-A +A
مصطفى النعمان
أعلنت وكالة الأنباء الرسمية الصينية أن الرئيس شي جينبينغ أبلغ وزير الدفاع الأمريكي «جيمس ماتيس» (أن الصين لن تتنازل عن بوصة واحدة من الأراضي التي تركها لنا أسلافنا. نحن لا نريد ما هو حق لغيرنا)، ويأتي هذا التصريح في الوقت الذي ترتفع فيه حدة الحرب الاقتصادية بين البلدين في إطار القرارات التي اتخذها الرئيس الأمريكي دونالد ترمب بفرض رسوم على الواردات الصينية ما استدعى رد فعل مماثل، وإن لم يكن - حتى الآن - بنفس النسبة المفروضة على الواردات الأمريكية.

الصراع الاقتصادي وارتفاع نبرة اللهجة الصينية في المجال العسكري تبرهن على براعة قيادتها خلال العقود الثلاثة الماضية في التركيز على البنية الاقتصادية قبل البدء في إظهار نواياها في إسقاط ذلك على وجودها العسكري والاقتصادي في القارة الآسيوية، وكذا تمددها الاقتصادي في أفريقيا، وليس ذلك بغرض المنح والهبات ولكن لفرض وجودها القوي في المواقع التي تستطيع الوصول إليها بيسر خصوصا في الدول التي تعاني من مصاعب اقتصادية وتكون محتاجة لمساعدات مالية.


قبل أيّام نشرت صحيفة النيويورك تايمز تقريرا مثيرا حول التوجه الصيني في إدارة موانئ عدة حول العالم وخصوصا في آسيا، ونشرت خارطة لمواقع الموانئ التي تقوم بتمويلها إما كليا أو جزئيا، وكان ميناء «هامبانتوتا» (HAMBANTOTA) في سريلانكا نموذجا للمزيد من النفوذ الصيني عبر الاستثمار المباشر هناك، وعبر شبكة من الفساد الحكومي، حيث وافقت على إنشائه رغم عدم جدواه اقتصاديا حاليا.

كانت الصين تعمل على التمدد السياسي ببطء وبخجل، إذ كانت تنفي دائما عن نفسها أنها قوة عظمى رغم الاعتراف العالمي، لكن الرئيس الحالي «شي» أعلن في آخر مؤتمر للحزب الشيوعي الحاكم عن نية بلاده ممارسة الدور الدولي الذي يتناسب مع قوة اقتصادها ونمو طموحاتها، ولم يكن الأمر مفاجأة وإن تأخر كثيرا الإعلان عنها وجعلها سياسة معروفة للجميع.

حاولت - ومازالت - الولايات المتحدة احتواء الصين سياسيا وعسكريا، ثم توجهت نحو الاستفادة من الارتفاع المذهل في معدلات النمو الاقتصادي هناك الذي ارتفع بمستوى الإنسان الصيني بعد عقود من حياة تقشف بلغت حد الفقر، لكن التأني في اتخاذ القرارات بعد دراستها والتدقيق في أهدافها الوطنية بعيدة المدى جعل التحرك أكثر قبولا عند المواطنين ولم يثر تخوفا في بداياته عند الغرب الذي رأى في الأمر فرصة للاستثمار والمنافع المشتركة.

عندما توفي الزعيم الصيني «ماو تسيدونج» في ٩ سبتمبر ١٩٧٦، تحكم في إدارة البلاد ما عرف حينها بـ (عصابة الأربعة) التي تزعمتها زوجته، التي سرعان ما تم التخلص منه، وسرعان ما تم إعلان البدء في تطبيق (التحديثات الأربعة) في مجالات الزراعة، الصناعة، الدفاع، والعلوم والتقنية، وهي قواعد النمو التي تبناها الحزب في يناير ١٩٦٣، لكن زخم «الثورة الثقافية» التي قادها «ماو» منع التقدم نحو مرحلة التحديثات وجاءت وفاته لتتيح الفرصة لصعود «هوا قيوفنج» لقيادة الحزب فترة قصيرة والإعلان عن انتهاء مرحلة «الثورة الثقافية»، وبدأت الصين تدخل مرحلة جديدة في تاريخها بقيادة جديدة كان منظرها «دينق شياوبينق» (لم يتول موقع الأمين العام للحزب أو رئاسة الدولة أو رئاسة الحكومة) الذي كان مقتنعا بأهمية التحول في إدارة المجتمع نحو اقتصاد السوق المفتوح مع الإبقاء على السيطرة المطلقة للحزب الشيوعي سياسيا، ما أتاح فرصة الانتقال السلس والنمو المتعاظم.

التجربة الصينية درس في الإبقاء على هياكل الدولة مع تحديثها، ومتابعة تحولاتها، والتشديد على انضباط إداراتها دون إحداث اهتزازات مفاجئة يصعب التحكم والسيطرة على مخرجاتها، ومن ثم تعطيل نشاطها، ومن المهم الانتباه إلى الكيفية التي ينمو معها النفوذ الصيني سياسيا باستخدام اللغة الهادئة والحاسمة في آن، مع عرض أهداف واضحة تسهم في خلق جو داخلي يتقبلها ويرى فيها أهدافا قومية لا طموحات شخصية تنتهي وينتفي الغرض منها بغياب من يقودونها عن المشهد.

* كاتب يمني وسفير سابق

mustapha.noman@gmail.com