يعتمد التحليل السياسي بشكل عام على وضع الأحداث السياسية في سياقها الزماني والمكاني، من أجل فهم أفضل لها، وفي مرحلة أرقى يقوم المحلل بتفكيك المشهد السياسي وإعادة تركيبه مرة أخرى، بحيث يصبح للحدث السياسي معنى محدد وواضح، ولا يضيع في زحام الأحداث وضجيج الواقع. ولكن الخطأ الجسيم الذي يمكن أن يقع فيه أي محلل هو عندما يفترض حدثا معينا دون أن تكون لديه وقائع يمكن أن تثبته أو تنفيه، ثم يبني تحليله السياسي على أساس ذلك الحدث، لكن هذا الحدث غير المؤكد يمثل نقطة الضعف التي تجعل انهيار البناء التحليلي مسألة سهلة، وهذا ما يسمى (نظرية المؤامرة). السؤال الأهم: لماذا تلجأ وسيلة إعلامية أو محلل سياسي إلى الاستناد إلى حدث غير مؤكد أو مختلق برمته؟ إذا ما تعاملنا بحسن نية فإن نظرية المؤامرة هي طريقة سهلة تجعلنا نجيب عن كل الأسئلة المتعلقة بحدث سياسي معين، لأن المؤامرة حينذاك تصبح الشماعة التي يمكن أن تعلق عليها كل الأحداث السياسية بدون عناء التفكيك والتركيب أو محاولة الاقتراب من المشهد السياسي برمته. إلا أن نظرية المؤامرة يمكن أن تذهب أبعد من ذلك بكثير عندما تتحول إستراتيجية لدى وسائل إعلام وطبقة من المحللين، الهدف من ورائها تبرير ما لا يمكن تبريره أو الابتعاد عن حقائق تدين الجهة التي تدافع عنها وسائل الإعلام تلك، أو استخدام نظرية المؤامرة كوسيلة في شن الحرب الإعلامية (البروبوغندا) وإدانة طرف سياسي هو عدو أو خصم سياسي. لعل المثال الأبرز الذي شهدناه خلال السنوات الماضية هو الثورة السورية، حيث استخدم المدافعون عن النظام نظرية المؤامرة لتبرير سياسة النظام وتصرفاته. فقد كانت المؤامرة الكونية التي يتعرض لها النظام من وجهة نظر هؤلاء مناسبة جدا من أجل إدانة الثوار والمعارضة السورية باعتبارها مشاركة في مؤامرة تستهدف الوطن، كما أن المؤامرة تبعد الأنظار عن الأسباب التي أدت إلى اندلاع الثورة السورية وكذا عن استخدام النظام للقوة المفرطة في مواجهة المدنيين. وهكذا أصبحت نظرية المؤامرة الوسيلة المثلى لتجاهل الواقع السوري وإدانة المعارضة.
المثال الآخر الذي لا يقل وضوحا هو ما اصطلح على تسميته (صفقة القرن) التي أصبحت الحديث الدائم لوسائل إعلامية تشن حربا إعلامية ضد أطراف متعددة في المنطقة تعتبرها خصما أو عدوا سياسيا.
ظهر مصطلح صفقة القرن للمرة الأولى على لسان الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، في حديث له حول ضرورة الوصول إلى تسوية سياسية للقضية الفلسطينية والصراع العربي ــ الإسرائيلي، واعتبر الرئيس المصري أن حل القضية الفلسطينية سوف يكون إنجازا كبيرا لما لهذه القضية من تأثير كبير على منطقة الشرق الأوسط بحيث سوف تكون صفقة القرن بلا منازع. في كل هذا الكلام لا يوجد شيء خارج عن المألوف في الحديث عن القضية الفلسطينية وعملية السلام. لكن وسائل الإعلام التي أرادت إدانة أطراف معينة في الشرق الأوسط تلقفت المصطلح وسعت إلى إعطائه مضمونا مخالفا للسياق الذي ورد به. وراحت تقلب في كتب التاريخ من أجل بناء مضمون يتناسب مع الحرب الإعلامية التي تشنها. وجلبت أفكارا من الدوائر الصهيونية التي عملت من أجل أفكار يمكن أن تنقذ إسرائيل من استحقاقات عملية السلام واعتبرت أن تلك الأفكار تمثل صفقة القرن. قبل الحديث عن تلك الأفكار لا بد من الإشارة إلى محددات عملية السلام التي وضعها المغفور له الملك عبدالله في المبادرة العربية التي وافقت عليها كل الدول العربية وهي: انسحاب إسرائيل حتى خطوط الرابع من حزيران/ يونيو واعتبار القدس الشرقية عاصمة للدولة الفلسطينية وعودة اللاجئين وتفكيك المستوطنات.
من الأفكار التي يتم الترويج لها باعتبارها صفقة القرن أن تتخلى مصر عن جزء من شبه جزيرة سيناء من أجل إعطائه للشعب الفلسطيني! وهذه فكرة أقل ما يقال عنها إنها طوباوية، لأن مجرد الحديث عنها في مصر يعتبر من قبل الشعب المصري ونخبته السياسية جريمة نكراء فما بالك بالمرور إلى تنفيذ هذه الفكرة على أرض الواقع، ولكن هذه الفكرة ليست بدون أساس، حيث طرحت في الخمسينات والستينات من قبل دوائر إسرائيلية وصهيونية في الولايات المتحدة الأمريكية، ولكن سرعان ما تم التخلي عنها باعتبارها غير قابلة للتنفيذ، حتى عندما احتلت إسرائيل شبه جزيرة سيناء بعد حرب 1967، لم تعمد إلى تنفيذها. كذلك تطرح فكرة أن يكون الأردن وطنا بديلا للشعب الفلسطيني ولكن هذه الفكرة يرفضها الشعب الأردني والفلسطيني على حد سواء وهي مرفوضة جملة وتفصيلا من القيادة الأردنية، ولكن أيضا هذه الفكرة تم طرحها من قبل الدوائر الإسرائيلية خلال العقود الماضية. التخلي عن القدس الشرقية فكرة تنسب إلى صفقة القرن، والفلسطينيون والعرب عموما يعتبرون مدينة القدس لب الصراع وجوهره وبالتالي لا يخطر ببال أي أحد التخلي عن المدينة في إطار أي تسوية، ويمكن أن نلاحظ مئات التصريحات من مسؤولين ومفاوضين فلسطينيين يؤكدون التمسك بالقدس باعتبارها رمزا للشعب الفلسطيني، ولكن هذه الفكرة هي فكرة إسرائيلية وقد تم رفضها من العرب والفلسطينيين على حد سواء.
بالمعنى الذي أراده الرئيس المصري لمصطلح صفقة القرن باعتبارها عملية السلام فإن أطرافا كثيرة مشاركة في صفقة القرن، منها تركيا التي قامت بالوساطة بين حماس وإسرائيل وكذا قطر على لسان أحد دبلوماسييها (محمد العمادي)، أما بالمعنى الذي يتم الحديث عنه فهي ليست أكثر من نظرية مؤامرة ضعيفة ومهلهلة وحرب إعلامية بائسة تطيح بوسائل الإعلام التي تتبناها والتي تدعي المهنية والرصانة.
* كاتب عربي
ramialkhalife@
المثال الآخر الذي لا يقل وضوحا هو ما اصطلح على تسميته (صفقة القرن) التي أصبحت الحديث الدائم لوسائل إعلامية تشن حربا إعلامية ضد أطراف متعددة في المنطقة تعتبرها خصما أو عدوا سياسيا.
ظهر مصطلح صفقة القرن للمرة الأولى على لسان الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، في حديث له حول ضرورة الوصول إلى تسوية سياسية للقضية الفلسطينية والصراع العربي ــ الإسرائيلي، واعتبر الرئيس المصري أن حل القضية الفلسطينية سوف يكون إنجازا كبيرا لما لهذه القضية من تأثير كبير على منطقة الشرق الأوسط بحيث سوف تكون صفقة القرن بلا منازع. في كل هذا الكلام لا يوجد شيء خارج عن المألوف في الحديث عن القضية الفلسطينية وعملية السلام. لكن وسائل الإعلام التي أرادت إدانة أطراف معينة في الشرق الأوسط تلقفت المصطلح وسعت إلى إعطائه مضمونا مخالفا للسياق الذي ورد به. وراحت تقلب في كتب التاريخ من أجل بناء مضمون يتناسب مع الحرب الإعلامية التي تشنها. وجلبت أفكارا من الدوائر الصهيونية التي عملت من أجل أفكار يمكن أن تنقذ إسرائيل من استحقاقات عملية السلام واعتبرت أن تلك الأفكار تمثل صفقة القرن. قبل الحديث عن تلك الأفكار لا بد من الإشارة إلى محددات عملية السلام التي وضعها المغفور له الملك عبدالله في المبادرة العربية التي وافقت عليها كل الدول العربية وهي: انسحاب إسرائيل حتى خطوط الرابع من حزيران/ يونيو واعتبار القدس الشرقية عاصمة للدولة الفلسطينية وعودة اللاجئين وتفكيك المستوطنات.
من الأفكار التي يتم الترويج لها باعتبارها صفقة القرن أن تتخلى مصر عن جزء من شبه جزيرة سيناء من أجل إعطائه للشعب الفلسطيني! وهذه فكرة أقل ما يقال عنها إنها طوباوية، لأن مجرد الحديث عنها في مصر يعتبر من قبل الشعب المصري ونخبته السياسية جريمة نكراء فما بالك بالمرور إلى تنفيذ هذه الفكرة على أرض الواقع، ولكن هذه الفكرة ليست بدون أساس، حيث طرحت في الخمسينات والستينات من قبل دوائر إسرائيلية وصهيونية في الولايات المتحدة الأمريكية، ولكن سرعان ما تم التخلي عنها باعتبارها غير قابلة للتنفيذ، حتى عندما احتلت إسرائيل شبه جزيرة سيناء بعد حرب 1967، لم تعمد إلى تنفيذها. كذلك تطرح فكرة أن يكون الأردن وطنا بديلا للشعب الفلسطيني ولكن هذه الفكرة يرفضها الشعب الأردني والفلسطيني على حد سواء وهي مرفوضة جملة وتفصيلا من القيادة الأردنية، ولكن أيضا هذه الفكرة تم طرحها من قبل الدوائر الإسرائيلية خلال العقود الماضية. التخلي عن القدس الشرقية فكرة تنسب إلى صفقة القرن، والفلسطينيون والعرب عموما يعتبرون مدينة القدس لب الصراع وجوهره وبالتالي لا يخطر ببال أي أحد التخلي عن المدينة في إطار أي تسوية، ويمكن أن نلاحظ مئات التصريحات من مسؤولين ومفاوضين فلسطينيين يؤكدون التمسك بالقدس باعتبارها رمزا للشعب الفلسطيني، ولكن هذه الفكرة هي فكرة إسرائيلية وقد تم رفضها من العرب والفلسطينيين على حد سواء.
بالمعنى الذي أراده الرئيس المصري لمصطلح صفقة القرن باعتبارها عملية السلام فإن أطرافا كثيرة مشاركة في صفقة القرن، منها تركيا التي قامت بالوساطة بين حماس وإسرائيل وكذا قطر على لسان أحد دبلوماسييها (محمد العمادي)، أما بالمعنى الذي يتم الحديث عنه فهي ليست أكثر من نظرية مؤامرة ضعيفة ومهلهلة وحرب إعلامية بائسة تطيح بوسائل الإعلام التي تتبناها والتي تدعي المهنية والرصانة.
* كاتب عربي
ramialkhalife@