-A +A
محمد الساعد
بعدما هدأت عاصفة «هاكاثون الحج» الفعالية الكبرى والاستثنائية التي استولت على الباب وعواطف واهتمام الإعلام الدولي قبل السعودي كونها حدثا نادرا تدفق عليه أكثر من ثلاثة آلاف متسابق وشهدها ملايين الشباب والمهتمين حول العالم عبر وسائل الإعلام والتواصل الحديثة، واستهدفت تقديم ابتكارات وبرمجيات تخدم الحج وتسهل على القادمين إليه مناسكهم وحياتهم خلال فترة قصيرة جدا وفي منطقة محدودة وضيقة وصعبة التضاريس في أربعة أو خمسة أيام، جاءت شعيرة الحج نفسها بكل ما فيها من أعمال هائلة وكثافة في المتابعة والاهتمام.

ملايين من التفاصيل التي لا يمكن رصدها أو حتى الحديث عنها تُنسى وتذهب «أدراج الرياح»، كما يقول المثل العربي، ولا نتذكرها إلا مع موسم العام القادم، ونبقى نردد نفس القصص وربما نفس الحكايات.


صحيح أن هناك الكثير من النجاحات الرائعة والصور المدهشة من البذل والتفاني والإيثار في الحج، لكنها تخفي وراءها - عن غير قصد - صورا أخرى وخدمات أكثر مؤسساتية ربما لو أتيح لها أن تخرج للعالم لكانت أكثر تأثيرا.

ومع ذلك تذهب سنة وراء أخرى دون أن نرصد أو ندون أو ننشر للعالم ما نفعله، فلا تلك اللقطات العابرة لسيارات الإسعاف ولا الصور التلفزيونية على جمالها قادرة على نقل كل ما قدم، ثم مع مغادرة آخر حاج نغلق الأبواب وننتظر حتى موعد الموسم الحج القادم.

كنت ولا زلت أقول إننا مقصرون في حق أنفسنا مع ما يبذل لخدمة الحج والحجاج، لماذا؟ فللأمر التالي:

كونها الفعالية التي تستنفر الدولة السعودية طاقاتها وميزانياتها كل عام في ظرف استثنائي لا يتكرر، مدته خمسة أيام وفي منطقة جغرافية محدودة وبتفاصيل دينية ملزمة متداخلة، وهناك أكثر من ثلاثة ملايين نسمة من حجاج ومقدمي خدمة يتشاركون نفس المساحات الضيقة ويقومون بنفس المناسك ويستخدمون نفس الخدمات، وعليك أن تدير ذلك كله دون أخطاء وبدرجة عالية من الدقة والأمان والتفاني والتميز، إلى جانب سكان مكة المقيمين والذين يزيدون على مليوني نسمة.

الفريد في هذا الحدث المقدس والذي يجب الالتفات إليه أن ملايين المسلمين القادمين كل عام يعودون لبلادهم وهم مليئون بمشاعر حب المكان وأهل المكان، وجاهزون لحمل الرسائل الإنسانية ليكونوا القوة الناعمة التي تدافع عمن خدم الشعيرة وخدمهم.

نحن في حاجة إلى أن تبقى هذه المشاعر المقدسة مفتوحة طوال العام تنظم إليها رحلات لكل من يزور المملكة ولكل المعتمرين وتكون جزءا من برنامجهم، فالسعودية تستهدف، كما تؤكد الرؤية وبرنامج التحول، أكثر من 30 مليون معتمر سنويا، وهذا رقم عظيم لو لامس مباشرةً ما يقدم، إن اقتصار رحلتهم على المسجد الحرام ثم العودة للفندق وأخيرا المطار فيه غبن لكل الجهود التي تبذل لخدمة المشاعر والمناسك.

عودة على فعالية «هاكاثون الحج»، لقد كانت فرصة أولى لكنها لافتة، أو لنقل خطوة صغيرة في طريق طويل انتبهنا له متأخرين ليقدم «الحج» ليس كشعيرة كبيرة ومهمة في الإسلام، بل كفعالية مركزية دينيا واقتصاديا وجماهيريا، يمكن أن يخرج منها ما يخدم العالم أجمع، وأن تتحول لمنصة سنوية لالتقاء الأفكار الخلاقة وموعدا للمبدعين والمبادرين والحدث الذي تنبت منه مئات المخترعات والابتكارات والمبادرات الإنسانية والاقتصادية والتقنية التي تسهم في تسهيل حياة الإنسانية جمعاء.

فالفتيات اللاتي فزن بمسابقة «الهاكاثون» وبرمجن قراءة اللوحات دون إنترنت لن يقف ابتكارهن عند حدود عرفات أو مزدلفة ومنى، بل هو منجز إنساني قدمنه باسم الحج ومن المملكة للعالم أجمع، فإنسان كوريا أو غينيا أو السويد يستطيع الاستفادة منه.

من هنا ومن هذه الفكرة الفريدة في أبعادها، يلزمنا أن يكون هناك طريق حج مواز ينطلق من الآية الكريمة «لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ»، يسير بجانب المناسك يخدمها ويسهلها لكنه أيضا طريق للمنافع وتحقيق الغاية الإنسانية للحج وهي الالتقاء والتعارف والاستفادة والتجارة بين شعوب العالم مسلمين وغير مسلمين.

* كاتب سعودي