توجد دولة بدون ديموقراطية ولكن لا توجد ديموقراطية بدون دولة، أما عندما تكون مهمات الدولة الأساسية خارج البلاد، وعندما لا تحتكر الدولة السلاح، وعندما لا تملك الدولة السيطرة الحقيقية على جزء من أرضها، وعندما يكون هناك حزب يملك سلاحا وميليشيات تضاهي قوة الدولة، لا بل في كثير من الأحيان تفوقها، عند ذلك لا تكون هناك ديموقراطية، وإنما آلية مشوهة وممجوجة لما يسمى الديموقراطية، تكرس توازنات القوى على الأرض وتبقى على الوضع الراهن على ما هو عليه، ولا أمل في تغيير حقيقي يطال حياة المواطن البسيط، المحكوم بطائفية تجعل خلاص الوطن الصغير مستبعدة حتى إشعار آخر، وتصبح ديموقراطية على الشاكلة اللبنانية.
بعد توقف استمر أكثر من تسع سنوات جرت الانتخابات مرة أخرى في لبنان، دون أمل كبير بأن تغّير هذه الانتخابات شيئا على مستوى الحياة السياسية والاقتصادية، بل تكريس لتفاهمات طائفية وسيطرة ميليشاوية كرسها حزب الله منذ اجتياح بيروت في السابع من أيار 2008. منذ ذلك الوقت ولا تتم عملية انتخابية (ولا نقول ديموقراطية) إلا وفقا لشروط حزب الله، حدث ذلك في انتخابات رئيس الجمهورية، حيث عطل الحزب انتخابات الرئاسة حتى ضمن أن يصل إلى قصر بعبدا حليفه ميشيل عون، وكذا حدث في تشكيل الحكومة فلم يوافق إلا عندما ضمن ما يسمى الثلث المعطل، الذي يمنع الحكومة من اتخاذ أي قرار إلا بموافقة الحزب. هذا الواقع المتردي للحياة السياسية اللبنانية أدى إلى تلاشي السياسة وحلول المحاصصة التي لم تعد بين الطوائف، بل تقلصت لتصبح بين العائلات، فضمنت العائلات اللبنانية الكبرى مصالح شخوصها بمقابل سيطرة الحزب على مقاليد الحكم. في الانتخابات النيابية الأخيرة، صاغ حزب الله القانون الانتخابي الجديد على مقاسه هو وحلفاؤه. لذلك فلم تفرز ما هو غير متوقع. وفي قراءة أولية للنتائج نرى أن لبنان أصبح رهينة للولي الفقيه مرة أخرى.
هناك مفارقة يعيشها لبنان تبدو غريبة وعجيبة ولا يمكن أن تراها في دولة حقيقية، حزب يخوض المعركة الانتخابية، وفي نفس الوقت مرجعيته ليست وطنية، حزب يتخذ قرار الحرب والسلام بالعودة إلى مرجعيته الإيرانية ثم يفرض ذلك على الدولة اللبنانية، بالتوازي هذا الحزب يمتلك ميليشيات وتسليح يكاد يفوق بعدده وعتاده بعض دول المنطقة. يدخل سورية دون أن يستشير الدولة اللبنانية ويحارب هناك باسم إيران، ثم يتم الحديث عبر المنابر اللبنانية عن أسطورة (النأي بالنفس)! إلا أن وجود الحزب فوق الدولة اللبنانية لا يكفيه، بل يريد أن تكون له حصة في البرلمان اللبناني ويفرض رئيسا للجمهورية ويفرض رأيه بتشكيل الحكومة اللبنانية. وبعد كل هذا تريد الطبقة السياسية أن تقنعنا أن لبنان دولة ديموقراطية، فيها انتخابات وعملية اقتراع.
حتى ضمن هذا الديكور المكرر والمعاد والممل، لم يسلم من يختلفون مع الحزب من اعتداءات ميليشياته، فعلي الأمين هو أكبر مثال على الحد الذي وصلت إليه بلطجة حزب الله وتشبيحه. فالرجل مرشح للانتخابات ولم يجرؤ المؤيدون له أن يرفعوا صوره أو شعارا له. حتى عندما حاول هو أن يفعل ذلك تعرض إلى اعتداء من الميليشيات التابعة لحزب الله، الذي لم يستطع أن يحافظ على الديكور الانتخابي لذلك كان من الطبيعي أن يفوز ثنائي حزب الله ـ حركة أمل بكل المقاعد الشيعية ولم يحدث أي اختراق في أي منطقة لبنانية.
لبنان منذ تأسيسه وهو عبارة عن طوائف متساكنة حينا ومتنافرة ومتناحرة في كثير من الأحيان. التوازن بين هذه الطوائف هو الذي ضمن فترات السلام المحدودة التي غالبا ما تكون هدنة محارب. أما عندما تتغول طائفة على بقية الطوائف، فإنها تضمن استقرارا زائفا لفترة معينة، وربما تصاب بالتكبر والنرجسية ولا ترى الواقع اللبناني كما يجب، ولكن هذا الهدوء الظاهر والسيطرة الواضحة خادعة، فما يموج تحت السطح قد يفاجئ الجميع. إذا ما عدنا إلى نتائج الانتخابات فقد أشارت إلى سيطرة حزب الله على البيئة الشيعية وهذا صحيح، نجح التيار الوطني الحر حليف حزب الله وهذا صحيح، ولكن في المقابل تقدم حزب القوات اللبنانية برئاسة سمير جعجع وهو الذي أثبت أنه لم يهادن الحزب وبقي متمسكا بمواقفه المعارضة لسلاح حزب الله ولحرب الحزب في سورية. حتى تراجع تيار المستقبل فهو ردة فعل من الحاضنة الشعبية التي وجدت في التفاهم الذي أوصل الحريري إلى رئاسة الحكومة ثم وصول عون للرئاسة هو تراجع غير مقبول. المسيحيون منقسمون بسبب الموقف من سلاح حزب الله ودوره وكذا المسلمون السنة. هذا يعني أن التوازن أصبح مفقودا على الساحة اللبنانية، وهذا يعني أن لبنان الذي يفترض أن يرتكز على ثلاثة قوائم تمثل هذه الطوائف الثلاث الكبرى أصبح أعرج، وبالتالي صراع إعادة التوازن تلوح في الأفق.
لبنان لا يحتمل النصر الكامل، لا يحتمل السيطرة الكاملة لحزب، لا يحتمل أن يصبح أعرج لفترة طويلة، لذلك فالانتخابات النيابية الأخيرة تشي بأن سماءه ملبدة ومكفهرة. ولعل الفترة القادمة تكون حبلى بالكثير من الأحداث.
* كاتب عربي
ramialkhalife@
بعد توقف استمر أكثر من تسع سنوات جرت الانتخابات مرة أخرى في لبنان، دون أمل كبير بأن تغّير هذه الانتخابات شيئا على مستوى الحياة السياسية والاقتصادية، بل تكريس لتفاهمات طائفية وسيطرة ميليشاوية كرسها حزب الله منذ اجتياح بيروت في السابع من أيار 2008. منذ ذلك الوقت ولا تتم عملية انتخابية (ولا نقول ديموقراطية) إلا وفقا لشروط حزب الله، حدث ذلك في انتخابات رئيس الجمهورية، حيث عطل الحزب انتخابات الرئاسة حتى ضمن أن يصل إلى قصر بعبدا حليفه ميشيل عون، وكذا حدث في تشكيل الحكومة فلم يوافق إلا عندما ضمن ما يسمى الثلث المعطل، الذي يمنع الحكومة من اتخاذ أي قرار إلا بموافقة الحزب. هذا الواقع المتردي للحياة السياسية اللبنانية أدى إلى تلاشي السياسة وحلول المحاصصة التي لم تعد بين الطوائف، بل تقلصت لتصبح بين العائلات، فضمنت العائلات اللبنانية الكبرى مصالح شخوصها بمقابل سيطرة الحزب على مقاليد الحكم. في الانتخابات النيابية الأخيرة، صاغ حزب الله القانون الانتخابي الجديد على مقاسه هو وحلفاؤه. لذلك فلم تفرز ما هو غير متوقع. وفي قراءة أولية للنتائج نرى أن لبنان أصبح رهينة للولي الفقيه مرة أخرى.
هناك مفارقة يعيشها لبنان تبدو غريبة وعجيبة ولا يمكن أن تراها في دولة حقيقية، حزب يخوض المعركة الانتخابية، وفي نفس الوقت مرجعيته ليست وطنية، حزب يتخذ قرار الحرب والسلام بالعودة إلى مرجعيته الإيرانية ثم يفرض ذلك على الدولة اللبنانية، بالتوازي هذا الحزب يمتلك ميليشيات وتسليح يكاد يفوق بعدده وعتاده بعض دول المنطقة. يدخل سورية دون أن يستشير الدولة اللبنانية ويحارب هناك باسم إيران، ثم يتم الحديث عبر المنابر اللبنانية عن أسطورة (النأي بالنفس)! إلا أن وجود الحزب فوق الدولة اللبنانية لا يكفيه، بل يريد أن تكون له حصة في البرلمان اللبناني ويفرض رئيسا للجمهورية ويفرض رأيه بتشكيل الحكومة اللبنانية. وبعد كل هذا تريد الطبقة السياسية أن تقنعنا أن لبنان دولة ديموقراطية، فيها انتخابات وعملية اقتراع.
حتى ضمن هذا الديكور المكرر والمعاد والممل، لم يسلم من يختلفون مع الحزب من اعتداءات ميليشياته، فعلي الأمين هو أكبر مثال على الحد الذي وصلت إليه بلطجة حزب الله وتشبيحه. فالرجل مرشح للانتخابات ولم يجرؤ المؤيدون له أن يرفعوا صوره أو شعارا له. حتى عندما حاول هو أن يفعل ذلك تعرض إلى اعتداء من الميليشيات التابعة لحزب الله، الذي لم يستطع أن يحافظ على الديكور الانتخابي لذلك كان من الطبيعي أن يفوز ثنائي حزب الله ـ حركة أمل بكل المقاعد الشيعية ولم يحدث أي اختراق في أي منطقة لبنانية.
لبنان منذ تأسيسه وهو عبارة عن طوائف متساكنة حينا ومتنافرة ومتناحرة في كثير من الأحيان. التوازن بين هذه الطوائف هو الذي ضمن فترات السلام المحدودة التي غالبا ما تكون هدنة محارب. أما عندما تتغول طائفة على بقية الطوائف، فإنها تضمن استقرارا زائفا لفترة معينة، وربما تصاب بالتكبر والنرجسية ولا ترى الواقع اللبناني كما يجب، ولكن هذا الهدوء الظاهر والسيطرة الواضحة خادعة، فما يموج تحت السطح قد يفاجئ الجميع. إذا ما عدنا إلى نتائج الانتخابات فقد أشارت إلى سيطرة حزب الله على البيئة الشيعية وهذا صحيح، نجح التيار الوطني الحر حليف حزب الله وهذا صحيح، ولكن في المقابل تقدم حزب القوات اللبنانية برئاسة سمير جعجع وهو الذي أثبت أنه لم يهادن الحزب وبقي متمسكا بمواقفه المعارضة لسلاح حزب الله ولحرب الحزب في سورية. حتى تراجع تيار المستقبل فهو ردة فعل من الحاضنة الشعبية التي وجدت في التفاهم الذي أوصل الحريري إلى رئاسة الحكومة ثم وصول عون للرئاسة هو تراجع غير مقبول. المسيحيون منقسمون بسبب الموقف من سلاح حزب الله ودوره وكذا المسلمون السنة. هذا يعني أن التوازن أصبح مفقودا على الساحة اللبنانية، وهذا يعني أن لبنان الذي يفترض أن يرتكز على ثلاثة قوائم تمثل هذه الطوائف الثلاث الكبرى أصبح أعرج، وبالتالي صراع إعادة التوازن تلوح في الأفق.
لبنان لا يحتمل النصر الكامل، لا يحتمل السيطرة الكاملة لحزب، لا يحتمل أن يصبح أعرج لفترة طويلة، لذلك فالانتخابات النيابية الأخيرة تشي بأن سماءه ملبدة ومكفهرة. ولعل الفترة القادمة تكون حبلى بالكثير من الأحداث.
* كاتب عربي
ramialkhalife@