عندما نتأمل «الساحات» التي يتم فيها التحارب فيما بين الدول المختلفة، لحسم خلافاتها وصراعاتها، نجد أن هذه الساحات هي: الأرض، الجو، البحر، الفضاء. والآن، أضيفت ساحة خامسة جديدة، لا تقل أهمية عن الساحات الأربع الأخرى، هي ساحة الفضاء الإلكتروني. اعتمدت هذه الساحة في العقدين الماضيين من قبل الدول المتقدمة، وغيرها. وبدأت معظم دول العالم تعمل بجد على ضمان أمنها الإلكتروني، والاستعداد لمواجهة «الهجمات» الإلكترونية، ووضع الإستراتيجيات الدفاعية والهجومية الإلكترونية، أي صد الهجمات المحتملة، وشن حملات هجومية انتقامية مدمرة.
بدأت ثورة المعلومات في مجال الاتصالات عام 1888م على يد الألماني «هرتز». وفي عام 1897م استطاع المخترع الإيطالي «ماركوني» تطوير جهاز لا سلكي، يصلح حتى للاستخدام في البحر. وبعد ذلك، بذلت محاولات متتالية للقضاء على التشويش غير المتعمد، حتى وصل العالم لمرحلة «الإنترنت»، وانتشار استخدام هذا الاختراع المفصلي منذ بداية العقد الأخير من القرن العشرين الماضي. فكما نعرف، أصبحت شبكات الإنترنت أساسية في مجال الاتصالات، وصارت تستعمل – كضرورة – في التعاملات وأجهزة التحكم والسيطرة. كما استخدمت في معظم الحروب التي شنت في العقود الثلاثة الأخيرة، وأثبتت كفاءة هائلة ونوعية في تحقيق الأهداف المبتغاة، وانتقلت العديد من وسائل التحكم والسيطرة، المتعلقة بعمليات حربية واستخباراتية ومدنية، إلى الفضاء في هيئة أقمار صناعية، ومحطات فضائية.
لقد أدى التقدم العلمي الهائل في مجال الاتصالات إلى أن يصبح «الفضاء الإلكتروني» (Cyber Space) ساحة رحبة للتنافس فيما بين الدول، ولصراعها من أجل القوة. و«الفضاء الإلكتروني» هو: الوسط الذي تتواجد فيه شبكات الحاسوب بأنواعها، ويتم من خلاله وعبرها التواصل الإلكتروني. ونشأت «جرائم» إلكترونية يشار إليها بـ «الجرائم المعلوماتية»، أو «القرصنة الإلكترونية» - وأيضا ما يسمى بـ «الذباب الإلكتروني» - التي كثيرا ما تهدد أمن وسلامة الأفراد والمؤسسات، والدول نفسها. وأمسى هناك إرهاب إلكتروني، إضافة إلى استعمال الـ«فيروسات» الإلكترونية، لشن هجمات على الأعداء. وبالطبع، فإن الفضاء الإلكتروني لا يستخدم للأذى والتدمير فقط، بل يستخدم إيجابا أيضا في الكثير من جوانب الحياة، كتسيير الأعمال، وتطبيق القوانين، وتنظيم معظم البنى التحتية المعلوماتية، المدنية والعسكرية.
***
أصبحت «الحرب الإلكترونية» نوعا رئيسيا من حروب العصر. وهي غالبا ما تكون عبارة عن: أعمال تقوم بها دولة (أو طرف ما) لاختراق أجهزة الكمبيوتر والشبكات التابعة لدولة أخرى، بهدف تعطيلها، أو إلحاق أضرار بالغة بها. ويشار إليها أيضا بـ «حروب الإنترنت» (Cyberwarfare). ويشار إلى مهاجمي ما يعتبرونهم الأعداء، من خبراء هذه الحروب بـ «المخترقين» (Hackers). وهي حروب أدمغة أساسا. وتستهدف التجسس، وتدمير الشبكات الإلكترونية للعدو. باتت كل الأطراف (الأفراد، الجماعات، المؤسسات، الدول... إلخ) ليست في مأمن من تأثيرات الحروب الإلكترونية، التي تتفوق فيها الدول التي تمتلك المعرفة والتقنية المتقدمة، على غيرها من الدول الأقل تقدما في هذا المجال.
إنها عمل تخريبي فتاك، يقوم به طرف، أو أطراف، بمهاجمة آخرين، وتدمير شبكات معلوماتهم، عبر الإنترنت، مسببا أضرارا فادحة في البنى التحتية ذات الحساسية المرتفعة. ولحداثتها النسبية، لم يتم بعد «تنظيم» هذه الحروب وتقنين استخدامها، عبر اتفاقيات دولية مشابهة لاتفاقيات الحروب الأخرى. وحرب الفضاء الإلكتروني لا تعتبر رديفا للحرب الإلكترونية التي نتحدث عنها هنا، بل هي حرب تستهدف أصلا ضرب وتخريب الشبكات الإلكترونية، المدنية والعسكرية المهمة.
***
وتعتبر الولايات المتحدة الأكثر تقدما في مجال الحروب الإلكترونية. وكونت أخيرا فرعا للأمن السيبراني في قواتها المسلحة. كما أن هناك دولا لديها وحدات «مقاتلة» ماهرة في هذه الحروب. ولديها خبرة ومهارة كبيرة في استخدام تقنية المعلومات (IT) والإنترنت بخاصة، كأسلحة فتاكة ضد أعدائها. وهذه المهارة يمكن أن تغير – كثيرا – في موازين القوى العسكرية، ما لم تواجه بمهارات مماثلة.
وقد وقعت «الهيئة الوطنية السعودية للأمن السيبراني» أخيرا اتفاقية تعاون مع وزارة التعليم، بموجبها يتم تخصيص 1000 مقعد، بواقع 200 مقعد سنويا، لمدة خمس سنوات، بهدف إعداد متخصصين مؤهلين للعمل في مجال الأمن السيبراني. وذلك عن طريق برنامج خادم الحرمين الشريفين للابتعاث. وذلك يؤكد اهتمام المملكة بهذا المجال، وربطها بين الوظائف المتاحة والابتعاث الخارجي. وأدرجت جامعات سعودية في خططها التدريسية للعام الدراسي القادم تخصصات جديدة تشمل الذكاء الاصطناعي وأمن المعلومات. (عكاظ: العدد 18926، 21 / 6 / 2018م، ص 1، 8 ؛ والعدد 18927، ص 1).
ويعتبر موقع «ويكليكس» (Wikileaks)، الذي تأسس عام 2006م، من الشواهد على كيفية استخدام الإنترنت في الاتصالات، واختراق الكمبيوترات المختلفة، لجمع المعلومات السري أغلبها، تماما كتلك التي كشف عنها «جوليان أسانغ»، مؤسس ويكليكس في صيف عام 2011م. وأيضا ما قامت به الولايات المتحدة، وكشف عام 2015م، من عمليات تجسس على أصدقائها من رؤساء بعض الدول الأوروبية.
***
والخلاصة، أضحى الفضاء الإلكتروني الساحة الخامسة للحروب المعاصرة، وأصبح من أهم هواجس الدول الأمنية هو تحقيق الأمن الإلكتروني، الذي يعني: ضمان أمن وسلامة منشآتها الإلكترونية، عبر: تأسيس برامج متطورة لمواجهة التهديدات، وتحصين شبكاتها الإلكترونية (الدفاع) وتطوير، وتطبيق، تقنيات يمكن بواسطتها إنزال أذى بالأعداء (الهجوم).
وبات يتوجب على كل الدول أن يكون لها «جيش» (صغير العدد، كبير الفاعلية) من الخبراء الإلكترونيين القادرين على حماية بلادهم من أضرار الحروب والاختراقات الإلكترونية، في جانبي الدفاع والهجوم. وجهزت كثير من الدول بالفعل جيوشها بوحدات إلكترونية... تحارب دفاعا عن أوطانها، تماما كما يحارب الجندي العادي من أجل بلاده في ساحات الوغى. وقد تكون لنا لاحقا وقفة أخرى مع هذا الموضوع، إن شاء الله.
قال وقلت:
قال لي صديق: إذا كنا نسمّي السيوف والخناجر وما شابههما، بالسلاح الأبيض، والأسلحة المتفجرة بالنارية، والأسلحة بالغة الضرر بأسلحة الدمار الشامل، فماذا يمكن أن نسمّي السلاح الإلكتروني؟!
قلت: أقترح تسميته بـ «السلاح الأسود الخفي»، كناية عن كونه فتاكا ولا يرى بالعين المجردة.
* كاتب سعودي
بدأت ثورة المعلومات في مجال الاتصالات عام 1888م على يد الألماني «هرتز». وفي عام 1897م استطاع المخترع الإيطالي «ماركوني» تطوير جهاز لا سلكي، يصلح حتى للاستخدام في البحر. وبعد ذلك، بذلت محاولات متتالية للقضاء على التشويش غير المتعمد، حتى وصل العالم لمرحلة «الإنترنت»، وانتشار استخدام هذا الاختراع المفصلي منذ بداية العقد الأخير من القرن العشرين الماضي. فكما نعرف، أصبحت شبكات الإنترنت أساسية في مجال الاتصالات، وصارت تستعمل – كضرورة – في التعاملات وأجهزة التحكم والسيطرة. كما استخدمت في معظم الحروب التي شنت في العقود الثلاثة الأخيرة، وأثبتت كفاءة هائلة ونوعية في تحقيق الأهداف المبتغاة، وانتقلت العديد من وسائل التحكم والسيطرة، المتعلقة بعمليات حربية واستخباراتية ومدنية، إلى الفضاء في هيئة أقمار صناعية، ومحطات فضائية.
لقد أدى التقدم العلمي الهائل في مجال الاتصالات إلى أن يصبح «الفضاء الإلكتروني» (Cyber Space) ساحة رحبة للتنافس فيما بين الدول، ولصراعها من أجل القوة. و«الفضاء الإلكتروني» هو: الوسط الذي تتواجد فيه شبكات الحاسوب بأنواعها، ويتم من خلاله وعبرها التواصل الإلكتروني. ونشأت «جرائم» إلكترونية يشار إليها بـ «الجرائم المعلوماتية»، أو «القرصنة الإلكترونية» - وأيضا ما يسمى بـ «الذباب الإلكتروني» - التي كثيرا ما تهدد أمن وسلامة الأفراد والمؤسسات، والدول نفسها. وأمسى هناك إرهاب إلكتروني، إضافة إلى استعمال الـ«فيروسات» الإلكترونية، لشن هجمات على الأعداء. وبالطبع، فإن الفضاء الإلكتروني لا يستخدم للأذى والتدمير فقط، بل يستخدم إيجابا أيضا في الكثير من جوانب الحياة، كتسيير الأعمال، وتطبيق القوانين، وتنظيم معظم البنى التحتية المعلوماتية، المدنية والعسكرية.
***
أصبحت «الحرب الإلكترونية» نوعا رئيسيا من حروب العصر. وهي غالبا ما تكون عبارة عن: أعمال تقوم بها دولة (أو طرف ما) لاختراق أجهزة الكمبيوتر والشبكات التابعة لدولة أخرى، بهدف تعطيلها، أو إلحاق أضرار بالغة بها. ويشار إليها أيضا بـ «حروب الإنترنت» (Cyberwarfare). ويشار إلى مهاجمي ما يعتبرونهم الأعداء، من خبراء هذه الحروب بـ «المخترقين» (Hackers). وهي حروب أدمغة أساسا. وتستهدف التجسس، وتدمير الشبكات الإلكترونية للعدو. باتت كل الأطراف (الأفراد، الجماعات، المؤسسات، الدول... إلخ) ليست في مأمن من تأثيرات الحروب الإلكترونية، التي تتفوق فيها الدول التي تمتلك المعرفة والتقنية المتقدمة، على غيرها من الدول الأقل تقدما في هذا المجال.
إنها عمل تخريبي فتاك، يقوم به طرف، أو أطراف، بمهاجمة آخرين، وتدمير شبكات معلوماتهم، عبر الإنترنت، مسببا أضرارا فادحة في البنى التحتية ذات الحساسية المرتفعة. ولحداثتها النسبية، لم يتم بعد «تنظيم» هذه الحروب وتقنين استخدامها، عبر اتفاقيات دولية مشابهة لاتفاقيات الحروب الأخرى. وحرب الفضاء الإلكتروني لا تعتبر رديفا للحرب الإلكترونية التي نتحدث عنها هنا، بل هي حرب تستهدف أصلا ضرب وتخريب الشبكات الإلكترونية، المدنية والعسكرية المهمة.
***
وتعتبر الولايات المتحدة الأكثر تقدما في مجال الحروب الإلكترونية. وكونت أخيرا فرعا للأمن السيبراني في قواتها المسلحة. كما أن هناك دولا لديها وحدات «مقاتلة» ماهرة في هذه الحروب. ولديها خبرة ومهارة كبيرة في استخدام تقنية المعلومات (IT) والإنترنت بخاصة، كأسلحة فتاكة ضد أعدائها. وهذه المهارة يمكن أن تغير – كثيرا – في موازين القوى العسكرية، ما لم تواجه بمهارات مماثلة.
وقد وقعت «الهيئة الوطنية السعودية للأمن السيبراني» أخيرا اتفاقية تعاون مع وزارة التعليم، بموجبها يتم تخصيص 1000 مقعد، بواقع 200 مقعد سنويا، لمدة خمس سنوات، بهدف إعداد متخصصين مؤهلين للعمل في مجال الأمن السيبراني. وذلك عن طريق برنامج خادم الحرمين الشريفين للابتعاث. وذلك يؤكد اهتمام المملكة بهذا المجال، وربطها بين الوظائف المتاحة والابتعاث الخارجي. وأدرجت جامعات سعودية في خططها التدريسية للعام الدراسي القادم تخصصات جديدة تشمل الذكاء الاصطناعي وأمن المعلومات. (عكاظ: العدد 18926، 21 / 6 / 2018م، ص 1، 8 ؛ والعدد 18927، ص 1).
ويعتبر موقع «ويكليكس» (Wikileaks)، الذي تأسس عام 2006م، من الشواهد على كيفية استخدام الإنترنت في الاتصالات، واختراق الكمبيوترات المختلفة، لجمع المعلومات السري أغلبها، تماما كتلك التي كشف عنها «جوليان أسانغ»، مؤسس ويكليكس في صيف عام 2011م. وأيضا ما قامت به الولايات المتحدة، وكشف عام 2015م، من عمليات تجسس على أصدقائها من رؤساء بعض الدول الأوروبية.
***
والخلاصة، أضحى الفضاء الإلكتروني الساحة الخامسة للحروب المعاصرة، وأصبح من أهم هواجس الدول الأمنية هو تحقيق الأمن الإلكتروني، الذي يعني: ضمان أمن وسلامة منشآتها الإلكترونية، عبر: تأسيس برامج متطورة لمواجهة التهديدات، وتحصين شبكاتها الإلكترونية (الدفاع) وتطوير، وتطبيق، تقنيات يمكن بواسطتها إنزال أذى بالأعداء (الهجوم).
وبات يتوجب على كل الدول أن يكون لها «جيش» (صغير العدد، كبير الفاعلية) من الخبراء الإلكترونيين القادرين على حماية بلادهم من أضرار الحروب والاختراقات الإلكترونية، في جانبي الدفاع والهجوم. وجهزت كثير من الدول بالفعل جيوشها بوحدات إلكترونية... تحارب دفاعا عن أوطانها، تماما كما يحارب الجندي العادي من أجل بلاده في ساحات الوغى. وقد تكون لنا لاحقا وقفة أخرى مع هذا الموضوع، إن شاء الله.
قال وقلت:
قال لي صديق: إذا كنا نسمّي السيوف والخناجر وما شابههما، بالسلاح الأبيض، والأسلحة المتفجرة بالنارية، والأسلحة بالغة الضرر بأسلحة الدمار الشامل، فماذا يمكن أن نسمّي السلاح الإلكتروني؟!
قلت: أقترح تسميته بـ «السلاح الأسود الخفي»، كناية عن كونه فتاكا ولا يرى بالعين المجردة.
* كاتب سعودي