نعم.. هناك «أبحاث علمية» تباع من أطراف تحترف كتابتها، لطرف، أو أطراف، «تشتريها» وتكتبها باسم المشتري، وتقدم على أنها من عمل وإنتاج «المشتري». وتنتهي صلة من عملها بمجرد قبضه «ثمن» البحث النقدي. هذا الموضوع ليس جديدا. ولكنه تضاعف وتصاعد أخيرا، في عالمنا العربي كله. ومن المحزن، والمؤسف والمخزي، أن هذه التجارة أصبحت رائجة، بل أكثر رواجا، حول كثير من الجامعات العربية، وحتى غير العربية، ومن ذلك جامعاتنا، أو بعضها، على الأقل. ومعروف أن أهم وظائف وواجبات الجامعة – أي جامعة – هي: التدريس، البحث العلمي، خدمة المجتمع. فالبحث العلمي يعتبر واجبا أساسيا من واجبات أي جامعة، وبدون قيام الجامعة برعاية وتقديم أبحاث مقبولة (من قبل أعضاء هيئة التدريس فيها) تكون مخرجاتها ناقصة وقاصرة؛ إذ يعتبر الإنتاج البحثي العلمي عنصرا أساسيا في تحديد مكانة الجامعة وقدرها، وترتيبها، بين الجامعات.
ومعروف أن البحث العلمي الرصين هو أساس وأصل أي تقدم حضاري يحرزه الإنسان، ويحققه نتيجة لما يتعلمه، ويتحصل عليه من علوم ومعارف. ويمكن القول: إن كل ما تحقق للإنسانية من رفاه وتقدم، في كل المجالات، إنما هو ثمرة للبحث العلمي البناء. فالبحث العلمي الرصين هو والد الحضارة البشرية الشرعي، وأساس ازدهارها ونموها وتطورها. وكل البلاد المتقدمة تدين في تقدمها لاهتمامها أولا بالأبحاث العلمية، ودعمها اللامحدود لهذه البحوث.
***
ولأهمية البحث العلمي، وضرورة التدرب على القيام به، أصبح على كل جامعة «واجب» تدريب طلابها عليه، وإكساب خريجيها مهارة عمل هذه البحوث، كل في مجال تخصصه. فالطالب الجامعي الخريج الذي لا يجيد كتابة بحث علمي في مجاله لا يمكن اعتباره جامعيا، طالما انعدمت فيه هذه القدرة. من هنا، يحرص معظم أساتذة الجامعات، في كل مكان، على مطالبة طلابهم، خاصة في المواد المتقدمة التي يدرسونها، بكتابة بحث علمي مصغر (Term Paper) وتقديمه كأحد متطلبات اجتياز المادة. وغالبا ما تخصص 10 – 20 درجة، من درجات المادة الـ100، لهذا البحث، بينما تخصص بقية العلامات للامتحانات المختلفة في ذات المادة.
***
هنا تحصل إشكاليات خطيرة عندنا، وفي أغلب جامعاتنا، تتمثل في وجود أشخاص ومكاتب يقومون بعمل أي بحث، لأي طالب، مقابل مبلغ مادي، يتراوح بين 200 – 500 ريال..؟! والعجيب أن معظم هؤلاء يتمركزون حول الجامعات، ويزاولون هذه التجارة بشكل شبه علني. وبحجة عمل «نسخ» و«طبع» لمن يرغب، يقومون، أو بعضهم، بكتابة أي بحث، من ألفه ليائه. ما على الطالب إلا أن يقدم عنوان البحث وموضوعه وحجمه، ثم يدفع الثمن، ويأتي بعد أيام لاستلامه جاهزا (وبمراجعه). يأخذ الطالب الـ«بحث» (الذي كثيرا ما يكون قد عُمل نسخا ولصقا، وتكرر بيعه مرات، لا يغير في كل مرة سوى الغلاف واسم الطالب واسم أستاذه) ليسلمه إلى الأستاذ الذي طلبه، ويقوم الأستاذ بإعطائه درجة عليه، بموجب توزيع الدرجات الـ100 المعتمد، إن «صدق» أن الطالب نفسه قد عمله. وكثيرا ما لا يحاول الأساتذة التأكد فيما إذا كان الطالب قد عمل البحث بنفسه، أو عُمل له.
هذا يذكرني ببعض مدرسي (أو مدرسات) مادة التربية الفنية في بعض المدارس المتوسطة، الذين يطلبون من طلابهم رسومات معينة. فتعمل هذه الرسومات لدى رسامين وخطاطين محترفين مقابل أثمان معينة، وتكتب عليها أسماء الطلاب، كأنهم من عملها، ويعطون عليها درجات..!
هنا نلاحظ وجود تجاوزات خطيرة للأمانة ولأهداف وأصول العلم والتحصيل، إن لم نقل جرما مشهودا. فالطالب قد «خدع» أستاذه، ومن كتب البحث قد أجرم في حق التعليم، وفي حق الطالب المعني. أما «الأستاذ» فإنه لم يقم بواجبه بأمانة عندما لم يكترث بالتأكد من عامل البحث، وأعطى درجة غير مستحقة لطالب غشه، وغش نفسه ومجتمعه. والنتيجة أن تصبح بعض مخرجات التعليم سيئة وضعيفة، ويتخرج شباب لا يعرف ألف باء البحث العلمي.
***
تفاقمت هذه الظاهرة، رغم حظرها نظاميا، ووصلت منذ زمن طويل نسبيا، لكتابة الرسائل العلمية للدراسات العليا. فالماجستير يكلف 10 – 20 ألف ريال، والدكتوراه بمبلغ أكبر قليلا..! أوشكنا أن نصبح مجتمع شهادات، وحسب. إن هذه الظاهرة تعتبر في حد ذاتها، وفيما ينتج عنها من تداعيات، تجاوزا خطيرا يحمل ضررا فادحا على البلاد والعباد، ما لم يوضع حد حاسم لها، ويتم تقليصها إلى أدنى حد. ربما يستحيل القضاء عليها تماما، ولكن لا تصعب محاصرتها، وتقليصها. ولا شك أن لهذه الظاهرة أسبابا عدة، وأن المسؤولين عن حدوثها هم أيضا عدة أطراف، بدءا من أستاذ المادة، خاصة ذلك الذي يقبل «البحث»، ويعطي مقدمه درجة عليه دون التأكد من أنه هو الذي عمله.
أما الذين يقومون بكتابة وبيع هذه «البحوث»، فيجب أن يرغموا، بكل الوسائل الممكنة والمشروعة، على الكف عن هذا التجاوز، ويبحثوا عن سبل أخرى للارتزاق المشروع. وأرى ألّا يكلف أي أستاذ طلابه بعمل أبحاث إلا إن ضمن قيامهم هم (لا غيرهم) بها. وفي كل الأحوال، أعتقد أن الوقت قد حان لتقوم الجهات المعنية في بلادنا، وفي مقدمتها وزارة التعليم والجامعات بدراسة هذه الظاهرة البالغة السلبية والضرر، والمسارعة باتخاذ الإجراءات الكفيلة بوقفها، حرصا على جودة مخرجات التعليم، والحيلولة دون استمرار العوامل المدمرة، التي تسهم في ضعف وتدني مستوى التعليم في بلادنا العزيزة.
* كاتب سعودي
ومعروف أن البحث العلمي الرصين هو أساس وأصل أي تقدم حضاري يحرزه الإنسان، ويحققه نتيجة لما يتعلمه، ويتحصل عليه من علوم ومعارف. ويمكن القول: إن كل ما تحقق للإنسانية من رفاه وتقدم، في كل المجالات، إنما هو ثمرة للبحث العلمي البناء. فالبحث العلمي الرصين هو والد الحضارة البشرية الشرعي، وأساس ازدهارها ونموها وتطورها. وكل البلاد المتقدمة تدين في تقدمها لاهتمامها أولا بالأبحاث العلمية، ودعمها اللامحدود لهذه البحوث.
***
ولأهمية البحث العلمي، وضرورة التدرب على القيام به، أصبح على كل جامعة «واجب» تدريب طلابها عليه، وإكساب خريجيها مهارة عمل هذه البحوث، كل في مجال تخصصه. فالطالب الجامعي الخريج الذي لا يجيد كتابة بحث علمي في مجاله لا يمكن اعتباره جامعيا، طالما انعدمت فيه هذه القدرة. من هنا، يحرص معظم أساتذة الجامعات، في كل مكان، على مطالبة طلابهم، خاصة في المواد المتقدمة التي يدرسونها، بكتابة بحث علمي مصغر (Term Paper) وتقديمه كأحد متطلبات اجتياز المادة. وغالبا ما تخصص 10 – 20 درجة، من درجات المادة الـ100، لهذا البحث، بينما تخصص بقية العلامات للامتحانات المختلفة في ذات المادة.
***
هنا تحصل إشكاليات خطيرة عندنا، وفي أغلب جامعاتنا، تتمثل في وجود أشخاص ومكاتب يقومون بعمل أي بحث، لأي طالب، مقابل مبلغ مادي، يتراوح بين 200 – 500 ريال..؟! والعجيب أن معظم هؤلاء يتمركزون حول الجامعات، ويزاولون هذه التجارة بشكل شبه علني. وبحجة عمل «نسخ» و«طبع» لمن يرغب، يقومون، أو بعضهم، بكتابة أي بحث، من ألفه ليائه. ما على الطالب إلا أن يقدم عنوان البحث وموضوعه وحجمه، ثم يدفع الثمن، ويأتي بعد أيام لاستلامه جاهزا (وبمراجعه). يأخذ الطالب الـ«بحث» (الذي كثيرا ما يكون قد عُمل نسخا ولصقا، وتكرر بيعه مرات، لا يغير في كل مرة سوى الغلاف واسم الطالب واسم أستاذه) ليسلمه إلى الأستاذ الذي طلبه، ويقوم الأستاذ بإعطائه درجة عليه، بموجب توزيع الدرجات الـ100 المعتمد، إن «صدق» أن الطالب نفسه قد عمله. وكثيرا ما لا يحاول الأساتذة التأكد فيما إذا كان الطالب قد عمل البحث بنفسه، أو عُمل له.
هذا يذكرني ببعض مدرسي (أو مدرسات) مادة التربية الفنية في بعض المدارس المتوسطة، الذين يطلبون من طلابهم رسومات معينة. فتعمل هذه الرسومات لدى رسامين وخطاطين محترفين مقابل أثمان معينة، وتكتب عليها أسماء الطلاب، كأنهم من عملها، ويعطون عليها درجات..!
هنا نلاحظ وجود تجاوزات خطيرة للأمانة ولأهداف وأصول العلم والتحصيل، إن لم نقل جرما مشهودا. فالطالب قد «خدع» أستاذه، ومن كتب البحث قد أجرم في حق التعليم، وفي حق الطالب المعني. أما «الأستاذ» فإنه لم يقم بواجبه بأمانة عندما لم يكترث بالتأكد من عامل البحث، وأعطى درجة غير مستحقة لطالب غشه، وغش نفسه ومجتمعه. والنتيجة أن تصبح بعض مخرجات التعليم سيئة وضعيفة، ويتخرج شباب لا يعرف ألف باء البحث العلمي.
***
تفاقمت هذه الظاهرة، رغم حظرها نظاميا، ووصلت منذ زمن طويل نسبيا، لكتابة الرسائل العلمية للدراسات العليا. فالماجستير يكلف 10 – 20 ألف ريال، والدكتوراه بمبلغ أكبر قليلا..! أوشكنا أن نصبح مجتمع شهادات، وحسب. إن هذه الظاهرة تعتبر في حد ذاتها، وفيما ينتج عنها من تداعيات، تجاوزا خطيرا يحمل ضررا فادحا على البلاد والعباد، ما لم يوضع حد حاسم لها، ويتم تقليصها إلى أدنى حد. ربما يستحيل القضاء عليها تماما، ولكن لا تصعب محاصرتها، وتقليصها. ولا شك أن لهذه الظاهرة أسبابا عدة، وأن المسؤولين عن حدوثها هم أيضا عدة أطراف، بدءا من أستاذ المادة، خاصة ذلك الذي يقبل «البحث»، ويعطي مقدمه درجة عليه دون التأكد من أنه هو الذي عمله.
أما الذين يقومون بكتابة وبيع هذه «البحوث»، فيجب أن يرغموا، بكل الوسائل الممكنة والمشروعة، على الكف عن هذا التجاوز، ويبحثوا عن سبل أخرى للارتزاق المشروع. وأرى ألّا يكلف أي أستاذ طلابه بعمل أبحاث إلا إن ضمن قيامهم هم (لا غيرهم) بها. وفي كل الأحوال، أعتقد أن الوقت قد حان لتقوم الجهات المعنية في بلادنا، وفي مقدمتها وزارة التعليم والجامعات بدراسة هذه الظاهرة البالغة السلبية والضرر، والمسارعة باتخاذ الإجراءات الكفيلة بوقفها، حرصا على جودة مخرجات التعليم، والحيلولة دون استمرار العوامل المدمرة، التي تسهم في ضعف وتدني مستوى التعليم في بلادنا العزيزة.
* كاتب سعودي