هناك أقلام لا تشاركنا تفاصيل الكتابة والحروف فقط، عندما تكتب، بل تشاركنا أيضاً الهواء على المتسع الجغرافي الذي تكتب عنه، هذا ما فعله الدكتور (حمود أبوطالب) عندما قام بإهداء المكتبة العربية كتابه «جدة مساء الثلاثاء» وبعنوان فرعي «مجتمع في صالون» رسم حمود لوحة رائعة لمجلس ورجل يحمل شامة الاستثناء، الرجل هو (أبو الشيماء) محمد سعيد طيب، والمجلس هو ثلوثيته. الكتاب نزهة طويلة سيراً على كتف الزمان، يستعرض صف النمل الذي كان يرتاد المجلس بحثاً عن السكر، ويكتب عن إنسان عرفناه رجلاً بإيمان طفل يصدق كل ما تقوله أحلامه، إنسان طالما أهدنا بعضاً من سكاكره التي التصقت أغلفتها بقبضته من فرط حرصه عليها، عندما كتب الدكتور حمود عن (أبي الشيماء) كتب عن إنسان برائحة التفاح، أخضر القلب كورق شجر الجنة، والكاف هنا لا أقصد فيها التشبيه، الكاف هنا استخدمتها للتبجيل والتكريم، رسم حمود وجهاً لا ينطق إلا كلمات بيضاء، ومجلس هو مجتمع راق في صالون، والصالون الذي يتحدث عنه هو حراك الجهات الثلاث الشمال والجنوب والشرق، الغرب هو صاحب المجلس الذي كان يكتب على بابه دئماً (أهلاً) ويقدم لنا ما يزيد على اليد والقلب، يلقي بعصا الحوار فينفتح البحر، ويتدفق ماء الروح، يحرق ملح الرمال، والليل يصبح محبرة السماء، وأدمنا كوثره الذي أعطانا حوار الخلود، وكان حوارنا لا يوقظ الجار، ولا تهرب منه الطيور، حوار ناصع جدير بالشمس، مضيء كزجاج المصابيح، وتعلمنا الحلم من سيد المجلس، وكيف نعيش الزمان والمكان والواقع، وكيف نرتقي سلم الأمل، وكيف نعد براعم الليمون برعماً برعماً، وأن جنائن اللوز هي الوطن، وأن الإصلاح هو الكلمة الحسنة وأنها هي الزيتون الذي يمتد في زيته، كان الوطن حبه الهادر، وخوفه عليه يتسلل تحت أعصابه كل ليلة، وظل هذا المجلس لنا، طاقة روحية خاصة تطفح بكل مقومات الحياة ومباهجها الفكرية والحضارية، أصبح الواحد منا كالطفل الذي لا يعرف من الحديقة سوى بساطها الأخضر، يلعب عليه، ويقطف من شجراتها ورودها الملونة، ظل المجلس لذتنا القصوى، حيث يوزع سيد المجلس سعادته بالناس على الناس، وعرفنا أشياء كثيرة معه، الحلو والمر، والأسود والأبيض، الحار والبارد، وذقنا معه مزيج الحياة سكرها وعلقمها، ولأن (أبا الشيماء) هو الصباح الأجمل، جعلت هذا الصباح إطاراً لصورته ومجلسه، ومن ما كتبه الدكتور الصديق القريب (حمود أبوطالب) في «جدة مساء الثلاثاء» من إضافة لكل ما يخطر في الذاكرة وتتدبره المخيلة، من سيل الحكايات عن المجلس وسيده، من أحاديث وشخصيات اكتظ بها الكتاب وظلت تتحرك في الحيز نفسه من الزمان والمكان والانفعالات والمشاعر حتى نكاد نراهم في كل من هم حولنا، دعوة لمصاحبة هذا العملاق نزهة بوحه، لا تنظروا إلى موقع أقدامكم، انظروا إليه، انظروا إليه بإيمان طفل يصدق كل ما يقول، دعوة يهديكم فيها الدكتور (حمود أبوطالب) بعض سكاكره، ورحيق علق في أرواحنا، ولازلنا نتذوق شهده.