-A +A
محمود صباغ
بين أهالي جدة، وبلديتها تاريخ تفاعلي عريض.

ظهرت البلديات الحديثة في الفضاء العثماني بين أعوام 1860 و1870. ولكنها تأخرت في الظهور في بلادنا، كامتداد للسياسات العثمانية الموغلة في الإهمال والعنت تجاه الأقطار العربية.


وبعد حادثة الكوليرا التي داهمت ميناء جدة في 1865.. طالب التجّار والأعيان في مضبطة رفعوها للباب العالي بافتتاح بلدية في جدة.

أسس نوري أفندي، قائم مقام جدة، مكتباً.. شرع عبره في تنظيم العمران وتشريع الغرامات وترتيب هيكل عام للصحة والنظافة.

رمى نوري، وهو مغامر من الأرناؤوط الألبان عمل أولاً كاتباً على شونة مكة.. إلى ضرورة اقتران التنظيف بالإنشاءات الأساسية.

رفع الزبالة والمخلفات المتراكمة في أسواق جدة والطرقات العامة منذ مئات السنوات، وكبّها في البحر، ليستخدمها كردميات تتيح له توسيع رقعة الميناء من ضلعه الشمالي.

لقد أدرك أن توعك جدة، من انسداد مينائها.. شريان البندر الحيوي.

كانت الأسكلة، أو «الفرضة السلطانية» قد تدهورت تدهورا بالغا؛ إذ لم تدخلها أي إصلاحات منذ آخر بناء على زمن قانصوه الغوري.

استعار نوري نمطا جديدا بإشراك التجار والموظفين والأهالي، في مشروعه البلدي التوسعي.. كمصادر تمويل، وأيدٍ عاملة، حتى أن من كان يتورط في أي مشاجرة، يتم إرساله لقضاء عقوبته في أشغال ردم البحر.

وُسّع باب البوغاز، وهو مضيق الميناء من ناحية البحر، وعمّقت حفرته.. فصارت السفن على اختلاف أحجامها ترسو على صفحة الساحل.. واتسعت رقعة المرفأ الفوقية بأرصفة وساحات مناولة جديدة، حتى صار الميناء في عرضه وإتقانه «نظير ميناء الإسكندرية».

ولأول مرة يتغيّر الإيقاع الساكن منذ قرون.. وتقترب نغمة الإصلاحات من آثار الخديوي إسماعيل في البنط المصري.

أنشأ نوري أول مستشفى متكامل، وشمل التنظيف دواخل البلدة وخارجها فقضى على الروائح الآسنة، وردم مستنقع باب شريف مرتع الأمراض. وتأسست النورية -على اسمه- كسوق للقصّابين والخضرية، وأخضعها للرقابة. وسقّف الأسواق، لوقاية الناس من لسعات الشمس.. وهدم العشش من الدكاكين والمقاهي العشوائية، وأعيد ترتيبها على نمط الغورية والسكرية.

لقد مرر مشروعه البلدي الرائد بمزيج من السياسة والقوة القهرية.. وبتمويل ذاتي من رؤوس الأموال المحلية. حتى أنه منح لقب أمير أمراء في فرمان في أبريل 1867 نظير كفاءته في عدم تكبيد خزينة السلطة أي أعباء. لكن إمعانه في الضريبة والجباية، جعل الأهالي يضجون منه حتى تسببوا في عزله في مايو 1871.

ثم تأسست بلدية جدة مع مجلسها البلدي رسميا في 1873م.

كان ثاني رؤساها، الشيخ أحمد بن أحمد قمصاني، هو من سيبزّ صيته لهمّته في المقاصد العليا. لقد أشرف ببراعة على إنشاءات تجديد مصادر المياه، أو ما عرف بالعين الوزيرية التي مدّت جدة بالمياه العذبة بعد انقطاع عين فرج يسر والعين القوصية.. ولجوء الأهالي لمياه الصهاريج التي تصيب من يشربها بأمراض مزمنة.

لكنه ما لبث أن نُفي إلى الطائف ثم إلى دمياط في يونيو 1887م، بعد أن مكث خمس سنوات في رئاسة البلدية، لتوجس الشريف خيفة من مواهبه وهوامش شعبيته.

ثم قفزا إلى محطة قائم المقام الأفندي علي بك يُمني.. وهو مواطن من أصول أفريقية كانت له نظارة وقف الشيخ تاج في مكة. وقد عرفت فترته مطلع القرن العشرين، مستويات عالية من النظافة في جدة، بعد سلسلة من الأوبئة التي ضربت مفاصل الميناء في آخر القرن التاسع عشر، وكادت تشله.

وعلي بك صاحب ريادات في نظام التنظيف البلدي، إذ أشرك العبيد الزنوج والمساجين في لمّ قمامة البلدة ووضعها في عربات لليد، وأدخل الجِمال في خدمة رش المياه. وقد لاحظ ذلك الموظف الفرنسي بول جيلوت، المنتدب إلى جدة في 1905: «كانت دهشتي كبيرة؛ إذ وجدتها مدينة جميلة ونظيفة وخدمة الطرق فيها رائعة التنظيم».

ذلك التنظيم للخدمة الصحية سينهار بمغادرته عام 1907؛ ففي العام التالي انتقد الطبيب الفرنسي كاربونيل قذارة شوارع جدة: «تفوق قذارتها مخيلة الأوروبيين،»؛ إذ إنه «في الصباح ترمي كل البيوت أوساخها في الشارع، تتراكم المياه الآسنة وكل أنواع القمامة التي تتسرب إلى الأرض وتتخمر فيها». وقد كانت مرحلة فراغ سياسي تلت وفاة الشريف عون الرفيق وتفكك شبكته القابضة على الحكم.

ثم نقفز إلى محطة «صاحب المزايا» سليمان قابل، الذي صمم دائرة البلدية على أساس عصري ينسجم مع الأفكار الوطنية التي أعقبت الحرب العامة. جيّر قابل رصيد وجاهته في تهذيب النزعات التجارية الجشعة وتسوية الأزمات.. من تخفيض كراء الشقادف والعصمان، وتوفير الغاز بضمانات مالية إبّان أزمته المعروفة، إلى تنظيم تنويرات الحوائر، وجعل أجرة الفانوس بأسعار متهاودة.

لكن إسرافه في ممارسة النفوذ، جرّه إلى التدخل في انتخابات طوائف البحر، ومن ذلك سحبه عنوة لمشيخة عبدالهادي أبوصفية على رجال المعادي، وتسليمها لحسن بكر.

ثم قفزاً إلى المحطة الوسيطة عبدالله بحيري الذي سبقته سمعته في هيئة البلدية في قمع البائعين الجشعين وتنظيم أعمال الجزارة والخضرية والفرانة.. وكان له موقف مشهود، من أيام جدة الخالدة، أطاح فيه بطغيانهم المعهود. ثم لما تبوأ كرسي رئاسة البلدية، رفع مستوى العمران.. وأسس قسم الهندسة.. فكان أول من أحدث المجاري.. ابتداء من سوق الندى مما يلي مسجد الباشا.. حتى وصل إلى نصف سوق القماشين.. لكنه أخفق في إتمامها.

وهو أول من عدل خطة التنظيفات من العربات الخشبية ذوات الحمير والبغال إلى سيارات بمكائن تشفط الأوساخ وتنزح القاذورات، وأول من عمّم الصناديق في كافة الحارات لجمع القمائم. كما سعى لإضاءة الشوارع العامة بواسطة كهرباء أبو زنادة.. علاوة على تعميم الأتاريك في الأزقة الضيّقة.. وكان أول من احتضن مشروع مطافي جدة، وجلب معداتها الحديثة، لكنه سلّم قلمها لاحقا لمديرية الشرطة.

ثم أعقبه عمر باناجة، العمدة الجريء، الذي اتسم بالشفافية المفرطة مع الصحافة وأعضاء المجلس البلدي.

استلم باناجة مفتاح البلدية وهي تركة متهالكة وغير شعبية. دشن عهده بفصل موظفَين اتهما بالرشوة، لكن رخاوة الأنظمة أعادتهما.. حتى كتب محمد سعيد باعشن في الأضواء: «إنه لا يستطيع أن يعمل لوحده وحوله زبانية جهنم، أناس لا يعرفون في حياتهم إلا الإتاوة».

أراد باناجة تنمية واردات ذاتية للبلدية، في زمن تقشفها الخانق، حتى اهتدى إلى ضريبة 5% على العقار، فانتشل بها البلدية نسبيا من وهدتها السحيقة.

وكان أول من طرح تنظيفات المدينة في مناقصة في عام 1956، وبعد نجاحه، طوّر تجربتها مع المجلس البلدي برئاسة مشهور باعشن ونائبه محمد علي أبو داود في العام التالي، بتقسيم البلدة لأربع مناطق ترسو مقاولاتها على أربعة مقاولين مختلفين.

ونفّذ مشروع تسمية الشوارع وترقيمها وترقيم المنازل، في ريادة نوعية على مستوى المملكة، إثر اقتراح رفعه أحمد عبدالجبار، معاون رئيس مجلس الوزراء آنذاك.

وحاول طرح مناقصة الأوتوبيسات العامة.. وقذف بمشروع الكورنيش الجديد (كورنيش الأربعين) إلى النور، وبلور مناقصة إضاءة شوارع جدة العامة بالكهرباء.. لكن الموت خطفه بغتة إثر حادث سير أليم.

ومنه نقفز إلى محطة عبدالله القصبي، الذي صرّح للإذاعة أول تعيينه أن أولويته هي إضاءة جدة بالكهرباء.

جاء القصبي منتدبا من مصلحة الطرق لثلاثة أشهر، في أغسطس 1961، لكنه مكث ما يقارب الثلاث سنوات.. وعرفت جدة معه مظاهر الإنفاق الواسعة، ودبّت فيها ملامح الحداثة والنمو.

أرسى القصبي مشروع الإضاءة على شركة بيكار بما يقارب المليون ونصف المليون.. بعد ثلاث سنوات من تعثر المناقصة وتأرجحها، وسط هدير الصحافة وسخط الأهالي، كون تنوير جدة بالكهرباء تأخر كثيرا؛ إذ سبقتها مدن الرياض ومكة والمدينة وحتى ينبع.

لكن السمة الأبرز في عهده، كانت في جلبه روحا جديدة للبلدية، يصحبه عبدالرحمن مخلوف خبير هيئة الأمم للتخطيط، والمهندس عبدالكريم الغصين رئيس المكتب الفني بالبلدية.. توّجها الفريق بأفكار رائدة، منها اللجنة المركزية لفتح الشوارع الجديدة، التي افتتحت ميادين جديدة وشوارع محورية، كتوسيع شارع المطار، وشق الشارع الجديد (شارع الذهب).. الذي بات كالرئة للبلدة القديمة، لكنه خلّف خسائر فادحة في التراث العمراني.

وقامت البلدية في عهده بأول مسح جوي لعمل خريطة منظمة لمدينة جدة، بدأت جنوبا من 25 كيلو، وشمالا إلى 35 كيلو - وبعرض 65 كيلو.

كما اعتمدت تعميم سفلتة جميع الشوارع العامة، وربطت البلدة بالضواحي والنُزَل، كما جهزت دراسة وخرائط مجاري جدة وعرضتها للمناقصة الدولية.

وبدأت في ذلك العهد مشاريع التجميل، والتشجير الواسعة. وحظيت بلدية جدة أخيرا، بمرافق حيوية تناظر أمانة الرياض، من دار للبلدية وقاعة تتسع للآلاف.

لكن وصمة القصبي التي ستظل تلاحقه هي حلّه للمجلس البلدي المنتخب دون داع أو مسوّغ، بسبب نزاع نشأ بينه وبين المجلس برئاسة يوسف نصيف.

ومنه نقفز أخيرا إلى العمدة الأسطوري، طليعة أمناء جدة.. المهندس اللامع، محمد سعيد فارسي، الذي أحدث انقلابا كوبرنيكيا في خارطة المدينة وهيكل العمل البلدي ووعي الجمهور، ورافق توسعات المدينة وطفرتها العمرانية والسكانية العملاقة.. وكان صاحب ريادات إدارية وعمرانية لا تزال أصداؤها تتردد إلى يومنا.

تلخّصت فلسفة فارسي في قيم العمل الصارم، الإشراف المباشر والمتابعة المنهجية، الاستعداد المعرفي وبصيرة الاستشراف، والقدرة على تسويق الأفكار الريادية وضمان تمويلها، وأخيراً، لياقة -ومهارة- تخطي العقبات البيروقراطية الشاهقة، واجتراح الحلول غير التقليدية.

من عملية الردم الأكثر جرأة، حيث انبثق عنقاء الميناء الأحدث، إلى شق أطول كورنيش وفسحة فضاء عام للبلدة، وانتزاع الواجهة البحرية «بعد أن كانت جدة تدير ظهرها للبحر».. إلى تشييد أطول وأعقد، وأبهظ، الكباري الأفعوانية.. وإلى تخطيط أحياء فسيحة شمال البلدة استباقا لجرس الانفجار السكاني الكبير، إلى لجنة التنسيق، وحملة «تجميل»، ومبادرات إشراك الأهالي تحت شعار «فلنتعاون على جعل جدة أنظف».

وتركته هي أيضا موروث الشراسة في التعامل مع المخالفين والمتعنتين من طبقات الامتياز، وفرض الغرامات على الشركات الأجنبية المتعثرة والمخالِفة، وشجاعة المواجهة في أزمات الأوبئة عبر جولات ميدانية شخصية تطوي البؤر المأزومة.. وكفاحه البلدي في ترسيخ مبادئ الجمال والذوق، وإطلاق برامج التشجير والتجميل فوق-النوعية دون تحميل الموازنة العامة أعباء إضافية.

وكما عرف كرسي البلدية الشجيّ من رؤسائه، فإنه شهد على الخليّ من أصحاب الإرث المخدوش، والكسيف.. ممن قزّم بمحدوديته وأوهامه، جوهر المدينة وقوّض سحرها وفرّط في مواطن فتنتها.

فأي أثرٍ سوف يقتنصه صالح التركي، وأي إرث سوف يستعلن؟

* كاتب سعودي