أهنئ الأمير خالد الفيصل اختياره شخصية العام للفكر والإبداع من قبل جمعية فاس سايس المغربية، فسموه جدير بكل تقدير، فقد كان في عطائه فرقداً لا صفاً في فن إدارته، وسهيلاً سامقاً في تميزه، ورمزاً عصى على المثال في تواضعه، ترك بصماته المتفردة في كل مشهد مر عليه في قصة نجاح طويلة ملأها بوافر عطائه، مبلّلاً بعرق التفاني والإخلاص صفحات وطن ملأها بالمنجزات.
استوقفتني عبارته في حفل إطلاق التقرير العربي العاشر للتنمية الثقافية لمؤسسة الفكر العربي الأخيرة بدبي، وهو يقول: «في الألفية الثالثة ومفاهيمها التنموية الجديدة، لم يعد تحسين نوعية الحياة ورفع مستوى المعيشة قائمين على النمو الاقتصادي أو مشروطين به فحسب، بل على المعرفة بشكل عام ومصادرها العلمية والتكنولوجية بشكل خاص».. فهذا المجتزأ من حديث «الفيصل» يمثّل «المصباح» الذي يلزمنا الاهتداء به في طريق التنمية المأمولة وفق رؤية 2030، و«المفتاح» الذي يجب أن نصكّه بوعي لندخل به إلى هذا العالم الذي يمضي سراعا باتجاه فرز المجتمعات وتركها أمام خيارين لا ثالث لهما؛ فإما مجتمع منتج ومواكب، أو مستهلك وخامل.
إن تحديات امتلاك أسباب المعرفة، وحيازة مصادرها العلمية والتكنولوجية يتطلّب منّا عملا جاهدا، وصبرا وعزيمة، «فالتعليم» أول العتبات وأهمها على الإطلاق لتحقيق ذلك، مهتديا في هذا الزعم بالتطور المهول الذي شهدته اليابان وماليزيا والهند والصين، فالمتتبع لمسيرة هذه الدول يجد أنها نهضت في وقت وجيز من وهدة التخلف التنموي إلى هذا الازدهار المبهر بعد أن أولت قضية التعليم جلّ اهتمامها وجعلتها على سلّم أولوياتها، من حيث المنهج المرسوم بدقة وفق الأهداف المرجوة والتطلعات الممرحلة، ومتطلبات كل مرحلة، مع العناية الفائقة بالمعلم بوصفه المرتكز الأساسي الذي يعوّل عليه في توطين هذه المعرفة في أذهان الطلاب، وفتح آفاق التفكير الخلاق، مع توفير البيئة الدراسية المناسبة لتلقي العلم، والمحفزة للتفكير المبدع، والمستنهضة للعصف الذهني، ولهذا فإن اختيار المعلمين في هذه الدول يتم وفق منظومة من المتطلبات والشروط المنضبطة والتي لا تتوفر إلا للعصاميين منهم، وذوي الحجى والعقل الراجح، ومقابل هذه الصرامة في الاختيار فإن المعلم يتمتع بمكانة اجتماعية عالية، فضلاً عن وضع مادي مريح يكفل له العيش الكريم، ويجعل جل جهده ووقته وطاقته الذهنية منصرفة إلى وظيفته الأساسية في إيصال المعرفة وتحفيز طلابه للابتكار وإنتاج المعرفة، وهو ما نشهده اليوم في الدول المشار إليها، وتكفي الإشارة إلى أن اليابان تعد اليوم «كوكبا» في العرف المجازي داخل كوكبنا بما تطرحه كل يوم من ابتكارات ومنتجات تكنولوجية جعلت من حياتها فردوسا على الأرض.
إننا أحوج ما نكون اليوم إلى النظر في مناهجنا الدراسية، وإدراك أنها غير قادرة على تخريج طالب قادر على التفكير «خارج الصندوق»، لأن أغلبها قائم على التلقين والحفظ، بما يحوّل الطالب عندنا إلى مجرد «مستودع» للمعلومات، وكيفما كانت أمانة هذا المستودع ودرجة حفظه، وقابلية استذكاره يأتي التقييم بين مميز، ومتفوق، وجيد جدًا، وما إلى ذلك مما نصِف به عطاء الطلاب، والمحصلة أقل ما توصف به أنها بائسة، وفقيرة، ولا ترتقي بالطالب إلى أي مصاف، ولا تفتح طاقة ذهنه على عالم الابتكار، وإنما تستهلك مساحته في الحفظ، الذي ينتهي مفعوله غالبا عند انتهاء الاختبارات، مثل ما ينتهي الحال بالكتب الدراسية في مكبات القمامة عند نهاية العام الدراسي، وذلك مشهد يختصر العلاقة الفاترة بين الطلاب والمدرسة والمناهج التعليمية.. فمن المهم أن تعاد صياغة هذه المناهج بما يتواءم مع التطور العالمي، مصحوبا بتهيئة المعلم القادر على تحمل هذه المهمة، وتوفير البيئة المناسبة له، والمستوى المعيشي الذي يجعله قادرا على العطاء، منصرف الذهن والجهد إلى طلابه، فمتى ما أحسنّا صياغة التعليم بمراحله المختلفة، فالنتيجة بلا شك ستكون باهرة على المدى البعيد، شريطة أن يصحب ذلك وعي مجتمعي يتخلّص من عادات الاستهلاك السالب، ويشحذ همته باتجاه اكتساب مصادر المعرفة، كلٌّ بحسب قدراته وإمكانياته، فعندما تصبح المعرفة والسعي لتحصيلها ثقافة اجتماعية عامة، ستتغير كثير من المفاهيم غير الإيجابية التي نشهدها في مجتمعنا.
إن الإطار النظري يبدو سهلا وورديا، ولكن الجهد العملي يتطلب عزيمة وصبرا، وفوق ذلك كله وعيا بضرورة تغيير ما نحن عليه، فإما التطور أو الذوبان والتلاشي، فمن المؤكد أن أي دولة تعتمد في مصادر دخلها الاقتصادي على موارد استهلاكية وليست إنتاجية ستذوب قريبا مع تطور وسائل الإنتاج ومصادره عن الدول الأخرى، لذلك يبقى من المهم أن تمضي عجلة المعرفة في وطننا باتجاه «التركيز على البحث العلمي والتطوير التكنولوجي والابتكار وعلاقتها بالتنمية الشاملة والمستدامة»، على نحو ما جاء في تقرير مؤسسة الفكر العربي، التي يحمد لها اعتمادها على خاصية الرصد الدقيق والموثق بالأرقام بما يعطي النتائج التي تتوصل إليها أهمية كبيرة، تستوجب التعاطي معها بشكل جدي، بوصفها حقائق ماثلة على أرض الواقع، وليس مجرد افتراضات نظرية.
إن ما تشهده المملكة اليوم من تطور كبير فتح آفاقه ولي العهد الأمين، وتجلت مظاهره في زياراته الخارجية الأخيرة، يضع مجتمعنا أمام تحديات كبيرة مقبلة، تتطلب تغييرا في المفاهيم، واستعدادا للعطاء، وإسهاما في التنمية، آخذين بعين الاعتبار ما أشار إليه التقرير من أن «الابتكار الثقافي والفني نشاط ضروري لتشكيل مجتمع المعرفة وبناء الصناعات الإبداعية والثقافية التي تقوم على الإنتاج الثقافي والفكري».
* كاتب سعودي
استوقفتني عبارته في حفل إطلاق التقرير العربي العاشر للتنمية الثقافية لمؤسسة الفكر العربي الأخيرة بدبي، وهو يقول: «في الألفية الثالثة ومفاهيمها التنموية الجديدة، لم يعد تحسين نوعية الحياة ورفع مستوى المعيشة قائمين على النمو الاقتصادي أو مشروطين به فحسب، بل على المعرفة بشكل عام ومصادرها العلمية والتكنولوجية بشكل خاص».. فهذا المجتزأ من حديث «الفيصل» يمثّل «المصباح» الذي يلزمنا الاهتداء به في طريق التنمية المأمولة وفق رؤية 2030، و«المفتاح» الذي يجب أن نصكّه بوعي لندخل به إلى هذا العالم الذي يمضي سراعا باتجاه فرز المجتمعات وتركها أمام خيارين لا ثالث لهما؛ فإما مجتمع منتج ومواكب، أو مستهلك وخامل.
إن تحديات امتلاك أسباب المعرفة، وحيازة مصادرها العلمية والتكنولوجية يتطلّب منّا عملا جاهدا، وصبرا وعزيمة، «فالتعليم» أول العتبات وأهمها على الإطلاق لتحقيق ذلك، مهتديا في هذا الزعم بالتطور المهول الذي شهدته اليابان وماليزيا والهند والصين، فالمتتبع لمسيرة هذه الدول يجد أنها نهضت في وقت وجيز من وهدة التخلف التنموي إلى هذا الازدهار المبهر بعد أن أولت قضية التعليم جلّ اهتمامها وجعلتها على سلّم أولوياتها، من حيث المنهج المرسوم بدقة وفق الأهداف المرجوة والتطلعات الممرحلة، ومتطلبات كل مرحلة، مع العناية الفائقة بالمعلم بوصفه المرتكز الأساسي الذي يعوّل عليه في توطين هذه المعرفة في أذهان الطلاب، وفتح آفاق التفكير الخلاق، مع توفير البيئة الدراسية المناسبة لتلقي العلم، والمحفزة للتفكير المبدع، والمستنهضة للعصف الذهني، ولهذا فإن اختيار المعلمين في هذه الدول يتم وفق منظومة من المتطلبات والشروط المنضبطة والتي لا تتوفر إلا للعصاميين منهم، وذوي الحجى والعقل الراجح، ومقابل هذه الصرامة في الاختيار فإن المعلم يتمتع بمكانة اجتماعية عالية، فضلاً عن وضع مادي مريح يكفل له العيش الكريم، ويجعل جل جهده ووقته وطاقته الذهنية منصرفة إلى وظيفته الأساسية في إيصال المعرفة وتحفيز طلابه للابتكار وإنتاج المعرفة، وهو ما نشهده اليوم في الدول المشار إليها، وتكفي الإشارة إلى أن اليابان تعد اليوم «كوكبا» في العرف المجازي داخل كوكبنا بما تطرحه كل يوم من ابتكارات ومنتجات تكنولوجية جعلت من حياتها فردوسا على الأرض.
إننا أحوج ما نكون اليوم إلى النظر في مناهجنا الدراسية، وإدراك أنها غير قادرة على تخريج طالب قادر على التفكير «خارج الصندوق»، لأن أغلبها قائم على التلقين والحفظ، بما يحوّل الطالب عندنا إلى مجرد «مستودع» للمعلومات، وكيفما كانت أمانة هذا المستودع ودرجة حفظه، وقابلية استذكاره يأتي التقييم بين مميز، ومتفوق، وجيد جدًا، وما إلى ذلك مما نصِف به عطاء الطلاب، والمحصلة أقل ما توصف به أنها بائسة، وفقيرة، ولا ترتقي بالطالب إلى أي مصاف، ولا تفتح طاقة ذهنه على عالم الابتكار، وإنما تستهلك مساحته في الحفظ، الذي ينتهي مفعوله غالبا عند انتهاء الاختبارات، مثل ما ينتهي الحال بالكتب الدراسية في مكبات القمامة عند نهاية العام الدراسي، وذلك مشهد يختصر العلاقة الفاترة بين الطلاب والمدرسة والمناهج التعليمية.. فمن المهم أن تعاد صياغة هذه المناهج بما يتواءم مع التطور العالمي، مصحوبا بتهيئة المعلم القادر على تحمل هذه المهمة، وتوفير البيئة المناسبة له، والمستوى المعيشي الذي يجعله قادرا على العطاء، منصرف الذهن والجهد إلى طلابه، فمتى ما أحسنّا صياغة التعليم بمراحله المختلفة، فالنتيجة بلا شك ستكون باهرة على المدى البعيد، شريطة أن يصحب ذلك وعي مجتمعي يتخلّص من عادات الاستهلاك السالب، ويشحذ همته باتجاه اكتساب مصادر المعرفة، كلٌّ بحسب قدراته وإمكانياته، فعندما تصبح المعرفة والسعي لتحصيلها ثقافة اجتماعية عامة، ستتغير كثير من المفاهيم غير الإيجابية التي نشهدها في مجتمعنا.
إن الإطار النظري يبدو سهلا وورديا، ولكن الجهد العملي يتطلب عزيمة وصبرا، وفوق ذلك كله وعيا بضرورة تغيير ما نحن عليه، فإما التطور أو الذوبان والتلاشي، فمن المؤكد أن أي دولة تعتمد في مصادر دخلها الاقتصادي على موارد استهلاكية وليست إنتاجية ستذوب قريبا مع تطور وسائل الإنتاج ومصادره عن الدول الأخرى، لذلك يبقى من المهم أن تمضي عجلة المعرفة في وطننا باتجاه «التركيز على البحث العلمي والتطوير التكنولوجي والابتكار وعلاقتها بالتنمية الشاملة والمستدامة»، على نحو ما جاء في تقرير مؤسسة الفكر العربي، التي يحمد لها اعتمادها على خاصية الرصد الدقيق والموثق بالأرقام بما يعطي النتائج التي تتوصل إليها أهمية كبيرة، تستوجب التعاطي معها بشكل جدي، بوصفها حقائق ماثلة على أرض الواقع، وليس مجرد افتراضات نظرية.
إن ما تشهده المملكة اليوم من تطور كبير فتح آفاقه ولي العهد الأمين، وتجلت مظاهره في زياراته الخارجية الأخيرة، يضع مجتمعنا أمام تحديات كبيرة مقبلة، تتطلب تغييرا في المفاهيم، واستعدادا للعطاء، وإسهاما في التنمية، آخذين بعين الاعتبار ما أشار إليه التقرير من أن «الابتكار الثقافي والفني نشاط ضروري لتشكيل مجتمع المعرفة وبناء الصناعات الإبداعية والثقافية التي تقوم على الإنتاج الثقافي والفكري».
* كاتب سعودي