هناك توجه، على مستوى مجتمعات العالم، تجاه التحول الديموقراطي. إلا أنه لا يمكن القول، بثقة علمية رصينة، أن تطور الديموقراطية في مختلف مجتمعات عالم اليوم، تأخذ مساراً واحداً.. أو أنها تعكس تجانساً متقارباً بين حركة الديموقراطية وقيمها. الديموقراطية، لا تعدو كونها أداة ووسيلة لتحقيق غاية نبيلة تتجسد فيها قيمة حركة التاريخ ومنتهاها (تحقيق السيادة للإرادة العامة لتعكس الشرعية السياسية والأخلاقية لأنظمة الحكم المختلفة).
الملاحظ، أيضاً، في هذا السباق المحموم بين مجتمعات العالم، صوب الديموقراطية، أن هناك غلبة لحركة الديموقراطية وطقوسها، على قيمها وغاياتها النبيلة. في كثير من مجتمعات العالم الثالث، بل وحتى الثاني، بعد التخلص من تجربة الأنظمة الشيوعية، بانهيار الاتحاد السوفيتي والمعسكر الاشتراكي، يُلاحظ تركيزاً على طقوس الديموقراطية السلوكية، بعيداً عن الالتزام بقيمها وغاياتها في توكيد سيادة الشعوب.
الأسبوع الماضي، جرت انتخابات نيابية ومحلية في باكستان أتت بنخبة سياسية جديدة تحكم البلاد، بعد عشر سنوات متواصلة من احتكار حزب الجماعة الإسلامية وحزب الشعب للحياة السياسية المدنية. في باكستان: خلال فترات التجربة الديموقراطية المتقطعة، في العقود الثلاثة الأخيرة، بل ومنذ استقلال باكستان، تدخل العسكر في حكم البلاد.. ويبدو أن طموحهم للعودة للحكم لم يخبُ تماماً. قبل ذلك بشهر (26 يونيو الماضي)، أُجريت انتخابات رئاسية وتشريعية في تركيا، تحولت البلاد بموجبها من النظام البرلماني إلى الرئاسي. 10 مايو الماضي أُجريت انتخابات عامة في ماليزيا، أتت بنخبة سياسية، كانت قد تركت السلطة باختيارها، ثم عادت إليها بقرارٍ منها، بتشكيلة حزبية مختلفة تماماً عن نسختها التقليدية السابقة.
ثلاثة نماذج للتحول الديموقراطي، في مجتمعات إسلامية، تعكس تجربة سياسية واجتماعية وثقافية مختلفة عن الأخرى.. وإن عكست إرهاصات للتحول الديموقراطي بعيداً عن تجربتها غير الديموقراطية السابقة، التي تخللت بعضها أشكال من حكم العسكر، بخلفيته الشمولية السلطوية. كما عكست الحالة التقليدية في غلبة الجانب السلوكي في شكليات الديموقراطية وطقوسها، على الجانب القِيَمي لها، الأكثر أهمية، وإن كان بدرجات متفاوتة.
التجربة الماليزية تعكس وَلَه مجتمعات جنوب الكرة الأرضية، بالزعامات المتفردة، التي تتمتع بجاذبية سياسية (كارزماتية)، تعكس الجانب الثقافي، في هذه الشعوب، كمجتمعات أبوية تنظر بكثير من التبجيل والاحترام، وحتى الثقة، في نخبها السياسية التقليدية، مع القليل من الثقة في قدرتها (الجماعية) لتحمل مسؤولية التحول الديموقراطي. الغريب في التجربة الماليزية أنها لم تكتفِ بعودة نخب السلطة التقليدية للحكم، بل أتت معها بالمعارضة التقليدية لها! عودة التحالف بين مهاتير محمد وأنور إبراهيم (تحالف جبهة الأمل)، وإن فرضته الرغبة في هزيمة نجيب عبدالرزاق وحزبه (ائتلاف الجبهة الوطنية)، إلا أن هذا السلوك من المجتمع الماليزي، بعودة السلطة والمعارضة التقليدية للحكم من جديد، يعكس هذا التردد المتأصل في اللاوعي لدى الشعب الماليزي، بالخوف من السير (مجتمعياً) في الطريق الديموقراطي، لبلوغ غاية توكيد سيادته السياسية والأخلاقية.
في تركيا، من ناحية أخرى، عكست الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، الثقافة المتأصلة في ضمير الشعب التركي، التي لم تغب لمدة قرن من الزمان من الحكم العلماني. العودة للجذور «الامبراطورية» للحقبة العثمانية، ليس بالمجمل، تطور يعكس نزعة دينية مناوئة لتجربة الجمهورية «الأتاتوركية» العلمانية الأولى. النظام الرئاسي الجديد، هو في حقيقة الأمر، خليط بين النظام البرلماني والرئاسي، يضمن سيطرة مؤسسة الرئاسة على الحكم، مع الاحتفاظ بشكلٍ ما بصيغة الفصل بين السلطات. كما أن النظام الرئاسي الجديد في أنقرة، أبقى على النظام البرلماني، في حدود السلطة التشريعية (البرلمان)، بعيداً عن رقابة حقيقية وفاعلة على السلطة التنفيذية... مع نفوذ كبير، لمؤسسة الرئاسة، على السلطة القضائية. هذا مع غياب العامل الجغرافي عن البرلمان بتمثيل أقاليم البلاد المختلفة جغرافياً فيه، كما هو في حال تجربة الكونغرس الأمريكي، على سبيل المثال.
وإن كان «شبح» العسكر أضحى بعيداً عن التجربة الديموقراطية، في تركيا، إلا أن العسكر لم يغيبوا عن المشهد السياسي في باكستان، بعد. لعلّ نتيجة الانتخابات الباكستانية الأخيرة، كانت في حقيقة الأمر حلاً وسطاً للحؤول دون عودة العسكر للحكم، العدو الأول لحزب الجماعة الإسلامية وحزب الشعب الجمهوري، وربما التحول الديموقراطي. الاتهامات بتزوير الانتخابات.. وعدم الموافقة على تمديد فترة يوم الانتخابات، ومزاعم مساندة العسكر «الخفية» لحزب عمران خان (حركة الإنصاف)، كلها مؤشرات تدل على تعثر المسيرة الديموقراطية في باكستان.. أو على الأقل تخلفها نسبياً عن تلك التي تتطور في ماليزيا وتركيا.
مشكلة الديموقراطية في مجتمعات الجنوب، غلبة مظاهرها الشكلية، على قيمها والغاية النهائية لها. أمام شعوب العالم الآخر، خارج مجتمعات الديموقراطيات التقليدية العريقة في أوروبا الغربية وأمريكا الشمالية مع اليابان، مشوار طويل لتوازن مسيرة الديموقراطية فيها، لتأكيد سيادة الإرادة الشعبية كأهم وأول مصدر لشرعية أنظمتها السياسية.
* كاتب سعودي
الملاحظ، أيضاً، في هذا السباق المحموم بين مجتمعات العالم، صوب الديموقراطية، أن هناك غلبة لحركة الديموقراطية وطقوسها، على قيمها وغاياتها النبيلة. في كثير من مجتمعات العالم الثالث، بل وحتى الثاني، بعد التخلص من تجربة الأنظمة الشيوعية، بانهيار الاتحاد السوفيتي والمعسكر الاشتراكي، يُلاحظ تركيزاً على طقوس الديموقراطية السلوكية، بعيداً عن الالتزام بقيمها وغاياتها في توكيد سيادة الشعوب.
الأسبوع الماضي، جرت انتخابات نيابية ومحلية في باكستان أتت بنخبة سياسية جديدة تحكم البلاد، بعد عشر سنوات متواصلة من احتكار حزب الجماعة الإسلامية وحزب الشعب للحياة السياسية المدنية. في باكستان: خلال فترات التجربة الديموقراطية المتقطعة، في العقود الثلاثة الأخيرة، بل ومنذ استقلال باكستان، تدخل العسكر في حكم البلاد.. ويبدو أن طموحهم للعودة للحكم لم يخبُ تماماً. قبل ذلك بشهر (26 يونيو الماضي)، أُجريت انتخابات رئاسية وتشريعية في تركيا، تحولت البلاد بموجبها من النظام البرلماني إلى الرئاسي. 10 مايو الماضي أُجريت انتخابات عامة في ماليزيا، أتت بنخبة سياسية، كانت قد تركت السلطة باختيارها، ثم عادت إليها بقرارٍ منها، بتشكيلة حزبية مختلفة تماماً عن نسختها التقليدية السابقة.
ثلاثة نماذج للتحول الديموقراطي، في مجتمعات إسلامية، تعكس تجربة سياسية واجتماعية وثقافية مختلفة عن الأخرى.. وإن عكست إرهاصات للتحول الديموقراطي بعيداً عن تجربتها غير الديموقراطية السابقة، التي تخللت بعضها أشكال من حكم العسكر، بخلفيته الشمولية السلطوية. كما عكست الحالة التقليدية في غلبة الجانب السلوكي في شكليات الديموقراطية وطقوسها، على الجانب القِيَمي لها، الأكثر أهمية، وإن كان بدرجات متفاوتة.
التجربة الماليزية تعكس وَلَه مجتمعات جنوب الكرة الأرضية، بالزعامات المتفردة، التي تتمتع بجاذبية سياسية (كارزماتية)، تعكس الجانب الثقافي، في هذه الشعوب، كمجتمعات أبوية تنظر بكثير من التبجيل والاحترام، وحتى الثقة، في نخبها السياسية التقليدية، مع القليل من الثقة في قدرتها (الجماعية) لتحمل مسؤولية التحول الديموقراطي. الغريب في التجربة الماليزية أنها لم تكتفِ بعودة نخب السلطة التقليدية للحكم، بل أتت معها بالمعارضة التقليدية لها! عودة التحالف بين مهاتير محمد وأنور إبراهيم (تحالف جبهة الأمل)، وإن فرضته الرغبة في هزيمة نجيب عبدالرزاق وحزبه (ائتلاف الجبهة الوطنية)، إلا أن هذا السلوك من المجتمع الماليزي، بعودة السلطة والمعارضة التقليدية للحكم من جديد، يعكس هذا التردد المتأصل في اللاوعي لدى الشعب الماليزي، بالخوف من السير (مجتمعياً) في الطريق الديموقراطي، لبلوغ غاية توكيد سيادته السياسية والأخلاقية.
في تركيا، من ناحية أخرى، عكست الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، الثقافة المتأصلة في ضمير الشعب التركي، التي لم تغب لمدة قرن من الزمان من الحكم العلماني. العودة للجذور «الامبراطورية» للحقبة العثمانية، ليس بالمجمل، تطور يعكس نزعة دينية مناوئة لتجربة الجمهورية «الأتاتوركية» العلمانية الأولى. النظام الرئاسي الجديد، هو في حقيقة الأمر، خليط بين النظام البرلماني والرئاسي، يضمن سيطرة مؤسسة الرئاسة على الحكم، مع الاحتفاظ بشكلٍ ما بصيغة الفصل بين السلطات. كما أن النظام الرئاسي الجديد في أنقرة، أبقى على النظام البرلماني، في حدود السلطة التشريعية (البرلمان)، بعيداً عن رقابة حقيقية وفاعلة على السلطة التنفيذية... مع نفوذ كبير، لمؤسسة الرئاسة، على السلطة القضائية. هذا مع غياب العامل الجغرافي عن البرلمان بتمثيل أقاليم البلاد المختلفة جغرافياً فيه، كما هو في حال تجربة الكونغرس الأمريكي، على سبيل المثال.
وإن كان «شبح» العسكر أضحى بعيداً عن التجربة الديموقراطية، في تركيا، إلا أن العسكر لم يغيبوا عن المشهد السياسي في باكستان، بعد. لعلّ نتيجة الانتخابات الباكستانية الأخيرة، كانت في حقيقة الأمر حلاً وسطاً للحؤول دون عودة العسكر للحكم، العدو الأول لحزب الجماعة الإسلامية وحزب الشعب الجمهوري، وربما التحول الديموقراطي. الاتهامات بتزوير الانتخابات.. وعدم الموافقة على تمديد فترة يوم الانتخابات، ومزاعم مساندة العسكر «الخفية» لحزب عمران خان (حركة الإنصاف)، كلها مؤشرات تدل على تعثر المسيرة الديموقراطية في باكستان.. أو على الأقل تخلفها نسبياً عن تلك التي تتطور في ماليزيا وتركيا.
مشكلة الديموقراطية في مجتمعات الجنوب، غلبة مظاهرها الشكلية، على قيمها والغاية النهائية لها. أمام شعوب العالم الآخر، خارج مجتمعات الديموقراطيات التقليدية العريقة في أوروبا الغربية وأمريكا الشمالية مع اليابان، مشوار طويل لتوازن مسيرة الديموقراطية فيها، لتأكيد سيادة الإرادة الشعبية كأهم وأول مصدر لشرعية أنظمتها السياسية.
* كاتب سعودي