إذا كلف إنسان ما بمهمة يقوم بها فذهب لإنجازها ثم أقبل على «جماعته» فإن أهلنا في بلاد الشام يسألونه عن نتائج المهمة التي قام بها، وهل نجحت مساعيه أم لم تنجح ويلخصون ذلك بقولهم: قمحة أم شعيرة؟ فإن قال قمحة فإنه يعلن بذلك نجاحه الباهر في مهمته وإن قال شعيرة فإنهم يفهمون أنه لم ينجح، أو أن نجاحه كان نسبياً، لأن القمح أغلى وأهم من الشعير، فالأول طعام للبشر والثاني للبهائم، وذلك لا يتعارض مع كون المسلمين الأوائل قد استخدموا الشعير في صنع خبزهم وأن العديد من الأطعمة والمشروبات تصنع من الشعير وأن له فوائد طبية يتحدث عنها كثير من الناس نقلاً عن كتب التراث والمختصين في مجال الطب البديل، ولكن ارتباط المادة الرئيسية بالقمح وهي الخبز جعل له الأفضلية على الشعير. أما في مناطق الصحراء فلم يستخدموا السؤال نفسه بل جاؤوا به جافاً مُحرجاً لمن يقدم على قومه بعد تكليفه بعمل أو مهمة، فهم لم يخيروه بين أن يكون قد حصل على قمحة أو شعيرة ليختار إحداهما، بل صعبوا أمامه الخيار بقولهم: سبع أم ضبع؟، فإن كان قد نجح فرك شاربه المفتول وقال: بل سبع ابن سبع وقدم لهم دليل النجاح، أما إن لم يحالفه الحظ فإنه يجد نفسه محرجاً من وصف نفسه بأنه ضبع لوجود صورة ذهنية غير جيدة عن هذا الحيوان الوضيع مقابل السبع الشامخ وهو الأسد، وربما ورد السؤال نفسه في صيغة أخرى مثل ذئب أم نعجة؟
فيصعب على من لم ينجح في مهمته وهو ابن الصحراء المعتز بأصالته أن يقول بل نعجة، فيعمد إلى التهرب من السؤال واللف والدوران وتقديم معلومات غير دقيقة ومواعيد قادمة وأنه وعد بإنهاء الأمر في الجولة القادمة لنقص بعض الأوراق التي يحتاجها إنهاء المعاملة التي كلف بها، ليخرج بعد ذلك من المهمة وهو لا يلوي على شيء، ولو كنت مكانه لفعلت كما فعل!
وعلى أية حال فإن المثالين السابقين يؤكدان أن للبيئة أثرها في اختيار الألفاظ عند صياغة الحكم والأمثال والأسئلة ووصف الأشياء، فالمجتمع الزراعي تنمو فيه كلمات لها علاقة بالخضرة والأزهار والثمار والمجتمع الصحراوي تنمو فيه كلمات لها علاقة بالإبل والسباع والجوارح من الطير، ألم تُورد كتب الأدب قصة الشاعر الذي قدم من الصحراء ومدح أحد الخلفاء العباسيين فقال عنه:
أنت كالكلب في الوفاء
وكالتيس في قراع الخطوب
فلما هم المنافقون «المتزلقون» بزجر الشاعر تدخل الخليفة ومنعهم وطلب منهم استضافته في حي الرصافة من بغداد، وهو حي زاخر بالفنون والجمال فلما مثل بين يديه بعد أسابيع صدح بقصيدة يقول مطلعها:
عيون المها بين الرصافة والجسر
جلبن الهوى من حيث ندري ولا ندري،
فعلق الخليفة على ذلك بقوله: أرسلناه ليَلين فسَاح!
فيصعب على من لم ينجح في مهمته وهو ابن الصحراء المعتز بأصالته أن يقول بل نعجة، فيعمد إلى التهرب من السؤال واللف والدوران وتقديم معلومات غير دقيقة ومواعيد قادمة وأنه وعد بإنهاء الأمر في الجولة القادمة لنقص بعض الأوراق التي يحتاجها إنهاء المعاملة التي كلف بها، ليخرج بعد ذلك من المهمة وهو لا يلوي على شيء، ولو كنت مكانه لفعلت كما فعل!
وعلى أية حال فإن المثالين السابقين يؤكدان أن للبيئة أثرها في اختيار الألفاظ عند صياغة الحكم والأمثال والأسئلة ووصف الأشياء، فالمجتمع الزراعي تنمو فيه كلمات لها علاقة بالخضرة والأزهار والثمار والمجتمع الصحراوي تنمو فيه كلمات لها علاقة بالإبل والسباع والجوارح من الطير، ألم تُورد كتب الأدب قصة الشاعر الذي قدم من الصحراء ومدح أحد الخلفاء العباسيين فقال عنه:
أنت كالكلب في الوفاء
وكالتيس في قراع الخطوب
فلما هم المنافقون «المتزلقون» بزجر الشاعر تدخل الخليفة ومنعهم وطلب منهم استضافته في حي الرصافة من بغداد، وهو حي زاخر بالفنون والجمال فلما مثل بين يديه بعد أسابيع صدح بقصيدة يقول مطلعها:
عيون المها بين الرصافة والجسر
جلبن الهوى من حيث ندري ولا ندري،
فعلق الخليفة على ذلك بقوله: أرسلناه ليَلين فسَاح!