقد مجالس المناظرة، وتمنح الإجازات العلمية.

كان لبيت الحكمة أثر عظيم في تطور الحضارة الإسلامية، فهو يعتبر المحرك الأول لبدء العصر الذهبي للحضارة الإسلامية، وقدم إسهامات كبيرة في مجالات الطب والهندسة والفلك؛ كما ساهم بيت الحكمة في إنقاذ التراث العالمي من الفناء والاندثار بجلبه كنوز المعرفة من أنحاء العالم وترجمتها، ثم حفظها ونشرها. كما ابتكر نظامًا جديدًا لتنظيم المكتبات وهو ترتيب الكتب بناءً على صنف الكتاب. ساهم علماء بيت الحكمة وطلابها في إنشاء مراكز ومدارس علمية جديدة في كل من: خرسان والري وأصبهان وبلاد ما وراء النهر ومصر والشام والأندلس، وشجع إنشاء بيت الحكمة بقية المناطق الإسلامية نحو تأسيس مراكز علمية على غراره؛ فكانت مكتبة العزيز في القاهرة، ومكتبة الزهراء في قرطبة. كما تأسست بالموازاة مع ذلك جامعة القرويين سنة 859م في فاس، ثم جامعة الأزهر سنة 970م في القاهرة.

* باحث وكاتب سعودي