-A +A
طارق فدعق
بعض الطرائف الخيالية تصف الواقع بدقة عجيبة: يحكى أن سمكة سألت زميلتها عن تيارات الماء.. وجاء الرد كالتالي: «التيارات قوية اليوم... ولكن ما المقصود بالماء؟». وهذا حالنا مع نعم الله، فمعظمنا لا يدرك مقدار وروعة تلك النعم بالرغم من أهميتها وبالرغم من أنها حولنا في كل مكان وزمان. وسأبدأ بذكر بعض التحيز في هذا المقال عن الثلاجات، وذلك لأنني أعشقها، وتحديدا فأحب أشكال الثلاجات الصغيرة، والكبيرة، والعملاقة، والمنزلية، والتجارية، والثابتة، والمتحركة، والثلاجات الكهربائية، والغازية، والبيضاء، والسوداء، والبنية، والصفراء، والخضراء، والفضية، والذهبية.. وباختصار فكلها من روائع نعم الله علينا. وأتذكر أنني عاهدت الله ونفسي أنني عندما استلم أول راتب فسأهدي والدتي رحمها الله ثلاجة. وهذا ما فعلت.. اشتريت لها أجمل ثلاجة كبيرة وذكية وهادئة، وكانت من أجمل لحظات حياتي. وقبل أن تحكم على تعلقي العاطفي بالثلاجات، فضلا تأمل أهميتها في حياتنا، هي الجهاز الأكثر أهمية واستخداما في منازلنا، وهي الجهاز الأكثر تعبيرا عن المستوى المعيشي، وعن مستوى أذواقنا، فضلا لاحظ أن نظافتها، وترتيب محتواها، ورائحتها، وشكلها الخارجي والداخلي كلها تعكس أسلوب حياة المستخدمين. ولكن جمال الثلاجات له بعض الجوانب العلمية المذهلة: لو رتبت أهم قوانين العلوم في تاريخ البشرية فستجد أن هناك أربعة منهم تتربع على رأسها وهي قوانين الديناميكا الحرارية التي تصف خصائص وآليات انتقال الطاقة. ولو أردت أن تجد ما يذكرك بتطبيقات تلك القوانين فلن تجد أفضل من الثلاجة العادية جدا. فهي تجسد مثلا مبدأ أن حركة الحرارة «الطبيعية» التلقائية تسري بإرادة الله من الحار إلى البارد دائما، فالأشياء لا تكسب برودة وإنما تفقد حرارتها. وتعمل الثلاجة على عكس هذا المبدأ من خلال تزويدها بالطاقة الكهربائية لتبريد الأشياء... قمة الروعة في الوجاهة العلمية والتطبيق العملي والفائدة العظيمة للبشرية. وتأمل أيضا في جودة صناعة الثلاجات: نفتح ونقفل أبوابها وبعض الأحيان «نرزعها» يوميا بمعدلات تفوق ما تتعرض له سيارات التاكسي في بومباي، وبالرغم من ذلك فهي لا تشتكي ولا تدخل في عالم «القرمبع» إلا بعد عمر طويل. وعلى بعد مترين مني أثناء كتابة هذه الكلمات أسمع همس ثلاجتي العتيقة وكأنها تحاول أن «توش وشني»، وللعلم فهي أكبر من بعض أبنائي، ولا تزال تعمل بإخلاص بدون ملل أو كلل بمشيئة الله. وبين كل حين وآخر يصيبها حالة رشح وما يشبه البكاء المصطنع، فتنتج كمية من المياه غير المتوقعة ثم تستعيد صحتها وعافيتها بإرادة الله.

وسأنهي المقال بقصة أغرب من الخيال في عالم الثلاجات: لو سألت علماء الفيزياء اليوم أن يذكروا لك أهم عشرة علماء فسيذكرون لك اسم «ألبرت إينشتاين»، والغالب أنهم سيذكرون أيضا اسم «ليو زيلارد» وكانا من «قبضايات» علماء الفيزياء في مطلع القرن العشرين. وقد حاولا أن يطورا ثلاجة ويطرحوها في السوق في عقد الثلاثينات الميلادية في القرن العشرين. وتحديدا فكانت تقنية التبريد السائدة آنذاك تعتمد على ضغط وإعادة ضغط غازات خطرة كلوريد الميثيل، والنشادر، وثاني أكسيد الكبريد. مثل الذي يربي ثعابين في البيت. بعضها أشبه بالسم «الهاري» ولو هربت من دورتها بداخل منظومة التبريد في الثلاجة فكانت تقتل البشر. واخترع العالمان المرموقان مجموعة آليات جديدة وسجلوا براءات اختراع رسميا، ولكنها لم تفلح فقد دخل عالم التبريد حقبة زمنية جديدة عند اكتشاف مواد مكونة من خلطات كربون وفلور وكلور غير مميتة ورخيصة ومنها «الفريون» الذي نستخدمه إلى يومنا... ترى يا جماعة معلومة خطيرة: إينشاتين «بكبره» حاول أن يخترع ثلاجة جديدة ولم ينجح.


أمنيــــة

في كل مرة نفتح ثلاجتنا نفتح الأبواب على إحدى أهم النعم التي لا نتخيل أبعادها. أتمنى أن نقدر هذه النعم العظيمة التي نراها كل يوم وهي تجسد عطاء النعم التي لا تعد من الخالق الجبار..

وهو من وراء القصد.

* كاتب سعودي